الدعوة قدوة : لماذا نستعيد الشيخ عبد الرحمن السعدي ؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزيرة س/ (1) ** نقل (الشيخ محمد أبو زهرة) في كتابه عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمهما الله - قول بعض العلماء:

* (لو قال رجلٌ: إن أحمد بن حنبل من أهل الجنة ما عُنِّف في ذلك، ذلك أنه لو قصد خراسان ونواحيها لقالوا: إن ابن حنبل رجلٌ صالح، وكذلك: لو قصد العراق ونواحيها لقالوا: ابن حنبل رجل صالح، وكذلك لو قصد الشام ونواحيها لقالوا: إن ابن حنبل رجل صالح، فهذا إجماع، وهو قول فقيه مُحَدِّث معاصر لأحمد يرى إجماع الأقطار الإسلامية المتنائية على أن الإمام رجل صالح، وبه تقوم الحجة على صلاح هذا الرجل.. ).. !

** روى ذلك الدكتور محمد رجب البيٌّومي لتبقى ألسنة الخلق أعلامَ الحق، وبمثل هذا تتجدد صورةٌ أخرى لإمام لم يَعِش مجايلونا زمنه، لكنهم عايشوا سيرتَه، ووعوا مسيرته، ورأوا كيف يسمق فكرُه ويتجددُ ذكرُهُ.. !

(2)

** قبل أكثر من ستين عاماً (1360هـ) تسامعَ الناسُ في (عنيزة) عن عمليات غزو الفضاء ومحاولات الهبوط على سطح القمر قبل أن يتم ذلك فعلياً بحوالي ثلاثين عاماً.. فلجأوا مستفهمين وربما مستنكرين إلى (الشيخ عبد الرحمن السعدي) (1307 - 1376هـ)، وأجابهم الشيخ من فوره أن ذلك ممكن بواسطة آلة ترفعُهُم إلى القمر أو أي سلطان آخر.. !

** روى ذلك ابنُه الشيخ (محمد العبد الرحمن السعدي)، وأشار إلى أن الشيخ عبد العزيز التويجري قد استعاد الحكاية عام 1418هـ في فندق (بريزدنت) بسويسرا بحضور أحد أعضاء الكونغرس الأمريكي الذي عجب من شيخ نجدي اقتنع قبل الحدث بما لم يقتنع به بعض الأمريكيين بعده.. !

 

** اتَّسع أفق الشيخ عبد الرحمن -غفر الله له- لتصور هذه النقلة العلمية الهائلة في وسط شبه أمِّي يعيشُ دون وسائط اتصال، بل لم يكن في (عنيزة) كلها وقت هذه الحادثة التي تتزامن مع الحرب العالمية الثانية سوى جهاز (راديو) -لعله الوحيدُ حينها- لدى (الوجيه عبد الرحمن المقبل الذكير)º إذ يجتمع الناس في مجلسه وعند بابه لمتابعة أخبار الحرب، وكان شيخُنا أبو عبد الله -كما يرى ابنه- يتوقف بعد صلاة العشاء أمام باب (الذكير) لمتابعة آخر الأخبار.. !

(3)

** حكايةٌ ضمن حكاياتٍ, أوردها ابن الشيخ في مسودة سمَّاها (مواقف من حياة الشيخ الوالد عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي) لا تزال في تجربتها الأولى، ويُنتظر اكتمالُها لاحقاً بعد إضافةِ مواقف أخرى لم تروِها الكتب وإن ذاع بعضُها لدى الناس.. !

** وإذا وعَينا ظروف المكان والزمان التي جعلت هذا العلامة الإمام يتجاوزُهما فإننا سنزدادُ إيماناً بقيمته العلمية والفكرية والاجتماعية، وخاصة إذا تذكرنا أن آخرين إلى وقت قريب يُنكرون مسألة النزول على القمر، وقد روى الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه (الثقافة التلفزيونية) نقلاً عن مقالة للأستاذ منصور النقيدان نُشرت في صحيفة الوطن في أواخر عام 2001م حكاية الشيخ عبد الكريم الذي قال: إن الأمريكيين وقعوا ضحية لخدعة ماكرة من إبليسº حيث انتفخ في الفضاء فبدا مثل كوكب سابح يشبه القمر، وقد تربص لرواد الفضاء لكي يخدعهم، فهبطت المركبة على ظهره وصدق الأمريكيون هذا الوهم (ص29-31).. !

** بمثل هذا الوعي (الذي يمتد ليشمل رؤيته لنقل الأعضاء والتبرع بالدم وإدخال التقنيات الحديثة كالبرقية في وقته وسواها) عاد الشيخ الإمام عبد الرحمن السعدي إلى الواجهة رمزاً نادراً جمع العمق الشرعي والانفتاح الثقافي والسلوك المثالي.. فعاش معنا اليوم وكأنه لم يرحل عنا منذ قرابةِ نصف قرن.. !

(4)

** اشترى الشيخ حمولةَ حطب جاء بها صاحب (الجمل) إلى البيت، وعند خروجه -بعد إنزال الحمولة- وجد الشيخ (علبة دخان) في الأرض فنادى (الجمَّال) وقال: أهذه لك؟ قال: نعم، قال الشيخ: خذها؟ فرد الجمَّال: أوتعرف ما فيها يا شيخ؟ قال: نعم.. (دخان)! قال: وتعطيني إياها؟ قال: نعمº لأنك إذا لم تجدها فسوف تشتري بقيمة الحطب بديلاً لها، وستكون على حساب قوت أولادك، والهادي هو الله - سبحانه -، فقال الجمَّال: بسم الله، ونثر ما في العلبة من (التبغ) و(الورق) وأعلن أمام الشيخ تركه التدخين.. !

** هل تحتاج الحكايةُ إلى تعليق.. ؟ ليتنا نقارن فقط بين ما كان عليه الشيخ أمس وما نحن عليه اليوم.. لندرك أننا نسيرُ إلى الخلف.. !

** وأكثر من هذا فقد كان يعرف أن في أصدقاء ابنه محمد مَن يدخِّن، ويتحاشى ابنه إحضارَهم تحرٌّجاً واحتراماً، والشيخ يدرك ذلك فيلزمُه بدعوتهم، بل إنه - رحمه الله - اشترى -وهو محدود الإمكانات- منزلاً صغيراً بجوار بيتهم، وفرشه وفتح عليه باباً، ووضع فيه أدوات القهوة والشاي، وقال لابنه: (مالك عذر فادعُ جميع أصحابك).. !

(5)

** قصص الشيخ خيالية بمعيار وقتنا، فلم يضق ممن سمعهُ يغنِّي، بل إنه مرَّ على مجموعة من (البنائين) وهم يغنون، فلما رأوه سكتوا بإشارة من أحدهم، فسلَّم عليهم الشيخ ودعا لهم بالقوة والعافية، وقال: لم لا تغنون.. ؟ ولماذا سكتٌّم.. ؟ (ترى الغناء ينشطكم ويختصر عليكم الوقت.. ؟).

** وهكذا فعل مع أحد شباب عنيزة حين دخل على مجلس فيه الشيخ دون أن يدري عن وجوده، وكان يغني بصوت عالٍ, بإحدى الأغنيات المنتشرة حينها، فقال الشيخ ضاحكاً: (أثرك هواوي) (أي صاحب طرب وهوى).. ولم ينكر عليه أو يقُم بلومه.. !

** وكان الشيخ حين يسافر يضع (العقال) فوق شماغه دون تحرٌّج، وهو ما لا يزال بعض الناس يستغربون ارتداءه من علماء الدين، وبحث عن ابنه محمد كي يجعله يرى البنت التي خطبها له، ويتابع علم الجغرافيا الذي تحفظ بعض العلماء عنهº لأنه يدرس كروية الأرض، وحين سافر إلى دمشق من لبنان لمدة يوم واحد زار قبر شيخ الإسلام ابن تيمية ودعا له، وتم تصويره فوتوغرافياً وسينمائياً، وأعجب بعالم النفس الأمريكي (ديل كارنيجي)، وأفاد من كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) في تأليف كتابه المميَّز (الوسائل المفيدة في الحياة السعيدة)، وأهدى نسخة من كتاب كارنيجي لصديق يشكو من مرض نفسي، ووضع نسخة أخرى في مكتبة عنيزة العامة.. !

(6)

** الحكايات التي ضمَّتها مسودة المواقف للشيخ محمد العبد الرحمن السعدي كثيرة..

فلعلَّها تصدر -بعد إضافة حكايات أخرى- في كتاب يقرؤه الجميع، ليتوجه صاحبكم بالشكر للشيخ محمد وابن أخته الأخ مساعد العبد الله السعدي الذي قام بكتابة الحكايات ومراجعتها ووضع في مقدمتها عبارة سبق أن كتبها صاحبكم (الجزيرة 15-11- 1424هـ)، وقال فيها:

* (لو اختصرت سيرة الشيخ لقيل عنه: علم وعمل، فأنارت سيرته ورويت مسيرته.. ينقلها الأجداد للأحفاد وتسعد بها البلاد والعباد.. )

** وفيها كتب: (تعامل مع الواقع، وتفهم النوازع والدوافع، فاتصل به المحسن والمسيئ، لم يخشه مُقصر، ولم يظهر من تلاميذه مكفر أو مفجر.. !).

**لم ينفصل الشيخ عن هموم الأمة، وكانت له مواقفه وخطبه، وعند (العدوان الثلاثي) لم يحبط معنويات المقاومة -وهي تواجه القوة والتفوق والسيطرة- فلم يقارن الأعداد والعدد، ولم يُثبِّط عن (جهاد الدفع) منتظراً النصر عبر (أُعطية) أو (أغنية).. !

** لن يقدَّر لنا في مقال مثل هذا أن نستفيض في الحديث عن هذا العلامة الإمام الذي ألَّف أكثر من خمسة وستين كتاباً وزعت في كل أنحاء العالم، وترجمت إلى عدد من اللغات، وجمعت في أسطوانات حاسوبية مدمجة، فالأهم هو أن نتأمل في حياته وعطائهº فقد ظل رمزاً وافق فعلُه قولَه، وصدَّق سلوكُه دعوتَه، فلعلنا نستفيد.. !

(7)

** يروى عن الشاعر الهندي طاغور (1890 - 1941م) هذه الأبيات: لماذا انطفأ المصباح؟ لقد أحطتُهُ بردائي لأجعله في مأمن من الريح..

لماذا ذبلت الوردة؟ لقد ضمَمتُها إلى صدري في لهفة وقلق..

لماذا جفَّ النهر؟ لقد أقمتُ دونه سداً ليخدمني وحدي..

لماذا انكسر وتر العود؟ لأني أردتُ إجباره على عزف نغمة عالية.. !

** هكذا يصنعُ الحبٌّ بنا، فلا أحد يكره الوردة والنور والنهر والجمال..ولكن: كم من موقفٍ, تراجعي/ عكسي ينطلق به صاحبه من اجتهاد وغيرة وحرص يُعيدنا إلى العتمة ويئدُ فينا التطلع..فمن الحب ما قتل.. !

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply