نور وسط الظلام


  

بسم الله الرحمن الرحيم

بصيص من النور الربانى-وسط الظلام الدامس- أشرق...

بادرة أمل وإشراقة صباح- بعد ليل حالك فى الأفق- لمعت...

مؤمن صادق الإيمان. جلس على ظهر فرسه أكثر مما جلس على عرشه...

رقد في الخيام والتحف السماء مع مقاتليه أكثر مما نام بجوار أهله...

زينت طعنات السيوف والرماح جسمه بدلا من التزين بالحلى والجواهر والأوسمة...

فارس زاهد لم يتكرر...

زاهد متصوف لم يغمض له الجفن الا منتصف الليل لينهض في الثلث الأخير من الهزيع ليتهجد...

يقبل على الصلاة والدعاء والاستغفار كأنه يحمل على عاتقه خطايا الناس أجمعين...

يتلوا ما تيسر من القرآن الكريم حتى ينبلج الفجر- ليوقظ أهله إن كان بينهم او قواده وجنوده إن كان في ساحة الوغى والجهاد ليؤمهم فى صلاة الفجر- ثم يجلس لتمشية شؤون دولته واستقبال أبناء رعيته لقضاء احتياجاتهم...

يقول عنه ابن الأثير: \" لم يكن بعد \" عمر بن عبد العزيز \"مثله \" ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه\"

فمن هو هذه الومضة النورانية والأمل الذى أشرق؟؟

ومن هذا الفارس الإنسان؟؟

ومن هو هذا الملك العادل؟؟

هيا بنا معاً فى رحلة عبر صفحات التاريخ المشرق نتعرف على هذا العظيم: -

 

***

*إنه نور الدين: -

*هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك عماد الدين زنكي، ملك الشام ومصر الملقب بالملك العادل، ولقب أيضا بالشهيد فقد كان يتمنى أن يموت شهيدا، وطالما تعرض للشهادة فلم يدركها، وقد أدركها على فراشه ودعاه المسلمون بالشهيد، كان نور الدين أعدل ملوك زمانه وأجلهم وأفضلهم،

- ولد نور الدين في 17 شوال سنة 511 هـ في مدينة حلب، وقد تربى نور الدين على القرآن والتقوى وحب الجهاد

- وضع نور الدين هدفا له منذ الطفولة وهو أن يحرر المسجد الأقصى وبلاد المسلمين من الصليبيين وأخذ يعد نفسه ويسعى لتحقيق هذا الهدف الكبير

- وشاء الله أن يتولى حلب وما يتبعها بعد استشهاد أبيه سنة 541هـ/ 1146م، فقضى عمره في جهاد الصليبيين، واستطاع خلال 28 سنة - هي مدة حكمه - أن يحرر حوالي 50 مدينة وقلعة، وفي عام 569هـ/ 1173م، كان نور الدين قد أعد عدته للهجوم النهائي على بيت المقدس وتحريره، حتى إنه قد جهز منبرًا جديدًا رائعًا للمسجد الأقصى ليوضع فيه بعد النصر والتحرير، إلا أن المنية عاجلته، فتوفي - رحمه الله - في 11 شوال 570هـ/ 15 مايو 1174م،

 

** هي صفات الأبطال:-

- كان أبيًا عزيزًا شهمًا شجاعًا يغار على حرمات المسلمين، ولا يهدأ له بال حتى ينصرهم وينتقم لهم، فلم يكد يمر شهر على استلامه الحكم حتى هاجم الصليبيون الرها ظنًا منهم أن الحاكم الجديد ضعيف، فهاجمهم وقتل ثلاثة أرباع جيشهم. وفي سنة 558هـ هاجم الصليبيون جزءًا من جيشه على حين غفلة، فأكثروا فيهم القتل، ونجا نور الدين في اللحظة الحاسمة وهرب، وقد عرفت هذه المعركة بـ\'البقيعة\'، فقال: \'والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام\'، وعرض الصليبيون عليه الصلح فرفض، وكان انتقامه منهم رهيبًا في معركة حارم في 11 أغسطس 1164م، إذ قتل منهم عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف أو أكثر، وكان بين الأسرى عدد من كبار أمرائهم وقادتهم

• كان - رحمه الله - حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية متبعا للآثار النبوية محافظا على الصلوات في الجماعات كثير التلاوة محبا لفعل الخيرات عفيف البطن والفرج مقتصدا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس حتى قيل إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى صموتا وقورا

- وكان شهما شجاعا ذا همة عالية وقصد صالح وحرمة وافرة وديانة بينة

• يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم ويحسن إليهم وكان يقوم في أحكامه بالعدل واتباع الشرع المطهر ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه

- وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يصبح وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت معين الدين تكثر القيام في الليل فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرا جزيلا وجراية كثيرة.

***

 

** إنها مواقف العظماء: -

*نحن خدم للشرع...

رأى يوما رجلا يحدث آخر ويومئ إليه فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم وهو يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك أقبل مع خصمه ماشيا إلى القاضي وارسل نور الدين إلى القاضي أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي حتى انفصلت الخصومة والحكومة ولم يثبت للرجل على نور الدين حق بل ثبت الحق للسلطان على الرجل فلما تبين ذلك قال السلطان إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا خدماً لرسول الله ولشرعه

فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه فما أمر به امتثلناه وما نهانا عنه اجتنبناه وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.

 

** ومن هو محمود؟

وقال له يوما قطب الدين النيسابوري: - بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك فإنك لو قتلت قتل جميع من معك وأخذت البلاد وفسد حال المسلمين فقال له: -

((اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله ومن هو محمود من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو ومن هو محمود))

فبكى من كان حاضرا

***

** ويحك لا تغتب عندى أحد...

وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ ويكرمهم ويعظمهم وكان يحب الصالحين وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء فقال له نور الدين: - ((ويحك إن كان ما تقول حقا فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا على أني والله لا أصدقك وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره عندي بسوء لأوذينك))

فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك

***

** هيبة وتواضع: -

كان نور الدين - رحمه الله - مهيبا وقورا شديد الهيبة في قلوب الأمراء لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين نائب حلب وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون وإذا أعطى أحدا منهم شيئا مستكثرا يقول: -

((هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا))

***

**والله لنحفظن الشريعة: -

- كتب إليه الشيخ عمر بن الملا: - \"إن المفسدين قد كثروا ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له؟؟! \" فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: -

((إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله - تعالى -فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه والعقول المظلمة لا تهتدي والله - سبحانه - يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم))

فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك وكتاب الملك إلى الزاهد

***

** بهم تنصرون...

ويُروى أنه لما رأى أصحاب نور الدين كثرة خروجه للجهاد وإنفاقه عليه قال له بعضهم: \'إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والقراء، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك وقال: \'والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟! \"

وكانت بلاد الشام خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقرًا للعلماء والفقهاء

 

***

**من أقواله- رحمه الله -: -

((إني لأستحي من الله - تعالى -أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج))

**

\'والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام\'

**

((قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك ولو كان في خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها والأعمال بالنية((

**

((إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله - تعالى -فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه والعقول المظلمة لا تهتدي والله - سبحانه - يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم))

 

**شهادات المؤرخين وثناؤهم عليه:-

- قال أبن الأثير في بيان فضله:

\"قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه\".

لم يأبه بأبهة الحكم والسلطان ولم يتقاضى راتبا من بيت المال المسلمين وإنما كان يأكل ويلبس هو وأهله من ماله الخاص ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة قد اشتراه من ماله، يحل فيها عندما يعود من ساحة الجهاد.

***

- يقول الإمام ابن عساكر:

\"بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة\".

 

***

وقال الفقيه أبو الفتح الأشري: -

\" وكان نور الدين محافظا على الصلوات في اوقاتها في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها والطمأنينة في ركوعها وسجودها وكان كثير الصلاة بالليل كثير الإبتهال في الدعاء والتضرع إلى الله - عز وجل - في أموره كلها\"

***

- أما الدكتور ماجد عرسان الكيلاني والدكتور عماد الدين خليل فيقولان: -

\"إن الرحلة مع نور الدين يعلمنا كيف يكون الإيمان دافعاً حضارياً، فضلاً عن كونه الأساس المبدئي، أو العامل، الذي يشدّ القيم المبعثرة والإرادات المختلفة الاتجاه، وأعمال الناس ومنجزاتهم إلى هدف محدّد، ويضع لها الإطارات التي تجعل من مجموع هذه القيم والأهداف والإنجازات والأعمال وحدة حضارية متميزة. فهو فضلاً عن هذا كله- يقوم بوظيفة المحرك، أو الدافع الداخلي، الذي يدفع الإنسان والجماعات، في نطاق الحضارة الواحدة، إلى التقدم دوما بحضارتهم صوب آفاق جديدة ومكاسب أكثر غنى، عن طريق استغلال إمكانات الزمن والمكان إلى أقصى مدى ممكن... \".

لقد حقق نور الدين محمود بانقلابيته التي غطت جل مساحات الحياة، واستمداده من منابع الإسلام الأصلية في القرآن والسنة، الأرضية المناسبة التي تبعث المجاهد إلى الوجود وتمكنه من أداء أثره في أحسن الظروف، وأكثرها قدرة على شحن طاقاته، لا سيما وأن الجهاد لا يتحقق مفهومه الحركي الدائم إلاّ بوجود شروط معينة أبرزها: القيادة المخلصة، الملتزمة، الواعية، والتمسك الجماهيري، والدفع الروحي الدائم، والرؤية الموضوعية... \".

 

 

وفى النهاية تبقى كلمة

للأسف عجزت الكلمات أن تعبر عما يعتمل في صدري الآن

فلندعو لشهيدنا بالرحمة

ولندعو لأمتنا أن يمن عليها بأمثاله

ولندع شبابنا أن يتمثله قدوة ونموذجا وأن يتخذه نبراسا وسراجا منيرا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply