الشهيد عمر المختار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

\"لن أبرح الجبل الأخضر طيلة حياتي، ولن يستريح الطليان فيه، حتى يواروا لحيتي في التراب...\".(عمر المختار).

 

لم تشهد الأمة العربية المسلمة منذ عصور الفتوحات حتى العصر الحديث، فارسًا بلغ من قوة الإيمان، وصدق العقيدة، والتضحية بالنفس تحت لواء الإسلام، مثل عمر المختار.. فقد حمل هذا البطل الليبي شعلة الجهاد المقدس وخاض أكثر من ألف معركة ضد الاستعمار الإيطالي، حتى عجزت إيطاليا بكل ما تملك من أساطيل في البحر، وطائرات في الجو، وجيوش في البر، أن تخمد شعلة الجهاد أو تمسك بمقاليد الأمور في ليبيا المجاهدة المسلمة.

 

وثمة أوجه شبه كثيرة بين المجاهد عمر المختار، والمجاهد عقبة بن نافع، فقد أوقد عمر نار الحرب ضد المستعمر الإيطالي بعد أن جاوزت سنه الخمسين.. تماماً كما فعل عقبة بن نافع، فقد حمل لواء الجهاد ضد المستعمر البيزنطي في المنطقة نفسها في القرن الأول من الإسلام، وكان شيخاً قد جاوز الخمسين أيضاً.

 

وكلا الرجلين بدأ حياته رائداً دينيًّا يعلم الناس شئون حياتهم، ويفقههم في الدين ويقدم لهم من سلوكه وأخلاقه دروساً تبصرهم بمعالم الطريق إلى الله، وتسمو بهم في مدارج العقيدة، وتفجر في نفوسهم المعاني الإلهية من إيمان وتقوى واعتصام بالله.

 

وقبل أن نتحدث عن عمر المختار كمجاهد قاتل أعداء الله تحت لواء الإسلام حتى لقي الشهادة، وخلف وراءه دويًّا ما زال يتردد في سمع العصور، يجدر بنا أن نومئ إيماءة عجلى إلى طفولته ونشأته الأولى، فقد تربى على مائدة الجهاد منذ كان صبيًّا ناعم الأظافر،، وكان لهذه التربية الإسلامية الخالصة أثرها العميق فيما اتسمت به أعماله من جراءة في الحق، وشجاعة في مجابهة المخاطر، وصبر في الشدائد لا ينفذ.

 

 ولد عمر المختار في سنة 1277 هجرية في وادي البطنان ببرقة، وكانت قبيلة المنفة التي ينتمي إليها هي إحدى القبائل العربية المشهورة بقوة البأس في المنطقة، وكان والده مختار بن عمر قد نذر الله إن رزق بولد ليهبه للعلم والدين، ولم يكن هذا الوالد يتصور أن ابنه الطفل الذي بدأ يتحرك في مهده سيحرك الدنيا حين يبلغ مبلغ الرجال.. ولكن القدر كان يعد أضخم برنامج لهذا الطفل الذي سيصبح فيما بعد من أعظم المجاهدين في ليبيا،

 

وما إن أتم عمر المختار سنواته الخمس الأولى من حياته حتى ألحقه والده بمدرسة زترور الأولية، ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بزاوية الجغبوب ليتلقى مبادئ الدين الحنيف والتاريخ الإسلامي والأدب العربي، وزاوية الجغبوب هي إحدى الزوايا التي أقامها محمد بن علي السنوسي المعروف بالسنوسي الكبير، وتتكون كل منها من ثلاث غرف: الأولى لإعطاء الدروس لأبناء البادية، والثانية لاستضافة المسافرين، والثالثة لسكنى القائمين بالتدريس، ويطلقون عليهم اسم \"الإخوان\"، وقد أقيمت كل زاوية بجوار بئر، وألحقت بها مزرعة يقوم بفلاحتها الإخوان، ويقتاتون من ثمراتها، كما أقيم مصنع صغير أو ما يشبه المصنع لإنتاج مصنوعات أهل البادية، وتسويقها للقبائل.. وأقيمت الزاوية على موقع عسكري هام، ليتعلم الناس الجهاد والدفاع وفنون الحرب.. ولتكتمل في أذهانهم معاني التربية الإسلامية، وتأخذ طريقها على الواقع تطبيقًا وعملاً وسلوكاً وجهاداً.

 

في هذه الزوايا نمت الحركة الدينية للسنوسيين، وشقت طريقها بين أبناء القبائل، وأحدثت تغييراً جذريًّا في أفكارهم وأخلاقهمº إذ جعلتهم يكفون عن العادات الهمجية المرذولة التي كانت سائدة بينهم، وإغارة بعضهم على البعض الآخر، كما جعلتهم يتعلمون الآداب الإسلامية التي نزل بها القرآن.

 

إن أهم الأسس التي قامت عليها الدعوة السنوسية هي: العزم والحزم في تنفيذ نصوص الدين دون الدخول في اجتهادات أو تفسيرات لم ترد في كتب السلف، وكان لهم ذكر يتلونه ويلتقون عليه في ساعات معينة من الليل والنهار، وهو مأخوذ عن الأدعية الواردة في القرآن الكريم وأحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم -.

 

ومن بين تعاليم مؤسس الدعوة السنوسية: الإقلاع عن شرب التبغ، وعدم حيازة الذهب والجواهر، وحظر الاتصال بالأجانبº حتى لا يبدلوا عقيدة المسلمين بمذاهبهم الإلحادية، ولكن من يجد في نفسه وعقله من الإيمان والعلم ما يحصنه من خطر أفكار الملاحدة، فلا بأس من أن يتصل بهم، كما تحظر هذه الدعوة الاتصال بأهل الدول الإسلامية التي لا تحكم بكتاب اللهº لأنها حادت عن الصراط المستقيم، وتعاليم الناس فريضة الجهاد وغرسها في قلوبهم ونفوسهم.

 

وقد أتت هذه الدعوة أكلها، فانتشر الإسلام الصحيح بين أبناء القبائل، وتعلموا أن الإسلام ليس صلاة وزكاة وصياماً وحجًّا فقط، وإنما هو أيضاً جهاد ومحبة وأخوة وبذل وتضحية، وظهرت ثمرات هذه الدعوة حينما رفع عمر المختار لواء الجهاد ضد المستعمر الإيطاليº إذ هبت القبائل كلها تجاهد بأموالها وأنفسها في سبيل الله والوطن.

 

بعد أن أتم عمر المختار تعليمه في زاوية الجغبوب، وظهرت عليه علائم النبوغ والعبقرية، قرر السنوسيون تعيينه شيخاً على زاوية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج، ولعل هذه الوظيفة كانت امتحانًا صعباً لقدرته على مواجهة المواقف العصبية، فقد كان في المنطقة التي تقع بها الزاوية قبيلة متمردة لا تعترف بالقوانين، وأفراد هذه القبيلة يحتاجون إلى أسلوب خاص في التعامل، لاستئصال شأفة التمرد فيهم وانتزاعهم من حياة العنف إلى حياة التراحم والتعاطف والأمن والسكينة.

 

لا ريب أن عمر المختار كان يعلم دقة موقفه، ولكنه استطاع بما أوتي من حكمة ولباقة ومرونة أن يطفئ جذوة التمرد في نفوس أبناء هذه القبيلة، وأن يبسط في نفوسهم آداب الإسلام.

 

إن أول خطوة خطاها المستعمر الإيطالي للاستيلاء على ليبيا هي أنه أنشأ بنكًا في سنة 1326 هجرية، وأعلن أن أهداف البنك هي مساعدة المعوزين من أبناء ليبيا وإقراضهم بضمان الأرض حتى يتم السداد، وإذا عجز المقترض عن الدفع استولى البنك على الأرض، وبهذه الوسيلة استطاع البنك الإيطالي أن يستولي على مساحات كبيرة من الأراضي الليبية.

 

ثم إن إيطاليا أوفدت بعثة إلى طرابلس هي سنة 1328، وادعت أنها بعثة علمية ستقوم برحلة ميدانية للكشف عن معدن الفوسفات الموجود في الأراضي الليبية، وتبين عند القبض عليها بعد قيام المعارك أنها بعثة عسكرية جاءت لوضع الخرائط الحربية.

 

ماذا صنع عمر المختار، وقد لاحت في الأفق نذر الشر من الحكومة الإيطالية؟

انبعثت العزة الإسلامية في نفس العالم الفقيه، وراح يستعرض في مخيلته ما يوجبه الإسلام في مثل هذه المواقف، وماذا يجب على المسلمين أن يفعلوه إذا ابتدأهم طاغية بالعدوان، وعلى الفور دعا عمر المختار إلى عقد المؤتمرات لتهيئة البلاد نفسيًّا وعسكريًّا لمواجهة الغازي المستعمر.

 

كان يرتكز في دعوته إلى أن الإسلام دين قوة وعزة وجهاد، وأن المستضعفين في الأرض مصيرهم الدرك الأسفل من النار، وأن من قُتل دون أرضه فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد.. وكانت ثقافته الدينية الواسعة أقوى عامل في بعث الهمم وشحذ العزائم، مما جعل ليبيا كلها تتحول بين عشية وضحاها إلى معسكر يتأهب للجهاد..

 

وفي الوقت الذي استعدت فيه ليبيا لمواجهة أي عدوان عليها، أرسلت الحكومة الإيطالية إنذارًا إلى الحكومة العثمانية في 26 من سبتمبر سنة 1911 تهددها فيه باحتلال طرابلس وبني غازي، بدعوى أن الحالة أصبحت جد خطيرة ضد الرعايا الإيطاليين، وردت الحكومة العثمانية على الإنذار الإيطالي ردًّا ضعيفاً متهافتاً، وطلبت إجراء مفاوضات في هذا الشأن، ولكن الأسطول الإيطالي كان في طريقه إلى السواحل الليبية.

 

كان عمر المختار يقوم بجولة في مختلف المدن الليبية يحث الناس على الجهاد، وبينما هو في مدينة الكفرة، إذا به يسمع أن بني غازي ضربها الإيطاليون بقذائف الأسطول، وأن أهالي المدينة اشتبكوا في قتال دام مع قوات المستعمر، وأن الجهاد أصبح فرضاً على كل مسلم ومسلمة.

 

عاد عمر المختار مسرعاً حتى بلغ \"الخروبة\"، وجمع حوله آلاف المجاهدين، وعسكر في مكان يبعد عن بني غازي بحوالي 20 كيلومتراً، ومنه استطاع أن يحدث الرعب والفزع في قلوب القوات الإيطالية، وأن ينزل بها أفدح الخسائر.

بدأ اسم عمر المختار يتردد في أروقة مبنى الحكومة الإيطالية بروما.. وعرف ساسة إيطاليا أن ابن البادية الذي كان حتى عهد قريب رائداً دينيًّا قد أصبح أدق وأحكم قائد عسكري في ليبيا.

 

وإزاء عجز الحكومة الإيطالية وقواتها في البر والبحر والجو عن مقاومة هذا الفارس المسلم، وإخوانه المجاهدين، اتجهت إلى الأستانة لتعقد صلحاً مع الحكومة العثمانية، وبهذا تنقذ البقية الباقية لها من كرامة وكبرياء، ثم تحاول بعد ذلك أن تستولي على ليبيا بالخداع.

 

وقعت المعاهدة بين الدولتين في 21 أكتوبر سنة 1912 دون أن يعلم بها أحد في ليبيا، ثم سحبت الحكومة العثمانية قواتها بحجة أن الحرب وضعت أوزارها، ولكن المجاهدين لم يضعوا أسلحتهم، ولم يطفئوا شعلة الجهاد، بل ربضوا في مواقفهم ينتظرون ما تسفر عنه الأحداث.

 

وفي الفترة التي ساد فيها الهدوء المدن الليبيةº لأن الحكومة الإيطالية سحبت قواتها منها، كانت هناك عمليات قمع واستبداد بالمجاهدين، فقد زج ببعضهم في السجون، واعتدي على ماشية وأغنام البعض الآخر.. وكان يقابل هذا باختطاف وقتل الضباط الإيطاليين، مما جعل الحكومة الإيطالية تضج من كثرة عدد الضحايا، ومما أرغمها على إصدار قانون في سنة 1919 تعلن فيه أنها ستحكم البلاد دون قهر أو بطش.

 

ولكن الأحداث جرت سراعاً، ونشبت المعارك من جديد بين المجاهدين والقوات الإيطالية، وظل عمر المختار يقود المجاهدين من موقعة إلى موقعة طول عشرين عاماً خاض خلالها أكثر من ألف معركة، كما اعترف بذلك أحد القواد الإيطاليين.

 

وبالرغم من أن عمر المختار شارف السبعين من عمره، فإن جذوة الشباب ظلت متقدة في روحه، وظل الشيخ الذي امتلأ جسمه بالجراح يتمتع بقدرته القتالية، ولا يخبو له عزم، ولا تفتر له همة.

 

بيد أن الموت الذي تنحى عن طريق عمر المختار طوال عشرين سنة أمضاها في الجهاد، وقف يترصد له في مساء الجمعة 28 ربيع الثاني سنة 1350هـ كان قد اتخذ من الجبل الأخضر معقلاً للمجاهدين بعد أن استولى الجيش الإيطالي على مدينة الكفرة، ومعظم المدن الليبية، وفي ذلك المساء الحزين خرج وبصحبته خمسون مجاهداً لاستطلاع قوات العدو، ولكنه فوجئ بقوات إيطالية تحاصره من كل مكان.. ومع هذا ظل يبادلهم إطلاق الرصاص حتى أصيب جواده برصاصة وسقط على الأرض، عندئذ أسرته القوات الإيطالية، وأبلغت دودياشي حاكم المرج، فأقبل مسرعاً على طائرة خاصة، وأمر بنقل عمر المختار إلى ميناء سوسة، ومن هناك ركب الطراد الإيطالي أوسيني وجيء به إلى بني غازي لمحاكمته.

 

لبث في سجن بني غازي أربعة أيام، ثم حل موعد محاكمته يوم 3 من جمادي الأولى سنة 1350هـ، ولما سيق إلى ساحة المحاكمة، وتلا عليه الكولونيل مارينوني قرار الاتهام، لم ينكر عمر المختار تهمة واحدة.. وإنما قال: \"إنكم معتدون على أرضنا وبلادنا، وإن الإسلام أوجب علينا الجهاد ضد الغاصبين المعتدين، إنني لم أفعل شيئاً إلا تنفيذ تعاليم الإسلام.. فالإسلام يأبى الخضوع لأهله، والذل لمعتنقيه.

 

وجم القاضي الإيطالي حين سمع ما قاله عمر المختار، ولم يلبث أن نطق بالحكم الذي أعدته الحكومة الإيطالية قبل المحاكمةº وهو: إعدام عمر المختار شنقاً..

 

وفي اليوم التالي سيق المجاهد إلى ساحة الإعدام، وظل يردد الشهادتين حتى صعدت أنفاسه الطاهرة إلى الملكوت الأعلى.

 

لم يمت عمر المختار، كما تخيل المستعمرونº وإنما لحق بقافلة الأبرار والصديقين بعد أن توج التاريخ بقصة رائعة من قصص الجهاد..

رحم الله الشيخ عمر المختار، وتغمده في فسيح جناته، فقد كان منارة الجهاد في العصر الحديث.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply