بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الله اصطفى من خلقه أنبياء ورسلاً، وجعل خاتمهم أفضلهم، وإمامهم محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وجعل رسالته خاتمة الرسالات، ودينه ناسخاً لما قبله.
ثم اختار لصحبته صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد كانوا - بفضل الله - جديرين بذلك الاختيار، فحملوا الرسالة من بعده - صلى الله عليه وسلم - وكانوا أمناء على أدائها على الوجه الأكمل، وكانوا المجتمع الأنموذج والتطبيق الفعلي لمبادئ تلك الرسالة، ووسيلتهم في ذلك:
1- السلوك العملي الذي هو تطبيق لمبادئ الرسالة.
2- وتعليم الناس دين الله.
3- والجهاد لإعلاء كلمة الله.
4- والصبر على الأذى والمشاق في سبيل الله..
فتخرج على أيدي هؤلاء الأئمة الأعلام تلاميذ نجباء كانوا على حمل الرسالة من بعد أشياخهم أمناء، وهكذا خرّج كل جيل جيلاً بعده يحمل الرسالة ويؤدي الأمانة، وهذا من حفظ الله لهذا الدين الذي ختم به الأديان.
وكان من يهتدي بهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من بعده ويسلك منهجهم في كل صغيرة وكبيرة يعرفون بأهل السنة والجماعة، ومن هؤلاء أهل الحديث المشتغلون بالسنة النبوية وخدمتها قولاً وعملاً، ومن خالف منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام عرفوا بأصحاب الأهواء أو (المبتدعة)، وكان على رأس هؤلاء الخوارج والروافض والجهمية والقدرية والمرجئة والمعتزلة وغيرهم من تلك الطوائف المنحرفة عن ذلك المنهج القويم.
وكلمة أهل الحديث أصبحت علماً - في القرون الثلاثة المفضلة - على من اتصف بهذه الصفات:
1- الاشتغال بخدمة السنة النبوية سنداً ومتناً، حيث ظهر على أيديهم علم الرجال، وعلم مصطلح الحديث الذي امتازت به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم.
2- الالتزام بالكتاب والسنة قولا وعملاً، عقيدة وعبادة معاملات وسلوكاً، سياسة واجتماعاً مع فهمها الفهم الصحيح على نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.
3- عدم تأويل آيات وأحاديث الصفات، أو صرفها عن ظاهرها بغير دليل.
4- عدم تحكيم العقل والهوى في النصوص بدون دليل صحيح، كما فعل المبتدعة من جهمية ومعتزلة وغيرهم ممن انحرف عن منهج أهل السنة والجماعة.
5- فضح أهل البدع والأهواء وبيان ضلالهم وانحرافهم وتحذير الأمة منهم ومن ضلالاتهم، كل ذلك نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
6- الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله، وذلك بالسنان والبيان، كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رض عنهم.
وقد وصف الحافظ ابن حبان في مقدمة صحيحه أهل الحديث، فقال:
(... ثم اختار طائفة لصفوته، وهداهم للزوم طاعته، من اتباع سبل الأبرار، في لزوم السنن والآثار، فزين قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان، من كشف أعلام دينه وأتباع سنن نبيه بالدٌّؤوب في الرحل والأسفار، وفراق الأهل والأوطان في جمع السنن ورفض الأهواء، والتفقه فيها بترك الآراء، فتجرد القوم للحديث وطلبوه، ورحلوا فيه وكتبوه، وسألوا عنه وأحكموه، وذاكروا به ونشروه، وتفقهوا فيه وأصلوه، وفرعوا عليه وبذلوه... ) [1].
وسأعرض تحت هذا العنوان (من أعلام السنة والجماعة) نماذج من أولئك الأئمة الأعلام مبينا حسب الإمكان جهودهم العلمية والعملية في خدمة هذا الدين وتعلمه وتعليمه للناس، لعل شباب الإسلام اليوم يجدون في الاقتداء بهؤلاء الأئمة ويحذون حذوهم فيحيون منهج أهل السنة والجماعة بين الناس ويكونون الأنموذج العملي لمبادئ تلك الرسالة كما كان أسلافهم من أهل القرون المفضلة.
وأول ما أبداً به من هؤلاء الأعلام إمام أهال السنة في خراسان في زمانه، وقدوة المتقين في وقته، العالم الرباني المجاهد: عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن، التركي الأب، الخوارزمي الأم، ولد سنة ثماني عشرة بعد المائة وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة [2].
قال الإمام الذهبي: (... الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، سمع من هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، وسليمان الأعمش، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري، وشعبة، وخلق كثير.
وروى عنه داود العطار وابن عيينة، وأبو إسحاق الفزاري، ومعتمر بن سليمان، ويحيى بن القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله وهب، وعبد الرزاق الصنعاني وخلق غيرهم) [3].
مكانته العلمية:
قال الخطيب البغدادي: كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد.
وقال عبد الرحمن بن المهدي: ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثوري، ولا أحسن عقلاً من مالك، ولا أقشف من شعبة، ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.
وقال الأسود بن سالم: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، وكان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام.
وقال سفيان بن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضل إلا بصحبتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وغزوهم معه.
وقال العباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة. والسخاء والتجارة.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه [4].
هذه شهادات أئمة عدول تبين لنا تلك المكانة العالية التي كان يحتلها هذا الإمام المجاهد، والعالم الرباني بين علماء الأمة، هذه المكانة لم يكن ينالها ابن المبارك لو أنه آثر أن يعيش كما يعيش غيره من الناس على هامش الحياة آثر الدعة والراحة على الجد والجهاد والتضحية والبذل..
بل كان همه - رحمه الله - وشغله الشاغل نصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله، فكان يبذل في سبيل ذلك نفسه وماله وعلمه وصحته ووقته - رحمه الله - ورضي عنه.
جهوده في خدمة منهج أهل السنة والجماعة:
تلقى الإمام ابن المبارك هذا المنهج الصافي عن شيوخه من التابعين وهم تلقوه عن الصحابة رضوان الله عليهم، فبذل - رحمه الله - في سبيل تأصيل ونشر منهج أهل السنة والجماعة كل غال ونفيس لديه ولقد كانت حياته كلها خدمة لهذا المنهج، وتطبيقا عمليا لمبادئ منهج أهل السنة والجماعة، وقد عبر عن ذلك الأسود بن سالم فيما رواه الخطيب بإسناده إليه قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، وكان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام [5].
هكذا كان ابن المبارك، وهكذا كان السلف الصالح كل حياتهم وحركاتهم وسكناتهم لدينهم الذي يدينون به لله لا مجال لغير ذلك في حياتهم كلها وليس في حياتهم مجال لازدواج الشخصية.
وهذه نماذج من تلك الجهود التي قام بها ابن المبارك في سبيل تأصيل هذا المنهج والدعوة إليه:
أولا: في مجال العقيدة:
كان لابن المبارك - رحمه الله - موقف من أهل البدع والأهواء، وهو موقف المؤمن الواعي لما يدور حوله وما يحاك من الدس والتشويه والتحريف لعقيدة هذه الأمة عقيدة أهل السنة والجماعة، لذلك نجده يوصى أحد تلاميذه فيقول: ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة [6].
وهذه بعض مواقفه:
- روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية بإسناده إلى ابن المبارك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله - تعالى -من كثرة ما أدعو على الجهمية، قال: لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء. [7].
- وأخرج الذهبي بإسناده إلى على بن الحسن بن شقيق قال: سمعت ابن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية [7].
-وعنه أيضاً قال: قلت لعبد الله بن المبارك: كيف يعرف ربنا - عز وجل - قال: في السماء على العرش، قلت له: إن الجهمية تقول هذا قال: لا نقول كما تقول الجهمية: هو معنا هاهنا.. [8].
قال الذهبي - معقبا - قلت: الجهمية يقولون: إن الباري في كل مكان، والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله - تعالى -: (وهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم) [الحد يد: 4]، يعني بالعلم، ويقولون: إنه على عرشه استوى، كما نطق به القرآن والسنة.
وقال الأوزاعي وهو إمام وقته: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله - تعالى -فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقة، لا مثل لها، وكذلك صفاته - تعالى -موجودة، لا مثل لها [8].
وأخرج أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى عمار بن عبد الجبار قال: سمعت ابن المبارك يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: الجهمية كفار، والقدرية كفار، فقلت لابن المبارك: فما رأيك؟ قال: رأيي رأي سفيان [9].
- وفي كتاب السنة للإمام أحمد عن إبراهيم بن شماس قال: سمعت ابن المبارك يقول: الإيمان قول وعمل، الإيمان يتفاضل [10]..
- وفي كتاب الصلاة لابن القيم عن يحيى بن معين قال: قيل لعبد الله بن المبارك: إن هؤلاء يقولون: من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن مستكمل الإيمان، فقال ابن المبارك لا نقول نحن ما يقول هؤلاء، من ترك الصلاة متعمداً من غير علة حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر [11].
- وقوله هذا والذي قبله وما سيأتي هو رد على المرجئة القائلين: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
روى أبو عثمان الصابوني عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - ابن راهويه - قال: قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العباد - الظن أنه يذهب مذهب الخوارج - فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر، قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن على كبر السن صرت مرجئيا، قال: لا تقبلنا المرجئة، المرجئة تقول: حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة، ولو علمت أني قبلت منى حسنة لشهدت أنى في الجنة [12].
هذا هو موقف عبد الله بن المبارك من أصحاب البدع والأهواء المنحرفة إنه موقف العالم المجاهد العارف لدينه، والناقد البصير لتلك المبادئ الهدامة التي يدعو إليها أصحاب الأهواء، والمتيقظ لخطر تلك العقائد الدخيلة على الإسلام والمسلمين، والتي أدخلها عليهم أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، وما تؤدي إليه من فساد في الاعتقاد، وفساد في الدين، وفساد في الأخلاق.
إنه يتبرأ من عقائد الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية والفلاسفة، ويبين فساد مقالاتهم ومذاهبهم، وفيما نقلناه من النصوص عنه يصرح ببطلان هذه العقائد المنحرفة.
ثم هو في أثناء ذلك لا يغفل عن بيان منهج أهل السنة والجماعة في الإيمان بالله بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة والتسليم لهما، وعدم تقديم العقل عليهما أو تحكيمه فيهما، وفي احترام الصحابة والترضي عنهم وعدم الخوض فيما جرى بينهم، وكان يحذر من الرواية عمن يسبهم رضي الله عنهم، روى ذلك الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن على بن شقيق قال. سمعت ابن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف [13].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) 1/84-85 من مقدمة صحيح ابن حبان، ط مؤسسة الرسالة.
(2) سير أعلام النبلاء 8/336، الطبعة الأولى.
(3) تاريخ بغداد 10 /152- 153 طبعة المكتبة السلفية بالمدينة.
(4) انظر تاريخ بغداد 10 /156 -163 سير أعلام النبلاء 8 /336 - 346، هذا وهناك أقوال كثيرة في الثناء وبيان مكانته آثرت الاقتصار هنا على أهمها وأجمعها.
(5) تاريخ بغداد 10/167 -168 المكتبة السلفية بالمدينة.
(6) سير أعلام النبلاء 8 / 353، ط الأولى.
(7) سير أعلام النبلاء 8 / 353 -356، ط مكة المكرمة.
(8) سير أعلام النبلاء 8 / 355 -356، ط مكة المكرمة.
(9) حلية الأولياء 7 /28.
(10) كتاب السنة 1 /5 7، ط السلفية بمكة سنة 1349 هـ.
(11) كتاب الصلاة 63 ط المكتب الإسلامي.
(12) عقيدة أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني / 70.
(13) مقدمة صحيح مسلم 1/ 16، وعمرو بن ثابت هو ابن أبي المقدام ضعيف رمي بالرفض مات سنة 172 هـ (التقريب / 257) ط الباكستانية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد