بسم الله الرحمن الرحيم
نقلت إلى المشفى حين بعت مجموعات نادرة من كتبي
السيد عبده مرتضى الحسيني، حالة فريدة لا مثيل لها في عالم جمع الكتب، فهو صاحب اكبر مكتبة شخصية في العالم، بشهادة العديد من الوراقين والمهتمين والباحثين العرب والأجانب، ولا غرابة في ذلك لأن مكتبته تضم ما يزيد على نصف مليون كتاب ومجلة ودورية، وبمختلف اللغات القديمة والجديدة، السائدة منها والبائدة.
ويبدو أن عشقه الخالد للكتب، لم يرق لزوجته الأولى، فتذمرت بل استنكرت علانية إعدادها الهائلة، ضاربة عرض الحائط بمشاعر زوجها، حيث اعتبرت مكتبته بمثابة أذى الضرة، فوضعت زوجها المسكين أمام الخيار الصعب، إما أن ينظف البيت من الكتب، أو ترحل إلى بيت أهلها بعد أن يدفع لها المقدم والمؤخر، فكان الطلاق الأبدي بالرغم من وساطات أهل الخير لإصلاح ذات البين بينهما.
تتألف مكتبة السيد عبده من ثلاثين مكتبة كاملة، في مختلف أنواع المعرفة والعلوم الإنسانية: تراث- أدب-شعر- فلسفة-إسلاميات-لاهوت-سينما-فن-موسيقا-سياسة.
بالإضافة إلى مطبوعات مجامع اللغة العربية في دمشق وبغداد والقاهرة. فضلاً عن أكوام من الصحف العربية اليومية كادت تلامس سقوف الغرف. وفي المكتبة كذلك خمس نسخ خطية من القرآن الكريم يعود تاريخ نسخها إلى أكثر من خمسمائة سنة.
وثمة قسم خاص بالوثائق التاريخية، والرسائل الشخصية، وبصورة عامة فهو لا يهتم كثيراً بالمخطوطات لغلاء ثمنها. منذ مدة غير بعيدة، زارنا السيد عبده مرتضى الحسيني في مبنى صحيفة (الثورة) مصطحبا معه نسخة نادرة من كتاب رباعيات عمر الخيام، قام بترجمتها إلى العربية وبالشعر المحكي الأديب ارثر ضو، وقدمها إلي كهدية رمزية، وقد صدر هذا الكتاب ضمن منشورات مجلة (شعر) المحتجبة ويجد القارئ الكريم صورة عن هذا الإهداء اللطيف.
وحين استفسرت منه عن بدايات قصته الطريفة مع الكتاب أجاب:
-منذ كنت في السابعة من عمري، بدأت بجمع قصص الأطفال والمجلات والكتب، بصورة عشوائية أتذكر أنني عثرت في الشارع على كتاب ممزق الغلاف، تفوح من صفحاته المزينة بالرسوم رائحة الزيت، أخذت الكتاب إلى المنزل، ووضعته على سريري وأنا أتأمله بزهو وإعجاب، فما كان من والدتي إلا أن أنبتني بعنف لأنني لوثت ملاءة السرير الناصعة البياض، لكن هذا التوبيخ لم يأت بنتيجة، فأخفيت الكتاب بين كتبي المدرسية، وهكذا شيئا فشيئا استهوتني عادة قراءة الكتب وجمعها.
ويضيف السيد عبده:
-ولدت عام 1918م في بعلبك وتوفي والدي وأنا مازلت في الأشهر الأولى من عمري، فذقت من الحرمان ومرارة اليتم الشيء الكثير، فاضطرت والدتي أن تتحمل أعباء العائلة بشجاعة نادرة..
وفي عام 1930م بدأت رحلتي الحرة الواعية في رحاب الفكر والثقافة، إذ وجدت أن المعرفة وخلاصة تجارب البشرية عبر عصور التاريخ، تتضمنها الكتب، لذلك فأنا اشعر بالحزن لأنني لم استطع أن اقرأ الكثير من الكتب التي تقع تحت يدي، ولديّ أحاسيس تقول بأن الحياة قصيرة.. بل إن الحياة بالنسبة للإنسان ما هي إلا دقائق وثوان... وسرعان ما يسدل الستار.
وكما ذكرت سابقا.. منذ طفولتي وأنا أعشق اقتناء الكتب، كنت اجمع بذور المشمش،، المسامير، وأسلاك النحاس، والمقذوفات النارية الفارغة، من الشوارع والساحات والبساتين، ثم اعرضهم للبيع، وبثمن هذه الأشياء، كنت اشتري الكتب والمجلات.
بعد ذلك كنت انفق معظم راتبي الشهري، الذي أتقاضاه من وظيفتي كمعلم، على شراء الكتب. وأخيراً بعت الأراضي النادرة، آنذاك اتهمني الكثير من أبناء بلدتي بالطيش والحماقة.
كما أنني أقوم بعملية الاهداءات والمبادلة، مع جامعات ومكتبات وطنية، عربية وأوروبية، في أكثر من خمسين دولة، ويتم ذلك بأن أرسل إليهم إصدارات عربية جديدة، وهم بدورهم يسارعون بإرسال ثمرات مطابعهم، إلى عنواني البريدي في بعلبك.
إن مكتبتي موزعة على سبع غرف، ونظرا لضيق المكان، وضيق ذات اليد، لأن حرفة الأدب قد أدركنني، اضطر أن احشر الكتب هنا وهناك دون تنظيم او فهرسة.
وينهي كلامه قائلا:
أنا أشتري الكتب بالجملة وطالما اشتريت مكتبات ضخمة بأكملها، عائدة لشخصيات مرموقة وشهيرة. اشتريت هذه المكتبات الرائعة عن طريق ورثتهم، الذين طمعوا بالحصول على المال، دون الاكتراث بالجهود المضنية التي بذلها أصحابها حتى أسسوا مكتباتهم. وبصراحة أنا لا أثق بأولادي، بعد رحيلي، أخشى أن يكون مصير مكتبتي مثل مصير المكتبات التي اشتريتها أيام زمان.
وللأسف فقد بعت كميات كبيرة من كتبي النادرة لإحدى الجهات الثقافية، وحين شاهدت صناديق الكتب وهي في أيدي الحمالين الذين كانوا ينقلونها إلى الشاحنة، سقطت على الأرض من هول الكارثة التي لحقت بي ونقلت إلى المشفى، وأنا بين الحياة والموت، وقد فعلت ذلك من جراء أزمة مالية خانقة داهمتني، كما أن خشيتي على مكتبتي من التدمير أو التلف، دفعتني إلى بيع هذا الجزء الهام، لكن مما خفف المصيبة أن الجهة التي اقتنتها ستضعها بين أيدي الباحثين والأدباء، وطلاب الدراسات العليا، من اجل تعميم الفائدة.
أخيرا أتمنى أن تتحول مكتبتي الشخصية إلى مكتبة عامة، توضع تحت تصرف الأدباء والمؤرخين الذين يتواجدون أو يزورون بعلبك، وأن أظل مشرفا عليها حتى يسقط القلم من يدي.
بقي أن نذكر بأن الزوجة الثانية التي ارتبط بها السيد عبده كانت من محبي جمع الكتب، فعاملتها بحنان وإعجاب ومباهاة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد