بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أَنفَقَ زَوجَينِ في سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِن أَبوابِ الجنةِ: يَا عَبدَ اللَّهِ، هذا خيرٌ، فمَن كانَ من أهلِ الصلاةِ دُعِيَ من بابِ الجهاد، ومن كان من أهل الصيامِ دُعِيَ من باب الرَّيان، ومن كان من أهل الصدقة دُعِيَ من باب الصدقة». فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعَى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر».
هذا الحديث أخرجه الإمام
البخاري في صحيحه في أربعة مواضعº أولها في كتاب الصوم باب الريان للصائمين برقم (1897)، وفي كتاب الجهاد والسير باب فضل النفقة في سبيل الله برقم (2841)، وفي كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة برقم (3216)، وفي كتاب الفضائل في مناقب أبي بكر برقم (3666)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة باب من جمع الصدقة وأعمال البر برقم (1027)، وأخرجه الإمام الترمذي في جامعه في المناقب باب «رجاؤه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أبو بكر ممن يدعى من جميع أبواب الجنة برقم (3674)، وأخرجه النسائي في سننه في الصيام برقم (2240)، وفي الزكاة برقم (2441)، وفي الجهاد برقم (3137)، كما أخرجه الدارمي في سننه في كتاب الجهاد برقم (2403)، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في الجهاد برقم (1012)، وكذا الإمام أحمد في المسند (2/268)، ورقمه في المسند - ط دار الرسالة - (7633).
شرح الحديث
أولاً: صديق الأمة - رضي الله عنه -:
هو على المشهور: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مُرَّةَ بن كَعبٍ,، وعدد آبائهما إلى مُرَّة سواء.
(فكل منهما آباؤه إلى مرة ستة). ويكنى أبوه: أبا قحافة، وأما أمه فهي: سلمى بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور وكنيتها أم الخير، أسلمت وهاجرت، وذلك معدود من مناقبه، لأنه انتظم له إسلام أبويه وجميع أولاده.
ومن أسمائه أيضًا - رضي الله عنه - عتيق، واختلف هل هو اسمٌ أصليُّ له، أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه ما يعاب به، أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام، أو قيل له ذلك لِحُسنِه، أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما وُلِدَ استقبلت به الكعبة فقالت: «اللهم هذا عتيقك من الموت، أو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشره بأن الله - تعالى -أعتقه من النار، وقد ورد في هذا القول الأخير حديث عن عائشة أم المؤمنين بنت الصديق - رضي الله عنها - عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار وصححه ابن حبان وزاد فيه: «وأن اسمه قبل ذلك «عد الله بن عثمان»، ولم يختلف في كنيته التي عرف بها واشتهر وكذا لقبه فهو معروف بهما (أبو بكر - الصديق)، ولقد لقب بالصِّدِّيق لسبقه إلى تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء. وروى الطبراني من حديث عليِّ - رضي الله عنه-: «أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق». قال الحافظ: رجاله ثقات. اهـ. من الفتح.
بعض مناقب الصديق
مناقب أبي بكر الصديق رضي الله - تعالى -عنه كثيرة جدًا لا يمكن إحصاؤها إلا في مجلدات كبيرة، لا يتسع
لها مثل هذا المقال، وهذه المناقب لا يجحدها إلا مبتدع مبغض لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن حُبَّ أصحابه من حُبِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وبغضهم من بغضه، ونحن نشهد الله - تعالى -أننا نحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحب أصحابه جميعًا وننزلهم المنزلة اللائقة بهم، ونبغض كل من يبغض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبغض أصحابه، والحق أنه لا يبغض الصحابة إلا مكذب بالقرآن الكريم وبسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو متأول للقرآن تأولاً غير سائغ ولا مقبول ولا معقول. كما أننا ندين لله - عز وجل - بأن الصديق - رضي الله عنه - خير الأمة بعد رسولها - صلى الله عليه وسلم -، بل هو خير الناس بعد الأنبياء، وقد ورد بذلك نصوص صحيحة صريحة، ولنذكر هنا بعض النصوص في مناقب
الصديق - رضي الله عنه -، وسنقتصر على الصحيح المسند منها، بل على بعضه فقط لأن المقام لا يتسع لذكر الصحيح كله وغيره أكثر منه بكثير، فمن ذلك:
1- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً».
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : «إنه ليس من الناس أحدٌ أَمَنَّ عليَّ في نفسِهِ ومالِهِ من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذًا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خُلَّة الإسلام أفضل سُدٌّوا عني كل خوخَةٍ, في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر». أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وابن أبي عاصم في السنة.
2- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سُدٌّوا الأبواب إلا باب أبي بكر: عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: «خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ وقال: «إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله». قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخيَّر، وكان أبو بكر أَعلَمَنَا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَمَنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر». [متفق عليه، وأخرجه كذلك الترمذي وأحمد وابن أبي عاصم]
3- الصديق - رضي الله عنه - أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أيٌّ الناسِ أحبٌّ إليك؟ قال: «عائشة». قلت: مِن الرجال؟ قال: «أبوها». قلت: ثم مَن؟ قال: «ثم عمر بن الخطاب» فعدَّ رجالاً. [متفق عليه، وكذا أخرجه الترمذي والنسائي وابن أبي عاصم وأحمد في فضائل الصحابة]
4- أسبقية الصديق - رضي الله عنه - إلى الإسلام: عن عمارٍ, - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا خمسة أَعبُدٍ, وامرأتان وأبو بكر. أخرجه البخاري.
5- شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتصديق أبي بكر له حين كذبه الناس: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : «أما صاحبكم فقد غامر». فسلَّم وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ فأقبلت إليك، فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» (ثلاثًا)، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقال: لا، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلَمَ (مرتين) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر صدقَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ » (مرتين)، فما أوذي بعدها. [أخرجه البخاري وأحمد في فضائل الصحابة]
6- شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر بالصديقية: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فَرَجَفَ بهم، فقال: «اثبُت أُحُدُ، فإنما عليك نبيُّ
وصديقٌ وشهيدان». [أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد في فضائل الصحابة]
7- دفاع الصديق - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاصِ - رضي الله عنهما -: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -º قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله [غافر: 28]، [رواه البخاري وأحمد في المسند]
8- صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة: قال الله - تعالى -: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما». [أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]
9- من بشارات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم اليوم صائما؟ » قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ » قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ » قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا. قال: «فن عاد منكم اليوم مريضا؟ » قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة». [أخرجه الإمام مسلم]
10- علو منزلة الصديق - رضي الله عنه - في الجنة: عن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الدرجات العلى ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما». [أخرجه الإمام أحمد في المسند وفي فضائل الصحابة]
11- الصديق - رضي الله عنه - من الذين استجابوا لله وللرسول من بعدما أصابهم القرح: عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} [آل عمران: 172]، قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهمº الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصابَ يومَ أحدٍ, وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: «من يذهب في إثرهم؟ » فانتدب منهم سبعون رجلاً، كان فيهم أبو بكر والزبير. [أخرجه الشيخان]
12- جبريل وميكائيل يقاتلان مع الصديق وعلي - رضي الله عنهما -: عن عليِّ - رضي الله عنه - قال: قيل لعلي ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل مَلَكٌ عظيم يشهد القتال، أو قال: يشهد الصف». [أخرجه الإمام أحمد في المسند والحاكم وغيرهما]
13- الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفي الخيلاء عن الصديق - رضي الله عنه -: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جَرَّ ثوبه خيلاءَ لم ينظر الله إليه يوم القيامة». فقال أبو بكر: إن أحد شِقَّي ثوبي يسترخي إن لم أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك لست تصنع ذلك خيلاء». [أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وأحمد]
14- تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ليصلي بالناس: عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتد مرضه، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس». فقالت عائشة - رضي الله عنها -: إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس». فعادت. فقال: «مري أبا بكر فليصلِّ بالناس فإنكن صواحب يوسف»، فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. [متفق عليه]
15- إشارة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - باستخلاف أبي بكر: عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: أتَت امرأةٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت يا رسول الله إن جئت ولم أجِدكَ - كأنها تقول الموت - قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر». [أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والإمام أحمد]
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: «ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتُب كتابًا فإني أخاف أن يتمنَّى مُتمنٍ, ويقول قائلٌ: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر». [أخرجه مسلم وأحمد]
16- شهادة الصحابة - رضي الله عنهم - بخيرية أبي بكر وأفضليته: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنخير أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم-
[أخرجه البخاري وأحمد في فضائل الصحابة]
17- شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بذلك: عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال أبو بكر، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. [أخرجه البخاري وأبو داود وابن أبي عاصم في السنة وابن أبي شيبة في المصنف]
هذا مختصرٌ شديدُ الاختصارِ لمناقب الصديق - رضي الله عنه -، وهناك من الأحاديث الصحاح الكثير، والذي لا يمكن أن نستوعبه في هذا المقال، ومن أراد المزيد فليرجع إلى دواوين السنة، وما كتب عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مثل الإصابة، وأسد الغابة، وغيرهما مما كتب في تاريخ الخلفاء حتى يقف على بعض الفضائل التي تميز بها هذا الخليفة الراشد الذي هو صديق هذه الأمة، ونحن نعلم أن درجة الصديقين تأتي بعد الأنبياء وقبل الشهداء، فهل يسوغ لمسلم يؤمن بالله وبكتابه وبرسوله واليوم الآخر أن يطعن أو يسب الصديق - رضي الله عنه-؟
فإذا سَبَّ أحدنا الصحابة أو لَعَنَهُم أو كَفَّرهُم فعلى من نترضَّي؟ ومن المسلمُ إذا كَفَرُوا هُم؟ أأشباه البشر في هذا الزمان الذين يريدون أن يثبتوا العصمة لأئمتهم ونواب أئمتهم؟ أنتنقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونثبت العصمة للأئمة والآيات، إن هذا لشيء عجابُ.
نسأل الله العصمة من الزلل وأن يحفظ علينا ديننا وعقولنا، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه.
ثانيًا: باب الريان:
بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبواب الجنة مخصص كل باب منها لأهل عمل من الأعمال، ومن تلك الأبواب باب الريان الذي يدخل منه الصائمون كما جاء في الحديث الذي معنا، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - تعالى -في صحيحهما عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحدٌ». وأخرجه الترمذي وزاد فيه: «ومن دخله لم يظمأ أبدًا». وفي رواية النسائي وابن خزيمة زيادة: «من دخل شرب، ومن شرب لا يظمأُ أبدًا».
وهذا بيان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصائمين الذين يظمأون نهارهم ابتغاء رضوان الله - تعالى -فإن الله - تعالى -يرضى عنهم فيخصهم بذلك الباب الذي يسمى «باب الريان» مقابل ظمئهم الذي تجشموه في الدنيا، فيكافأون بريّ وامتلاءٍ, من الماء، وليس كالري في الدنيا ولا الامتلاء فيها، بل هو ري مميز بأنه لا ظمأ بعده أبدًا، قال القرطبي: اكتفى بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه، وقال الحافظ في الفتح: أو لأنه أشق على الصائم من الجوع.
أبو بكر في الجنة وإن رغمت أنوف والمسلم إنما يأتي بهذه العبادات ابتغاء ثواب الله - عز وجل - والفوز بالجنة، وانظر حال الصديق - رضي الله عنه - عندما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - وسؤاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فيطمع الصديق - رضي الله عنه - أن تدعوه خزنة كل باب من أبواب الجنة الثمانية، وفي هذا تصور لتنافس هؤلاء الخزنة على العاملين الصالحات في الدنيا من المؤمنين، فيطمع كل خزنة باب في دخول هؤلاء من بابهم، ويجيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الجواب الشافي الذي يُطَمئِنُ فؤادهُ رضي الله وفؤاد كل مؤمن: «نعم» أي
يُدعَى المؤمن من تلك الأبواب جميعها، ثم يبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر». قال الحافظ في الفتح: قال العلماء: الرجاء من الله ومن نبيه واقع، وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر - رضي الله عنه- ، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر ولفظه: «قال أَجَل وأنت هو يا أبا بكر». قال: وفي الحديث من الفوائد إشعارٌ بقلة من يُدعَى من تلك الأبواب كلها، وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها، لكثرة من يجتمع له العمل
بالواجبات كلها، بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات، ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله يكون من باب واحد، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه، والله أعلم.
ولا يعارض هذا ما أخرجه مسلم عن عمر - رضي الله عنه -: «من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله...» الحديث، وفيه: «فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء» لأن هذا يحمل على أنها تفتح له على سبيل التكريم، ثم عند دخوله لا يدخل إلا من باب واحد كما تقدم، والله أعلم.
وفي الحديث أيضًا من الفوائد: أن من أكثر من شيء عُرِفَ به، وأن أعمال البر قل أن تجتمع جميعها لشخص واحد على السواء، وأن الملائكة يحبون صالحي بني آدم ويفرحون بهم، وأن الإنفاق كلما كان أكثر كان أفضل، وأن تمني الخير في الدنيا والآخرة مطلوب، والعلم عند الله - تعالى -.
نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجمع لنا أبواب الخير، وأن يرزقنا الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وأن يتقبل منا جميع أعمالنا وأن يجعلها خالصة لوجهه، وأن يَهدِيَ ضال المسلمين، وأن يرد عاصِيَهم إلى حظيرة الطاعة لله ولرسوله، وأن يجعلنا من أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية والطائفة المنصورة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحابته أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد