بسم الله الرحمن الرحيم
في عام 1931م تأسست في الجزائر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان هذا العمل من أبرز الأعمال وأنجحها في نهضة الجزائر في العصر الحديث، واستقلالها عن فرنسا. كان هذا بعد مرور قرن كامل على احتلال فرنسا للجزائر (كانت بداية الاحتلال عام 1830م)، وبعد أن ظنت فرنسا أن الجزائر قطعة منها وإلى الأبد، وأنها تابعة لفرنسا ثقافياً وسياسياً. احتفلت فرنسا عام 1930م بمرور قرن كامل على احتلالها لهذا القطر الإسلامي، وأرادت أن يكون هذا الاحتفال لمدة ستة أشهر، ودعت إليه دول العالم، وقال أحد ساسة فرنسا في هذا الاحتفال: \"لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مئة سنة، فقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، إن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام في هذه الديار\" وكتب الكاردينال (لافيجري) بهذه المناسبة: \"إن عهد الهلال في الجزائر قد ولّى\".
أرادت فرنسا سلخ الجزائر عن هويتها ولسانها العربي، فمنعت تدريس التاريخ الإسلامي، والمدرسة التي تريد تعليم العربية تحتاج إلى إذن من الحاكم العسكري، ومنعت تفسير القرآن في المساجد، وصادرت الأوقاف الإسلامية وألحقتها بأملاك الدولة، وحولت بعض المساجد إلى كنائس وبعضها إلى مرافق دنيوية، وهدم بعضها لإنشاء الشوارع والساحات. إن صنع فرنسا هذا جعل الشعب الجزائري يعود إلى الأمية العلمية بعد أن كان أكثر الجزائريين عام 1830م يحسنون القراءة والكتابة، وكان في العاصمة وحدها مئة مدرسة، وكان في كل قرية مدرسة، وكانت الجزائر قوية أيضاً في اقتصادها، ولكن الماريشال (كلوزيل) نهب عشرات الهكتارات من الأراضي الخصبة بعد أن قتل أصحابها أو نفاهم من بلادهم، لقد فعلت فرنسا في الجزائر ما لم تفعله دولة محتلة مع شعب مُحتل، حتى إنها استنكرت أن يصلي أهل الجزائر صلاة الغائب على الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري الذي توفي في دمشق، مع أن فرنسا تقيم مئات التماثيل لتخليد ذكرى قوادها وكبرائها، ولكنها تقاوم صلوات على رجل خدم أمته.
لم يمت الشعب الجزائري، وإن كانت حركته لمقاومة فرنسا قد هدأت بعد عام 1870م، والأمة الإسلامية أمة ولود وليست عقيماًº فمن عائلة كبيرة ذات تاريخ عريق في الجزائر جاء الشيخ عبد الحميد بن باديس ليعيد إلى الأمة روحها في مدينة قسنطينة في شرقي الجزائر. ولد ابن باديس عام 1889م، وفي جامعة الزيتونة تخرج ورجع إلى الجزائر بعد أن اتفق هو وصديقه ورفيق جهاده الشيخ البشير الإبراهيمي على خطة واضحة لإنقاذ الجزائر من براثن فرنسا، يقول الإبراهيمي عن المدة مـا بين (1920-1931م): كنا نتلاقى فنزن أعمالنا بالقسط، ونزن آثارها في الشعب بالعدل، وكانت مقدمة لتأسيس جمعية العلماء.
إنه عمل كبير جداً، ولكن ابن باديس بدأه بداية بسيطة: تدريس الدين والعربية، وتفسير القرآن في مساجد قسنطينة، حتى إذا نضجت الفكرة وتهيأت الأمور تأسست جمعية العلماء، وأسندت رئاستها إلى الشيخ ابن باديس ونائبه الإبراهيمي، ولم تقم هيئة علمية منظمة من علماء أحرار مستقلين في بلد آخر مثلما قامت في الجزائر، وكانت فرنسا تعتقد أن المسلمين لا يضطلعون بالأعمال العظيمة، فخاب ظنها، وفي عام 1938م احتلفت الجزائر ولمدة أسبوع بختم تفسير القرآن للشيخ ابن باديس هذا التفسير الذي امتد لمدة خمس وعشرين سنة، وكان حدثاً يستحق هذا الاحتفال.
اجتمع علماء الجزائر على اختلاف طبقاتهم ومن كل الجزائر، واتحدوا على أهداف واضحة محددة، ومن أعظم إنجازات هذه الجمعية:
1- محاربة البدع والخرافات، وتطهير عقائد الإسلام وعباداته من الانحراف والضلال.
2- إحياء تاريخ الإسلام.
3- الشروع العاجل في تعليم العربية للصغار، ودعوة كل المتخرجين من الزيتونة للمساهمة في هذا العمل.
4- إبراز فضائل الإسلام: إيثار العزة والنفور من الذلة، بذل المال والنفس في سبيل الدين، نشر التآخي بين أفراد المجتمع، ومحاربة الرذائل التي شجعها الاستعمار.
5- المطالبة باستقلال المساجد والأوقاف عن الدولة وإلحاقها بالجمعية.
6- أنشأت الجمعية الصحف والمجلات لتبصير الشعب بحقوقه وواجباته، كما أنشأت آلاف المدارس وبعض المعاهد العليا.
وأعلن الشيخ ابن باديس رداً على فرنسا: \"إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تكون فرنسا ولو أرداتº لأنها بعيدة في لغتها وأخلاقها وعنصرها ودينها...\" وأصبحت الجمعية هي روح الجزائر، فإذا ذكرت الجزائر ذكرت الجمعية، حتى إذا شعرت بقوتها واجتماع الناس حولها، وبرز منها القادة والعلماء، شاركت في الأمور السياسية ثم كان مقاومة بالقوة، ثم كان الاستقلال عن فرنسا.
لم تقم هيئة علمية منظمة من علماء أحرار مستقلين في بلد آخر مثلما قامت في الجزائر، وكانت فرنسا تعتقد أن المسلمين لا يضطلعون بالأعمال العظيمة، فخاب ظنها
بدأ ابن باديس عمله بداية سهلة لينة وانتهت صارمة ممتنعة، لم يفطن لها المستعمر الفرنسي أول الأمر وظنه شيخاً مثل باقي الشيوخ الذين يدرسون الأطفال في المساجد، ولكنه كان الرجل الذي ينحت في الصخر تحت خرير الماء الهادئ حتى أتى على الصخر وأزاله من طريق الأمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد