بسم الله الرحمن الرحيم
في هذه اللحظات العصيبة من تاريخ أمتنا المسلمة، حيث أخذت تتدَفَّق وسائل التغريب من حداثة وعلمانيّة لتلحَّ بقطع صلتنا بتراثنا الخالد، وحيث أصبح لعمليّة التغريب جنود منا يدعون بدعوتها، ويُدَوٌّون بصراخها، في هذه اللحظات تطلع إشراقة هذا العمل الكريم: \" من ذخائر التراث الإسلامي \" في سِفر جليل يكتبه هذا العالم العَلَم والأديب الكبير، الباحث المحقّق، الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، ليضاف هذا الكتاب إلى ذلك العطاء الغنيّ والإبداع النديّ من مؤلفاته وتحقيقاته ومقالاته، في عطاء يقارب ستمائة كتاب بين تأليف وتحقيق كما ذكر، على مدى خمسة وسبعين عاماً في جهاده العلمي والأدبي في ميادين متعدّدة، فأبدع في كل ميدان، وأجاد في كل عطاء، حتى اجتمع ذلك عطاءً ثرّاً ونهجاً وتميّزاً.
ولد الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي في \" تلبانة \" من قرى مركز المنصورة بمحافظة الدهقلية في العاشر من شهر رمضان المبارك سنة 1333هـ الموافق 22 يوليو (حزيران) 1915م. حصل على شهادة الليسانس من كلية اللغة العربيّة بجامعة الأزهر سنة 1940م، وعلى التمهيدية لشهادة الأستاذية سنة 1944م، ثم نال الشهادة \" العالمية \"، أستاذ دكتوراه في الأدب والنقد سنة 1946م برسالته عن الشاعر الناقد الخليفة العباسي \" ابن المعتز \".
وانطلق الدكتور خفاجي انطلاقة مباركة في ميادين العطاء: فمن مدرّس للغة الفرنسية، إِلى مدرّس في كلية اللغة العربيّة في جامعة الأزهر، حتى أصبح رئيساً لقسم الأدب والنقد في الكلية نفسها، ثم عميداً لكلية اللغة العربيّة، وعضواً في المجلس الأعلى للأزهر وفي مجلس جامعة الأزهر.
وأصبح عضواً في لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب، ونائباً لرئيس رابطة الأدب الحديث، ثمَّ رئيساً لها، ثمّ أستاذاً مُتَفَرَّغاً بجامعة الأزهر، وأستاذاً زائراً في كليّة الآداب في جامعة الخرطوم السودانية، وعضواً في مجلس اتحاد الكتاب وخبيراً في مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة.
وقد أسهم في مشروعات فكريّة وأدبيّة وثقافية كثيرة: فقد اشترك في إعداد تفسير القرآن الكريم الذي نشره مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، وساهم في مهرجانات شعريّة وأدبيّة وفكريّة في عدد من البلاد العربيّة، وساهم في مهرجانات في ذكرى أعلام التاريخ والفكر والأدب، وشارك في كثير من المؤتمرات قي أنحاء مختلفة من العالم.
وعلى أثر هذه الجهود المباركة، فقد نال أوسمة وجوائز تقديرية: فقد نال وسام العلوم والفنون والآداب من الطبقة الأولى، ونال الجائزة التقديرية للثقافة العربيّة، الجائزة التي رشّحته لها رابطة الأدب الحديث. ورابطة الأدب الحديث هي أقدم رابطة أدبيّة وثقافية في العالم العربي، وأشرف على رسائل كثيرة للماجستير والدكتوراه، وربّى أجيالاً كثيرة، وكتبه تدرّس في عدد من الجامعات العربيّة.
أما كتبه في التحقيق فكثيرة جداً نذكر منها: الإيضاح في البلاغة للقزويني، المنتخب في الدين، ديوان الشافعي، سرّ الفصاحة للأمير ابن سنان الخفاجي، البديع لابن المعتز، قطر الندى في النحو، فحولة الشعراء للأصمعي، توضيح الباجوري في الفقه، أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، المغني لابن قدامة، وكتب أخرى كثيرة.
وأما مؤلفاته فممتدّة في شتّى ميادين الفكر الإسلامي والأدب والنقد، فمنها: الإسلام وحقوق الإنسان، الإسلام دين الإنسانية الخالد، موكب النبوّة، بين الشيوعية والإسلام، شرح عدة سور من كتاب الله الكريم، الردّ على المشركين والملحدين والماديين وأعداء الإسلام في أربعة كتب، الإسلام ونظريته الاقتصادية، وله كتب في التصوّف وفي فكره وأدبه، وله سلسلة واسعة للتراجم والنصوص والأعلام، وله موسوعة النقد والبلاغة، وموسوعة الأعلام، ومدارس النقد، وموسوعة تاريخ الأدب العربي، وكتب أدبيّة وعلمية. وله كتب تاريخية عن بني خفاجة، وعن الأزهر في ألف عام، وله كتب في الشعر عن بناء القصيدة، وعن فن الشعر، والعروض والقوافي، وعن موسيقى الشعر وميزانه. وتبلغ دواوينه الشعرية سبعة عشر ديواناً.
وقد قدّم لعدد من المؤلفات والدواوين لكتّاب وشعراء عديدين، وخاض ميادين كثيرة أبدع فيها وأجاد، حتى إن سيرة هذا العالم لتحتاج إلى كتاب كامل ليوفي حقّه، ولكننا نعطي في هذه الكلمة لمحة سريعة على قدر ما يقتضيه الحال.
في هذا الكتاب الجديد له: \" من ذخائر التراث الإسلامي \" يبيّن لنا المؤلف في \" إضاءة \"، في أول الكتاب، أهميّة التراث من أسلافنا الخالدين، ومن روّاد الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية في مراكزها العظيمة من حواضر العالم الإسلامي. ويقدّم تعريفاً للتراث وزمنه يختلف عن التعريف المتداول، فيمتدٌّ التراث عنده ليشمل آثار الأعلام القريبين من أمثال البارودي وشوقي وحافظ والعقاد وغيرهم. ويبين في هذه الإضاءة أهمية هذا التراث الممتد الخالد في أنه حَمَل أعظم رسالة وأرفع حضارة وأمجد ثقافة في تاريخ البشرية كلها! إِنَّه تراث الأمة المسلمة كلها، الأمة المسلمة التي امتزجت شعوبها في هذا الدين العظيم والدين القيّم الذي نفى عنها العصبيات الجاهلية، وآخى بينها في لُحمة قويّة من الإيمان والتوحيد، وعروة وثيقة من أخوّة الإيمان، وحبلٍ, متين من اليقين والإسلام.
ويستشهد على أهمية التراث، ليس بما نراه نحن المسلمين فحسب، ولكن بأقوال رجـال من الغرب عرفوا خطورة التراث وأهميته، من مثل أقوال \" جوته\" و \" لا نسون \" و \" إليوت \"! وإن كان هناك فرق كبير بين تراث وتراث. وينعى على الحداثيين نزعتهم إلى قطع الصلة بالماضي. ولكننا نؤكد في هذه المناسبة أن جهود هؤلاء مهما اشتدت وغُذِّيَت فإنها سائرة إلى الزوال، لأن تراث الأمة المسلمة نابع ومرتبط بالقرآن الكريم الذي تعهد الله بحفظه.
ولشدّة حرص المؤلف على التراث يختم كلمته هذه بإحدى عشرة وصيّة لحماية التراث والعناية به. وهي وصايا جليلة تستحق التقدير والتنفيذ.
ثمّ يأتي الكتاب في أربعة أبواب كبيرة بعد الإضاءة. وكل باب يشمل عدة فصول مرتبطة بموضوع الكتاب:
ـ الباب الأول: عن القرآن الكريم.
ـ الباب الثاني: عن محمد - صلى الله عليه وسلم- والصحابة - رضي الله عنهم -.
ـ الباب الثالث: عن الدين.
ـ الباب الرابع: صوت التاريخ.
وهذه الأبواب وموضوعاتها متسلسلة مترابطة فيما بينها ترسم حقيقة معنى التراث ومنبعه ومسيرته، وتعطي الصورة المشرقة لمعنى الكتاب ونهجه وغايته، ابتداءً من الباب الأول: \" عن القرآن الكريم \" حتى الباب الرابع \" صوت التاريخ \" حتى كأن التراث مسيرة أمّة وحياة رسالة.
ونلاحظ كذلك أن محور الكتاب كلَّه هو الإسلام، الدين الخالد، دين العرب وجميع الشعوب التي دخلت الإسلام، حتى أصبح لا فضل لعربيٍّ, على عجميٍّ, إلا بالتقوى، في أعلى صورة لمعاني الإنسانيّة الصادقة وأصدقها، وإنّك لن تجد الإنسانيّة الصادقة خارج الإسلام، إلا شعارات وضجيجاً.
وأسلوب الكتاب واضح جليّ، فلكل موضوع يطرقه يأخذ الدكتور خفاجي كتاباً من كتب التراث القديم أو الحديث، فيناقشه ويكشف إبداعه وارتباطه بالتراث الإسلامي. ويجيء الاختيار متنوّعاً موفّقاً مترابطاً، يظل مع كل كتاب، يبرز أهميّة التراث وخطورته وعظمة الإسلام، وحاجة البشريّة إليه. وأحياناً أخرى يتناول عَلَماً من أعلام التراث، فبتحدّث عنه ويبرز دوره في الدعوة الإسلامية ويعرض مؤلفاته ويستعرض مَن كتب عنه.
ففي الباب الأول: \" عن القرآن الكريم \" يتحدث عن كتاب \" الفلسفة القرآنية \" للعقـاد، ثم عن كتاب \" أسالـيب الخطـاب القرآني \" لصادق عبد الرحيم، ثم كتاب \" التصوير القرآني في كتاب الله \" للدكتور علي علي صبح، وعن \" إعجاز القرآن في الدراسات الأدبية والنقدية \"، وعن \" الإعجاز البلاغي في القرآن \"، وعن \" دلائل الإعجاز\" للإمام عبد القاهر الجرجاني، وثم بما كتب عن \" ترتيـب السور \"، وعن \" الإشارات القرآنية إلى الطبائع البشرية \"، وفواتح سور القرآن الكريم.
مع كلّ موضوع يختار كتاباً من كتب التراث، ثم يستقصي ما كُتِب في هذا الموضوع لمؤلفين آخرين. وفي هذا الباب فصل هام بعنوان: \" الجهل بالتراث \"، يكشف فيه المؤلف خطورة جهل تلامذة الغرب من أبنائنا من أنصاف المتعلمين بتراث أمّتهم، وإن كانوا يتصدرون موكب العلم والثقافة في ميادين مختلفة وليعرضوا بضاعة الغرب.
ويمضي الباب الثاني عن الرسول والصحابة - رضي الله عنهم -، على نسق الباب الأول، حيث يختار كتاباً من كتب التراث يدور حول الموضوع المطروح، فيناقشه ويبدي فضله وأثره، ويستقصي كذلك كل ما كُتِب عن الموضوع نفسه في جهد كريم وتتبّعٍ, دقيق. فيختار كتباً من التراث تدور حول: الرسول الذي تفتخر به الإنسانية على امتداد العصور، ثم عن الرسالة النبوية إلى مصر، ثم عن أعلام الصحابة، وعن قصص الأنبياء، وعن \" الإسراء والمعراج \"، وعن ابن الخطاب - رضي الله عنه - والشعر، وعن الصحابية الجليلة \" أم عمارة \"، وغير ذلك.
وفي الباب الثالث: \" عن الدين \"، يختار أحد عشر من موضوعاً، ولكل موضوع كتاب من كتب التراث. فمن الموضوعات: \" الإسلام والإنسان المعاصر\" لفتحي رضوان، و\" هذا الدين \" للدكتور عبد الله دراز، و \" الإسلام دعوة عالمية \" للعقاد، وفضائل شهر رمضان، وموضوعات وكتب أخرى، كلها تمثّل قضايا هذا الدين العظيم وممارسته في الواقع. ويمضي الأسلوب نفسه في تقصِّي ما كُتِبَ عن كل موضوع لمؤلفين آخرين، مما يكشف سعة اطـلاع الدكتور خفاجي، وشدّة متابعته، وعمق علمه وثقافته، وبصورة تثير الإعجاب الحقَّ والتقدير الصادق. فعن فضائل شهر رمضان المبارك مثلاً يتحدّث عن كتاب مخطوط للعالم \" نافع الجوهري بن سلمان \" حول هذا الموضوع، ويبيّن أنه الكتاب الوحيد في العالم. ويتحدّث عن كتاب \" لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي \". ومع كل موضوع كتاب وتقصٍّ, وعمق.
ويأتي الباب الرابع: \" صوت من التاريخ \" على نفس النسق السابق في الأبواب الثلاثة الماضية، إلا أنه يبدو كأنه النتيجة الحتميّة لها، يبدو صوتاً قوياً ينطلق من قلب الواقع يأخذ أحداثاً وموضوعات ورجالاً تكشف عبقرية الإسلام في ممارسته، وعبقرية رجاله. إنها نماذج منتقاة بحـسٍّ, قوي ونظرة ثاقبة. فمن كتاب \" الأخبار الطـوال \" للدينوري، إِلى الإمام المجاهد في سبيل الله في ميادين شتى الإمام ابن تيمية، إلى الإمام ابن قيم الجوزية، إلى العبقرية الفذّة ابن خلدون في موضوع العمران البشري وموضوع التاريخ للحضارة الإسلامية، إلى صفحة مضيئة من تاريخ الإسلام في الرحلة إلى الحرمين.
ويأتي في ختام الكتاب قائمة مؤلفات الدكتور خفاجي وتحقيقاته، على قدر ما توافر لدينا. وهو يقول في إحدى رسائله إن بعض الكتب غابت في المطابع أو دور النشر.
هذا الكتاب سِفرٌ كريم يدفعه الأستاذ الدكتور الخفاجي في وقته ومناسبته وحاجتنا إليه، ليحمل زاداً ثَرَّاً غنيّاً نديّاً من علمٍ, وثقافة، ومواقف وأحداث، كلٌّها تعين لتوقظ، وتشدَّ العزائم لتنهض، والأمّة لتُفيق!
والكتاب سهلٌ في أُسلوبه، متينٌ في لغته، مترابطٌ في موضوعاته، عميقٌ في دراسته، يتميّز بالشمول والتقصّي، والدقّة والعدالة، وأمانة البحث واستقامته. ولا عجب في ذلك فهو يخرج من رجلٍ, عَلَم هو أهل لهذه الصفات وأكثر منها.
وأنا أُطالع الكتاب قبل إجازته وطبعه ونشره، أشعر بالمتعة الكبيرة، والفائدة الغنيّة، و أشعر بالرغبة تلحٌّ عليّ بأن أعيد قراءته ثانية وثالثـة لما فيه من خير ومتعة.
وقد عَهِد إليّ الدكتور الخفاجي بكتابة مقدّمة هذا الكتاب القيم، فإني أرجو من الله - سبحانه وتعالى - أن يبـارك في الكتاب ومقدمته، عملاً مباركاً خالصاً لوجهه الكريم، غنيّاً بعونه، نديّاً برحمته، يتقبّله عنده قبـولاً حسناً، إنه هو السميع المجيب. وعسى أن أكون أوفيت القصد إن شاء الله أو قاربت.
وقد توفي - رحمه الله - بعد مدة وجيزة من صدور الكتاب، فقرَّت به عينه، - رحمه الله - رحمة واسعة وتقبل منه عمله وأجزل له الثواب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد