بسم الله الرحمن الرحيم
لست أنسى تلك الليلة التي كانت الأولى في اللقاء بيننا، لا أدري أكانت حفلة بمناسبة تخرج بعض طلاب الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، أم كانت بمناسبة محاضرة لسماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، أم لغيره من أساتذة الجامعة، فقد نسيت ذلك كله كما نسيت تاريخ المناسبة.
الحاصل أن مقدم الحفل أو المحاضرة نادى أحد طلاب المعهد الثانوي، ليقرأ ما تيسر من القرآن الكريم، ولم أنتبه لاسم هذا الطالب، لأن الطلاب كثير، ولا غرابة أن يعين أي طالب يحفظ القرآن أو له صوت متميز به، أن يفتتح حفلة أو محاضرة بتلاوة بعض آي كتاب الله.
ولكن صوت هذا القارئ شد انتباهي مع صغر سنه، وكنت حينئذ مسئولا عن شؤون الطلاب في الجامعة التي تكثر فيها رحلات الطلاب الذين يتسابقون إلى التسجيل فيها بمجرد الإعلان عنها، فلا ينتهي اليوم الذي تعلن فيه الرحلة إلا وقد أغلق التسجيل، لعدم وجود مكان في الحافلات التي لم تكن تقل عن أربع في الغالب.
فسألت عن الطالب من اسمه فقيل لي: اسمه فلان، فعزمت على أن أدعوه للمشاركة في جميع الرحلات سواء كانت لطلاب الكليات أو المعاهد، ليكون مقرئنا فيها، وكلك عزمت على دعوته لحضور الندوات الكثيرة التي تعقد لطلاب الجامعة ويحضرها كثير من أساتذة الجامعة.
وفي اليوم الثاني طلبت حضوره من المسئولين في المعهد الثانوي، وعندما جاء قلت له: إننا نرغي في اشتراكك مع الطلاب في رحلاتهم وندواتهم، وعندنا رحلة في هذا الأسبوع رحلتان سنسجلك فيهما.
فقال: لا مانع عندي إذا أذنت لي أمي، وذهب صاحبي ولم يعد، ويبدو أن أمه لم تأذن له، وبره بها منعه من الاشتراك.
وكان اللقاء به قليلا بعد ذلك ومضى الوقت إلى عام 1400هـ تقريبا زارني في أحد الفنادق في القاهرة عندما كنت أصحح رسالتي للدكتوراه لطباعة النسخ المطلوبة منها لتقديمها للكلية، وكان يساعدني أحيانا في التصحيح وترتيب الأوراق، فقويت الصلة بيننا بعد ذلك.
ولم يمر بعد ذلك شهر دون أن يزورني في منزلي بالمدينة.
وشاء الله - تعالى -له أن ينطلق صوته مجلجلا بكتاب الله إماما للمصلين في قبلة المسلمين، تقديرا له من قبل ولي أمر المسلمين في المملكة العربية السعودية.
ولد الشيخ علي جابر في مدينة جدة عام 1373هـ:
فاشتدت إليه الأبصار وشنف صوته الآذان كل صقع في العالم، وكان أصغر أئمة المسجد الحرام سناً، ولا أدري هل سبقه أحد من الأئمة في العصور المتأخرة من أم الناس في سنه أو أصغر منه.
ثم حصل ما حصل من ترك الإمامة في المسجد الحرام، وأصيب بما أصيب به من مرض نفسي، وفي فترة مرضه قويت صلته بي لأني كنت أحاول مواساته وجلب الطمأنينة إلى نفسه، ومما يدل على ذلك حرصه الشديد على زيارتي المتكررة إلى درجة أنه أحيانا كان يزورني في منزلي بعد صلاة الفجر مباشرة.
وحصلت مناسبات أخرى جمعتني به كذلك في القاهرة، زادت صلتنا قوة.
وعندما انتقل إلى جدة لمزاولة التدريس في جامعة الملك عبد العزيز استمر في الاتصال بي هاتفيا، أو الزيارة المباشرة كلما جاء لزيارة أقاربه في المدينة.
وفي هذه السنة 1426هـ فقدت صاحبي فلا اتصال هاتفي ولا زيارة شخصية، وليس عندي وسيلة اتصال به إلا جواله، فحاولت الاتصال به مرارا، ولكن الجوال لا يعمل، وأعرف أصدقاءه وبعض أقاربه في المدينة، ولكني لا أعرف عناوينهم ولا وسائل الاتصال بهم.
فاتصلت بكثير من الأصدقاء وكلفت بعض الأبناء أن يبحثوا لي عن وسيلة تمكنني من الاتصال به، فلم أجد من ذلك شيئا، حتى اتصل بي أحد أبنائي اليوم الجمعة 15/11/1426هـ بعد العصر يخبرني أن صاحبي توفي يوم أمس الخميس وصلوا عليه في المسجد الحرام الذي أكرمه الله بإمامة المصلين فيه فترة من الزمن.
لقد كان صاحبي هو الشيخ الدكتور علي جابر - رحمه الله -، الذي مكنه الله من حفظ كتابه حفظا لا أقول: إنه لم يمكن غيره منه، ولكن أجزم بأنه لم يكن فرق عنده - رحمه الله تعالى -بين قراءته من المصحف أو من حفظه.
يعرف ذلك كل من سمعه يرتل كتاب الله في أي مناسبة من المناسبات، ولا سيما في فترة إمامته في الحرم، وبخاصة في رمضان.
إضافة إلى ذلك أن ليس حافظا فقط، ولكنه كان ذا فهم ووعي لكتاب الله، وأشهد أنني كنت أحيانا إذا بحثت عن معنى آية أو كلام فيها للمفسرين يسرع بإفادتي بذكر الكتاب والموضع الذي فيه المطلوب.
ولد الشيخ علي جابر في مدينة جدة عام 1373هـ، أي إن عمره 53 عاما هجريا، ولا أدري إن كان له كتب أو رسائل ألفها غير رسالتي الماجستير والدكتوراه، ولعل إخوانه وأقاربه يبرزون ما خفي علينا من آثاره، فقد كان - رحمه الله - قليل الكلام عن نفسه.
وأنا إذ أودعه وأدعو له بالرحمة والمغفرة وأن يكتب الله - تعالى -له حسنات كل حرف نطقه من كتابه في كل مرة في حياته أضعافا مضاعفة من عنده - تعالى -، أقول: وأنا أودع هذا الرجل الصالح أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا -:
أقول: إن وسائل الإعلام من صحف ومجلات وإذاعات وتلفازات وفضائيات، لو ماتت راقصة في هوليود، أو مغنية في أي قطر من أقطار العالم، لأحدثت لها من الضجيج الإعلامي العالمي ما يجعل أطفال الدنيا تعرفها وتعرف نشاطها ومولدها وأدوار حياتها، ولخصصت لها صفحات وبرامج خاصة ولجمعوا للحديث عنها وعما قدمته للأمم كبار الفنانين والمتخصصين، ليتحدثوا عنها ويثنوا عليه الثناء الذي لا حدود له، وتمر أسابيع بل أشهر وهم يؤبنونها.
ولكن علماء أجلاء لهم فضلهم في العلم والعمل والدعوة والجهاد يفارقون الحياة فلا يسمع عنهم الناس شيئا يذكر، إلا إذا حسن حظهم بشهرة لا يقدر الإعلاميون على طمسها، وإذا ما جادت صحيفة بذكر شيء من ذلك لا يزيد عن سطرين أو ثلاثة بخط صغير قد لا تقع عليه أعين المتصفحين.
وإذا كر في وسيلة أخرى، فإنما يذكر خبرا عاديا لا ينتبه له.
أسأل الله لك يا أخانا الحبيب وصديقنا الحميم علي جابر الرحمة والمغفرة، وأن ويوسع الله لك في قبرك، ويملؤه نورا ويفتح لك بابا إلى الجنة إلى يوم البعث، وإذا حرمنا من لقائك في الدنيا فأسأل الله أن يجمعنا بك في دار كرامته.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد