عائشة بنت أبي بكر الصديق هكذا كانت خطبتها وهكذا كان عرسها


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أينا لا يعرف هذا الاسم العظيم، وأينا لم يسمع به من قبل؟ أغلب الظن أن أكثرنا، إن لم نكن جميعًا، نعرفه...هذا الاسم الكريم الذي تحمله حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الأثيرة عنده، أفقه نساء الإسلام، المبرأة من فوق سبع سماوات... في بيت الصدق والإيمان ولدت، وفي أحضان والدين كريمين من خيرة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تربت، وعلى فضائل الدين العظيم وتعاليمه السمحة نشأت وترعرعت.. هذه هي عائشة الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنها -. وحسبها أن تكون ابنة أبي بكر الصديق ليُنزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قلبه وبيته أعز مكان.. تلك العظيمة التي أثارت بذكائها وغزارة علمها وفقهها وسمو أخلاقها إعجاب السلف والخلف فعلموا يقينًا لماذا تبوأت تلك المكانة الكبيرة عند رسول الله - عليه الصلاة والسلام -... ومن ثم لن نعجب من كثرة ما سيمر بنا من مواقف تربوية رائعة وفوائد دعوية عظيمة استقيناها من حياة أم المؤمنين الصديقة الحبيبة عائشة - رضي الله عنها -.

 

هي عائشة بنت أبي بكر الصديق، أما أبوها فعبد الله بن أبي قحافة، أول من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحب الخلق إليه، وصاحبه وخليله ورفيقه في الغار، وخليفته من بعده.. وأمها أم رومان تلك الصحابية الجليلة التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \'من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان\'.

 

ولعائشة إخوة وأخوات أسلموا جميعًا وحسن إسلامهم وهاجروا وجاهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. هذه هي أسرة السيدة عائشة: أسرة مؤمنة مهاجرة ضحت من أجل الإسلام أعظم التضحيات، وأبلت في سبيل الدعوة أحسن البلاء، وقدمت لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - أعظم الخدمات لتيسير هجرته ونشر دعوته.. وقد ولدت السيدة عائشة في أحضان هذه الأسرة الكريمة وكانت نشأتها في الإسلام فقد روي عنها: \'لم أعقل أبوي إلا وهما يديننا الدين\' فنشأت - رضي الله عنها - منذ نعومة أظفارها في ظل تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وشهدت في طفولتها أشد المراحل التي مرت بالدعوة الإسلامية وما تعرض له المسلمون من أذى واضطهاد.

 

ولقد كانت عائشة ـ كغيرها من الأطفال ـ كثيرة اللعب والحركة، لها صويحبات تلعب معهن، كما أن لها أرجوحة تلعب عليها.. وقد تمت خطبتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت سبع سنين وتزوجها وهي بنت تسع.. ونظرًا لحداثة سنها فقد بقيت تلعب.. بعد زواجها فترة من الزمن..

 

روي عنها أنها قالت: \'دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب بالبنات، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فلت: خيل سليمان.. فضحك\'... كما روي عنها أنها قالت: \'تزوجني رسول الله وكنت أعلب بالبنات وكن جواري يأتينني فإذا رأين رسول الله عليه الصلاة واللام ينقمعن منه وكان النبي يسر بهن إلي\'.

 

ولذا كانت السيدة عائشة تنصح الآباء والأمهات أن يعطوا الأطفال حقهم في اللعب والحركة فتقول: \'فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو\'، فللطفل حاجات نفسية لا يتم إشباعها إلا باللعب واللهو والمرح وهذا يساعد على النمو السليم المتكامل.

 

وقد ذكرت لنا - رضي الله عنها - كيف تمت هذه الخطوبة المباركة، بل إنها تذكر أدق ما فيها من تفاصيلº وما ذاك إلا لأنها تمثل لها أجمل وأحلى ذكرياتها التي تحن إليها، كيف لا وهي ذكريات لقائها بزوجها الحبيب الذي أحبته أعظم الحب، وعاشت معه أسعد السنوات، فإذن لتلك الذكريات في قلبها أعظم مكان وأربحهº فنستمع إليها وهي تروي لنا هذه الخطبة المباركة فتقول: \'لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: ومن؟ قالت: إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا؟ قال: مَن البكر ومَن الثيب؟ قالت: أما البكر فعائشة بنت أحب خلق الله إليك، وأما الثيب فسودة بنت زمعة وقد آمنت بك واتبعتك. فقال: اذكريهما علي. قالت: فأتيت أم رومان فقلت: يا أم رومان ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: رسول الله يذكر عائشة. قالت: انتظري فإن أبا بكر آت. فجاء أبو بكر فذكرت ذلك له فقال لها: قولي لرسول الله فليأت فجاء فملكها..، ثم إنها تعرض لنا - رضي الله عنها - الخطوة الثانية في هذه الخطبة فتقول: \'فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة ومعي صواحبي فصرخت بي فأتيتها وما أدري ما تريد بيº فأخذت بيدي فأوقفتني على الباب.. فقلت: هه هه حتى ذهب نفسيº فأدخلتني بيتًا فإذا نسوة من الأنصار فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر\'.

 

وهكذا نلاحظ رواية عائشة لأدق تفاصيل تلك الخطبة الكريمة: خطبتها لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - حتى إنها لتذكر أنها كانت تلعب قبلها على الأرجوحة، بل إنها تذكر أنها قد لهثت وتتابعت أنفاسها بسبب جريها وسرعتها في تلبية نداء أمها، وإننا لنستشف من ذلك عظم مكانة تلك الذكريات عندها وتقديرها البالغ لأمها ـ رغم حداثة سنها ـ وذلك بترك اللعب مع الصويحبات والاستجابة للنداء، وهذا ما ينبغي أن تربي الأمهات أطفالهن عليه فللأم مكانة عظيمة واحترام كبير ينبغي أن يربى الطفل وينشأ عليه منذ نعومة أظفاره لتعظم في نفسه مكانة الأم، ولترسخ في ذهنه حقوقها عليه وواجبه تجاهها. ولكن هل كان ما روته السيدة عائشة هو أول مراحل هذه الخطبة؟ لقد كان هذا ما تعتقده أم المؤمنين - رضي الله عنها - حتى حدثها رسول الله أن خطبته لها كانت وحيًا من الله - تعالى -.. فقد روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لعائشة: \'أُريتك في المنام ثلاث ليال، فجاءني لك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك.. فاكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمضِه\'.

 

فلم يتزوج رسول الله بعائشة فور خطبتهاº ولعل ذلك يرجع إلى صغر سنها، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرض أن ينتزع الصبية اللطيفة من ملاهي صباها أو يثقل كاهلها بمسؤوليات الزوج وأعبائه، كما إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولاً بالمصاعب الجمة التي مرت به.. وقد أحب رسول الله - عليه الصلاة والسلام - خطيبته الصغيرة كثيرًا فكان يوصي بها أمها أم رومان قائلاً: \'يا أم رومان استوصي بعائشة خيرًا واحفظيني فيها\'، وكان يسعده كثيرًا أن يذهب إليها كلما اشتدت به الخطوب وينسى همومه في غمرة دعابتها ومرحها وقد أحبت السيدة زيارات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها وأسعدها \'ألا يخطئ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية\'.. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر مع رفيقه أبي بكر الصديق إلى المدينة وخلفوا وراءهم في مكة آل النبي - عليه الصلاة والسلام - وآل أبي بكر. ولما استقر - عليه الصلاة والسلام - بالمدينة المنورة أرسل من يحضر أهله وأهل أبي بكر. وقد تعرضت الأسرتان في طريق الهجرة لمصاعب كثيرة وأخطار عديدة أنقذتهم منها العناية الربانية. من ذلك ما روته عائشة - رضي الله عنها -: \'قدمنا مهاجرين فسلكنا في ثنية ضعينة ـ اسم مكان ـ فنفر جمل كنت عليه نفورًا منكرًا فوالله ما أنسى قول أمي: يا عُريسة. فركب بي رأسه ـ كناية عن استمرار نفوره ـ فسمعت قائلاً يقول: ألقي خطامه. فألقيته فقام يستدير كأنما إنسان قائم تحته\'.

 

وقد صبروا - رضي الله عنهم - وتحملوا مصاعب تلك الهجرة وأخطارها تاركين خلفهم الأهل والوطن ومرابع الصبا مُضحين بذلك كله في سبيل هذا الدين العظيم مبتغين أجرهم عند الله، وهذا خير ما ينبغي أن يتربى عليه الجيل المؤمن، فالمسلم الحق مستعد بكل نفس راضية مطمئنة أن يضحي بكل غالب ونفيس في سبيل ما يعتنقه من دين عظيم ومبادئ سامية غير مبالٍ, بما قد تؤدي إليه هذه التضحية من أخطار أو خسائر مادام قلبه عامرًا بهذا الدين العظيم ونفسه مطمئنة بتعاليم ربه الكريم.

 

وصلت العروس المهاجرة إلى المدينة المنورة، وهناك اجتمع الحبيبان، وعمت البهجة أرجاء المدينة المنورة وأهلت الفرحة من كل مكان، فالمسلمون مبتهجون لانتصارهم في غزوة بدر الكبرى، واكتملت فرحتهم بزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة.. وقد تم هذا الزواج الميمون في شوال سنة اثنتين للهجرة وانتقلت عروسنا إلى بيت النبوة، ولقد كانت هذا النقلة من أجمل ذكريات عائشة وأغلاها وكون هذه النقلة في شهر شوال فقد أحبت أم المؤمنين هذا الشهر واستحبت أن يُبنى بنسائها في شهر شوال فهو عندها شهر الخير والبركات.. وتروي لنا - رضي الله عنها - استعدادها للزفاف وتجهيز أمها لها فتقول: \'كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء للرطب فسمنت كأحسن سمنة\' ثم تصف لنا وليمة العرس فتقول: \'والله ما نحرت علي من جزور ولا ذبحت من شاة ولكن جفنة كان يبعث بها سعد بن عبادة إلى رسول الله يجعلها إذ ذاك بين نسائه فقد علمت أنه بعث بها\'. ولقد كانت أسماء بنت يزيد ممن جهزت عائشة وزفتها إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، وهي تحكي لنا عن تقديمه - عليه الصلاة والسلام - اللبن إلى ضيوفه وإلى عروسه فتقول أسماء - رضي الله عنها -: \'زينت عائشة لرسول الله ثم جئته فدعوته لجلوتها فجاء فجلس إلى جنبها فأتي بلبن فشرب ثم ناوله عائشة فاستحيت وخفضت رأسها. قالت أسماء: فانتهرتها وقلت لها: خذي من يد النبي. فأخذت وشربت شيئًا، ثم قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: أعطي أترابك\'.

 

وتُسأل - رضي الله عنها - عن مهرها فتقول: \'كان صداق رسول الله لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشًّا ـ والنش: نصف أوقية ـ فتلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله لأزواجه\' ثم إنها - رضي الله عنها - تصف جهاز حجرتها فتقول: \'إنما كان فراش رسول الله الذي ينام عليه أدمًا حشوه ليف\'.. ولم يكن في حجرة السيدة العروس مصباح تستضيء به، دل على ذلك حديثها: \'كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فسئلت: لماذا لم يكن فيها مصابيح؟ فقالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه\'.

 

وقد وصف الحسن - رضي الله عنه - بيوت أزواج النبي فقال: \'كنت أدخل بيوت أزواج النبي في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي\'.. ولقد كانت بيوت أزواج النبي - عليه الصلاة والسلام - قصيرة البناء، بعضها مبني من جريد وطين وبعضها من حجارة مرصوصة وسقفها من جريد. وقد أضيفت هذه البيوت إلى المسجد بعد موت أزواج النبي في زمن عبد الملك.. تلك هي الحجرة التي عاشت فيها السيدة قرابة خمسين عامًا ولم تدخل عليها أي تغيير سوى القبور الثلاثة التي دفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -.

 

وبعد فهذا هو وصف العروس المباركة لحفل زواجها ومهرها ومنزلها وجهازها، وبتأملنا لوصفها السابق يتبين لنا بجلاء يسر حفلة زواج رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بعائشة وتواضعها وزهد مهر العروس وقلّته: مع أن العريس هو نبي الله وخير خلقه وأحبهم إليه، والعروس هي عائشة وأبوها الصديق نسابة قريش وخير مَن وطئت قدمه الثرى بعد الأنبياء، ومع ذلك كله كان التواضع البليغ والبساطة الواضحة هما السمة البارزة على الحفل والمهر بل وعلى بيت العروسين وجهازهما كذلك. وهذا على عكس ما يحدث في عصرنا هذا الذي انتشرت فيه المغالاة في المهور، وارتفاع تكاليف الزواج، والبذخ والإسراف البالغ في تأثيث بيت العروسين وجهازهما. وهذا الأمر لا يساعد على النكاح بل إنه أثر سلبًا في أفراد المجتمع.. تلك المظاهر الجوفاء أثقلت كاهل الغني فضلاً عن الفقير الذي حاول مجاراة الغني نزولاً على التقاليد فركبه الدَين، والدين ذل في النهار وهمّ في الليل، إن كان ما زاد على النفقة المشروعة في النكاح فهو ما لا يقره الشرع.. وقد ظهرت ثمرة هذه المغالاة وهذا السرف، وهي إما عزوف الشباب عن النكاح وإما خروج المرأة من سترها الذي فرضه الله عليها لتستطيع الإسهام في تحقيق أوهام النفوس التي لا تمت إلى مقاصد النكاح بصلة من الصلات فيكون الفساد الكبير.

 

هكذا اجتمع الحبيبان يبعث بعضهما لبعض مشاعر الحب والمودة، ويبنيان بيت الزوجية السعيد.. وقد كانت عائشة صغيرة السن لكنها كانت متفهمة للحياة المقبلة عليها، مدركة للمهمة الملقاة على عاتقهاº فهي ليست زوجة عادية بل زوجة نبي، وعليها أن تساعده على نشر الرسالة السماوية وبناء أسس الدعوة الإسلامية.. فكيف سارت الحياة الزوجية عند عائشة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وما مدى اهتمام عائشة ببيتها ونفسها وزوجها؟ وكيف وازنت - رضي الله عنها - بين حياتها البيتية واهتمامها بأحوال المسلمين؟ هذا كله وغيره نتعرفه معًا في حلقتنا المقبلة فكونوا معنا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply