بسم الله الرحمن الرحيم
هذه ترجمة شيخنا المجاهد ناشر كتب الأئمة الأماجد الشريف محمد زهير الشاويش الحسيني - حفظه الله - تعالى ورعاه ـ
ألقاها يوم تكريمه في الندوة الإثنينية بجدة بتاريخ 21 شوال 1416 هـ، وقد طبعها المكتب، وأرجو المعذرة من الأخطاء لسرعة الكتابة.
ترجمة ذاتية موجزة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، والرضا عن آله وصحبه الكرام، ومن ثم الشكر الجزيل لصاحب هذا البيت العامر الغامر، الأخ الكريم الشيخ عبد المقصود خوجه، وشكرًا لكم رواد هذه الندوة الندية، والروضة العطرة الزكية، وتحية للذين سبق أن جمعتهم منذ إنشائها من أهل العلم والفضل، ورجال الدعوة إلى الخير.
وأخص المتفضلين بالحضور اليوم، بأعظم امتناني ووافر ثنائي.
وأنا أعلم من نفسي أن مشاركتكم صاحب الدار في هذا التكريم، هو الموافق لما أنتم عليه من خلق رفيع.
وقد قبلت هذه الدعوة لإيماني بأن ذلك تشجيع من أخي عبد المقصود لأجيالنا المقبلة على الخير، حيث يكرم صاحب العمل القليل، والجهد المتواضع، في خدمة المثل العليا التي دعا الله إليها، وحض رسوله الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها.
وأراني متمثلاً قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح: (من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فقولوا: جزاك الله خيرًا).
أيها الإخوة الأكارم:
منذ أن تبلغت خبر اقتراح أن أكون من المكرمين وهو شرف أعتز به، كنت أفكر في أمرين:
الأول: من أنا حتى أكون من هذه الفئة المُكرَمَة والمكرِّمة؟! ووجدت الجواب:
إن الكريم يضع كرمَهُ حيث شاء!!.
والثاني: بماذا أُقدم نفسي إليكم: وما عساي أن أقول عن نفسي.. وتاريخي.. وعملي.. فوجدتُني راقمًا ترجمةً ذاتية موجزة أكشف فيها عن جوانب من سيرتي ومسيرتي في حقل العلم والدعوة، وعمل ما رجوت به نفع أمتي، فإذا قبلتم بها كان تفضلكم هذا تابعًا لفضلكم القديم ـ يوم اقترحتموني ـ وإلا فبعد انتهاء هذا الاحتفال الحافل قولوا: كان تكريمنا لزهير من باب (ولا يشقى بهم جليسهم).
وإذا أقلتموني منه فلن تجدوا مني سوى الرضى والتسليم. وحسبي أنني جلست بينكم على كرسي الامتحان، وهو شرف بحد ذاته، وما كل من يرشَّحُ يَنجَحُ!!.
اسمي: محمد زهير (ومحمد اسم تشريف يقدم على أكثر الأسماء في بلدنا) وعرفت بـ: زهير الشاويش، ووالدي مصطفى بن أحمد الشاويش، من الذين كانوا يتعاطون التجارة، في عدد من الأقطار العربية، وحالتنا كانت فوق المتوسطة من الناحية الاجتماعية والمادية.
ووالدتي زينب بنت سعيد رحمون (وفي بعض بلادنا أَنَفةٌ من ذكر اسم الأم والزوجة والبنت) ووالدها من الوسط نفسه الذي منه أهلي.
وعندنا أوراق وحجج تثبت أننا من نسل الحسين بن علي الهاشمي (والناس أمناء على أنسابهم).
ولدت في دمشق سنة 1344 من الهجرة 1925 ميلادية، ولا أجد ضرورة لذكر مفاخر بلدي دمشق، فهي أشهر من أن يُنَوه بها أبقاها الله ذخرًا للإسلام، وحصنًا وملاذًا للعرب والمسلمين.
ولكن اسمحوا لي أن أتحدث عن حي الميدان الذي أنا من وسطه بكلمات والإنسان ابن بيئته ـ كما هو ابن أهله وعشيرته ـ.
الميدان هو الحي الجنوبي لمدينة دمشق، وكان مجموعة قرى متفرقة، وساحات واسعة، ومنازل مشتتة ضمن البساتين... وعند كل مدخل زقاق قبر يدعى أنه لصحابي، أو عالم، أو ولي ـ ولا شك أن بعضها ثابت ـ وأما طريقنا السلطاني الواسع فيبدأ من باب الجابية.. وينتهي ببوابة الله. لأنه طريق الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وأصبح الميدان شبه قرية كبيرة لا سور لها، ولكنها منعزلة عن المدينة دمشق، ومفارقة لما حولها من قرى ومضارب العشائر، وطرق التجارة.
وفي الميدان أبناء عشائر توطنت أيام الفتوحات وقبلها، وكنا نعرف العصبية اليمانية والقيسية حتى عهد قريب، ونعرف حيَّ عقيل وقهوةَ (العكيل) من سكان نجد، وعلى الاخصِّ أهل القصيم.. كما عندنا حارة المغاربة وخان المغاربة ممن هاجر إلينا من كل بلاد المغرب.
الحياة العلمية:
وفي الميدان تجمعات علمية وخلقية وخصوصيات وميزات متأصلة فيه، وهي باقية حتى اليوم ـ والحمد لله ـ (وأنا أتكلم عما كان أيام طفولتي وقبلها بقليل من الزمن).
فالفقه الشائع بين أبناء الشعب كافة كان فقه الإمام الشافعي.. مع وجود آثار يراها المتتبع من بقايا الحنبلية والظاهرية في المعتقد والفقه.
وأما السلفية فلم تنقطع عنا، منذ أن كان مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية قرب بيتنا، ويسمى مسجد القرشي. وبيته في المدرسة السكرية قبيل بداية الحي في باب الجابية، وما يتداوله الخلف عن السلف من أخبار أمره بالمعروف، وشجاعته في كل المواطن وجهاده، وما قام به الشيخ ابن عروة الحنبلي الميداني في جمع تراث السلف في كتابه الموسوعي الكبير النادر (الكواكب الدرية) وأدخل فيه العشرات من مؤلفات شيخ الإسلام.
وجور الحكام حاف علينا في أوقات كثيرة.. حتى كانت نهضة الشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ عبد الرزاق البيطار، والعلامة بهجة البيطار، وكلكم يعرف فضله، ومعهم أفراد غمرهم الجحود.. ومنهم الشيخ سعيد الحافظ، والشيخ محمد بدر الدين الفقيه المصري، رحم الله الجميع.
وحي الميدان كان قلب المقاومة ضد فرنسا منذ دخولها إلى بلادنا، ومنه انطلقت الثورة السورية الكبرى سنة 1344هـ 1925م أي سنة مولدي، وكان القائم الأكبر بأعباء الجهاد في فلسطين من عام1927 إلى 1939.
من هنا أقول:
أنا زهير الشاويش تتمثل بي بعض من مؤثرات هذا الحي، وما يضاف إليها من قناعاتي وما أثرته في بيئتي، والموروث من عائلتي.
فلا غرو إن وجدتم عندي ملامح من مغامرة الحسين، والإصرار عليها ولو انتهت بالفشل، ومن المحافظة على نصرة عثمان وتأييده في عدم تخليه عن الخلافة، وأن الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن، ومن دمشقيتي: المحافظة على شعرة معاوية ووضعها نصب عيني في تعاملي مع الناس ـ أحيانًا ـ ومن الشهبندر شعاره: خيرٌ لنا أن نغرق متحدينَ من أن نعوم متفرقين، وحتى الحجاج ليس نابيًا عندي في كل أعماله وضرباته، وفي تعاملي عند الاختلاف: التعاون فيما نتفق عليه والنصح فيما نختلف فيه، وأخيرًا غض الطرف عن الإيذاء، وعدم المقابلة بالمثل، إيمانًا مني بعدل الله - سبحانه وتعالى -.
التعليم أيامنا:
وكان التعليم في وقتنا يجري بطريقين:
الأول: هو الغالب يتمثل بالكتاب عند شيخ يلقن الأطفال قصار السور، وبعض الأحاديث القليلة، ومبادئ الحساب، وأحكام الوضوء، والصلاة ـ وأكثرها ينمي الوسوسة عند الطالب ـ.
والثاني: في تلك الأيام بُدِأ بفتحِ المدارس الرسمية، ولكن قوبلت بردة فعل عنيفة خوفًا على عقائد الأبناء.. ورفضًا لسيطرة المستعمر الكافر على مناهجنا، وتربية أولادنا، وقد برز ذلك من بعض هل التدين، وتمثل بمظهرين:
الأول: مقاطعة المدارس الحكومية المجانية.
الثاني: رفع مستوى الكتاتيب وجعلها مدارس تعلم المواد التي ألزمهم بها نظام التعليم الحديث، مع المحافظة على المواد الأولى، وكانت هذه الكتاتيب محل ثقة الناس، مع أنها كانت بأجور، ولم توفر لأصحابها مالاً، لكثرة النفقات، وضعف الموارد، وتعدد هذه المدارس.
وأنوه بمدرستين منها لوثيق صلتي فيهما، ولهما الفضل في تربيتي:
الأولى: المدرسة الأموية، وعلى رأسها الشيخ محمد سعيد الحافظ.
وكان ـ فضلاً على علمه ـ من أهل الوعي والجهاد، والعمل العام محرر الفكر، وهو في السياسة مثل غالبية أهل الحي على خط الزعيم عبد الرحمن الشهبندر، والرئيس حسن الحكيم، وفي التعليم والتعبد على (المستطاع من نهج السلف الصالح).
وبعد أن أغلقت المدرسة ـ بعد الاستقلال الجزئي وتحسن أوضاع المدارس الحكومية ـ اشتركت معه في العمل العام، بجميع جوانبه الدعوية والاجتماعية، وكان معنا العدد الكبير من إخواني الأساتذة، مثل سعيد أبو شعر، وكامل حتاحت، ومحمد الكنجي، ومحمد خير الجلاد، تغمدهم الله برحمته وبارك بالأحياء منهم الذين لم أذكرهم.
والمدرسة الثانية (أو الكتاب): هي المدرسة المحمدية، أسسها وعلم فيها بمفرده الشيخ محمد بدر الدين الفقيه (المصري) الحافظ لكتاب الله، والجامع للقراءات والداعية السلفي (بالحكمة والقدوة الحسنة، وأدب اللفظ، وأمانة التعامل) وأنتم هنا عرفتم أخويه الكبيرين، أبا السمح وعبد المهيمن ـ إمامي الحرم المكي ـ وقد أحضرهما للحجاز مع غيرهما من أهل العلم، وجه مدينة جُده الشيخ محمد نصيف، وساعده في ذلك الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، والشيخ كامل القصاب، والشيخ بهجت البيطار.
وحضور الشيخ محمد إلى دمشق كان بمسعى القصاب والبيطار.
واستمرت صلتي ونمت بأهل العلم في الميدان، ومنهم الشيخ بهجة، والشيخ حسن حبنكة، وأخيه الشيخ صادق، والشيخ مسلم الغنيمي، والشيخ سعدي ياسين وغيرهم.
وبعد ذلك دخلت المدرسة الرسمية (الابتدائية طبعًا) واتفق أن جاء إلينا والدنا الأستاذ العلامة الفذ الشيخ على الطنطاوي وأثار فينا معاني عزة المسلم، ونخوة العربي، وعلمنا من الشعر ما لم نكن نعلم، وأسمعنا من النثر ما كان له أكبر الأثر في حسنا وحياتنا ـ عافاه الله وجزاه عنا كل خير ـ.
وأيامَها جرت لي معه حادثةُ ضربي التي أكرمني بالحديث عنها في ذكرياته (لأنني كنت أطول طلاب الصف) وأدب في المدرسة.. وأرضاني بما أبقى بيننا من الصلة حتى اليوم، تفضلاً منه - حفظه الله -، وجعلني أحد خمسة أو ستة من الذين يعتبرهم أبناءً له، وهم من أفاضل الناس، وأنا أقلهم شأنًا ومنهم الأساتذة: عصام العطار، وعبد الرحمن الباني، وهيثم الخياط.
وبعد الصف الثالث الابتدائي انصرفت عن المدرسة لأسباب متعددة منها:
1- إصابتي بالرمد الذي طال عهده أكثر من سنتين وأعقبني الضعف في بصري، ولما حاولت الرجوع إلى المدرسة وجدت أن مكاني في المدرسة مع من يصغرني سنًا، وأجلست آخر الصف لطول قامتي، وكنت لا أشاهد ما يكتب على اللوح لضعف نظري ورفضي استعمال النظارة فتأففت وتركت المدرسة!.
2- وافق ذلك حاجة والدي إلى من يساعده في تجارته الرابحة الناجحة، وفيها ما يرغبني بالسفر بين البلاد العربية، مصر، والعراق، وبادية الشام، وتجارته كانت مرتبطة بالفروسية حيث كانت بالخيل الأصائل للسباق، وأيامها تعرفت على رجالات من أهل التوحيد والدعوة والعمل مثل الشيخ الخضر حسين، وفوزان السابق، وخير الدين الزركلي، وسليمان الرمح، وعبد العزيز الحجيلان.
3- رغبة الوالد بأن يكون من أولاده من يؤمن حاجات البيت الواسع، ويحافظ على المركز المرموق في استقبال وحل مشكلات من لهم بنا صلة، وأن يكون ابنه فتى الحي، أو شيخ الشباب فيه.. وكلها تبعات تأكل الأوقات والأموال.
ويدخل في المؤثرات نصائح واقتراحات الأقارب وأهل الحي ليتابع الفتى المرموق (بنظرهم) ما كان عليه رجالات الميدان من الانتصار للقضايا المتعددة وبعضها محلي ضيق، وأشرفها الجهاد في سورية، والقتال في فلسطين، وقد عملت في هذا المضمار، ولم أتجاوز الثالثة عشرة من عمري.
وتركي المدرسة صادف مخالفة لرغبة والدتي، وأورثها الحزن الشديد وكانت أكثر علمًا من جميع الأقارب، وبيت أبيها ألصق برجالات الزعامة والسياسة.
فكانت تريد أن يكون ابنها من أهل القرآن والعلم أولاً، وأن يكون محل الوالد والجد في ديوان العائلة (المجلس البراني) المعد للضيوف، وأن يكون ابنها مجاهدًا مثل أهله وأهلها وغيرهم، وسياسيًا مثل الشهبندر والقصاب، ورغبات أخرى ما كانت تحلم بها غيرها من النساء.
ولما كانت هذه الرغبات لا تتوافق مع عملي ورغبات والدي، لذلك أرضيت الوالدة بأنني سوف أبقى في حلقات الشيوخ في الشام، وأدرس في الأزهر عندما أكون في مصر، وعملت مع الوالد!! وظننت أنني في ذلك أرضيت الوالدة..، وأطعت الوالد!
ولكنني اليوم وقد تجاوزت السبعين، تأكدت بأنني لم أرض الوالد كما يريد، فقد قصرت عما كان يطمح إليه، من إبقاء البيت مفتوحًا، وأن أكون زعيم الحارة!
وقصرت كثيرًا عما كانت تريده الوالدة، لأكون من أهل القرآن والعلم كما كانت تتخيل من عرفتهم من المشايخ، ولا كنت سياسيًا يشبه الزعماء، ولا تاجرًا بحجم تجارة أبي وأبيها، ولا مجاهدًا كالذين اختارهم الله للشهادة!
لقد كانت هذه الرغبات من أهلي، ومثلها مع أبناء حيي.. حافزًا لي على أن أقوم بأعمال فيها الجرأة والإقدام، وأحيانًا التضحية والمغامرة والإيثار والإسراف!! فشاركت في مقاومة فرنسا بالحجارة سنة 1973 وبابارود والنار سنة 1945، وبعدها في فلسطين تحت راية زعيمين مجاهدين كبيرين، الحاج أمين الحسيني، والدكتور مصطفى السباعي، واستمرت مشاركتي من سنة 1946 إلى 1949 قبل الحوادث وبعدها في مهمات متنوعة... مما ذكرت بعضه في (ذكرياتي المحكية) وهذه السنوات قضت على آخر أمل لي بمتابعة الدراسة مع أنني التحقت بعدد من الجامعات، ولكنني لم أتم شيئًا منها ولا الحصول على شهادات مما يسمى (جامعي) ولكنني نميت الصلة بالعدد الكبير من أفاضل أهل العلم، وحصلت على إجازات ودراسات ممن قارب عددهم المئة، وعندي من بعضهم إجازات خطية هي محل اعتزازي، وما زلت حتى اليوم (طالب علم).
كما قمت بالمشاركة في الأعمال الخيرية والاجتماعية والسياسية مدة من الزمن، ولم أكن فيها الأول، ولا الأخير، وإنما يتراوح مكاني بين الثالث والرابع في كل تجمع.
وشاركت في تأسيس التعليم الحديث في دولة قطر، وقدر الله بفضله أن أُقَدَّم وأُقَدَّر من حكامها ورجالاتها، مما مكننا أن ندخل في المناهج ما هو نافع وضروري، وتثبيت تعليم الإناث، ونشره بين أبناء البادية، وكنت أول من عين من دائرة المعارف ورئاسة المحاكم الشرعية لإنشاء المعهد الديني في قطر، وزرت المملكة للإفادة من المعاهد والكليات، وأيامها توثقت صلتي بعدد كبير من العلماء ومنهم: المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم وأخويه الشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد الملك، والشيخ عمر بن حسن، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والأديبين الكبيرين حمد الجاسر وعبد الله بن خميس وغيرهم.
وأصبحت همزة الوصل بين العلماء والحاكم ورجالات العشائر، وأحيانًا كنت سفيرًا خاصًا بين بعض الملوك والرؤساء، وأجرى الله على يديَّ الكثير من إيصال خيرات المحسنين إلى مستحقيها وفي حل الكثير من المشكلات.
وقد شاركت في تأسيس مكتبات الشيخ علي آل ثاني في قطر والأحساء ولبنان وساعدت غيره على إنشاء مكتبات عامة وخاصة، وفي طبع الكتب وتوزيعها على المعاهد والطلاب وأهل العلم.
العمل العام:
وبعد أن رجعت إلى دمشق، وقامت الوحدة مع مصر، رفضت الدخول في تنظيماتها مع عدد من أهل العلم والرأي، غير أننا شاركنا في كل ما ينفع البلاد، ويثبت وحدة بلاد العرب في وجه الهجمة الشرسة علينا ـ ورأسُ حربتها الصهيونية ـ ونالنا من جزاء ذلك الكثير من العنت.
غير أننا عملنا في رفع العديد من المظالم عن الشعب، ومن ذلك منع الإدارة المحلية التي كان المراد منها تجزئة البلاد، وتمكين الأوضاع الجاهلية والعصبية والطائفية في عدد من المحافظات.
وكذلك إبقاء دروس الدين في الشهادات العامة كلها، وقد تولى قيادتنا ودفع العلماء للتأييد أستاذنا الطنطاوي، والذي تولى التنبيه له الأستاذ الألباني.
ثم انتخبت نائبًا عن دمشق سنة 1961 ميلادية مع أن إقامتي في بلدي كانت قليلة، وكانت لقيادتنا الحكيمة الشجاعة المواقف المشرفة.
ومما يمكن أن يذكر الآن:
نجاحنا في منع الربا من قانون الإصلاح الزراعي، وهو أول منع للربا في جميع المجالس النيابية قاطبة.
وتعطيل اقتراح إقامة النصب والتماثيل، واقتراح مشاركة العدد الفائض من الجند عن حماية الحدود، في الأعمال النافعة مثل: الزراعة، والصناعة، والنقل، وإعمار المساكن الشعبية لذوي الدخل المحدود، وإقامة السدود.. الخ.
وخلال تنقلي وإقامتي في مختلف البلاد بعيدًا عن وطني، كنت ألقى الإكرام والمواساة حيث ذهبت وحللت، بل أدعى للمشاركة في الأعمال العامة على أوسع نطاق، وكأنني من أهل البلاد، وهذا تكرر في فلسطين، ولبنان، والمملكة السعودية، ودول الخليج. والله أسأل أن يحسن مثوبة كل من حسن ظنه بي، وتفضل علي.
وأسست \" المكتب الإسلامي ـ للطباعة والنشر \" وبفضل الله كان هذا العمل مدرسة في التحقيق والنشر تعتبر الأولى في بلاد الشام لولا سبق الأستاذ الفاضل أحمد عبيد تغمده الله برحمته في القليل مما نشر.
وعن المكتب ـ والحمد لله ـ انبثقت عشرات الدور، والمكتبات، والمطابع، ومنه خرج العشرات من المحققين والدارسين، وبارك الله في إنتاجها، وما زال المكتب حتى اليوم يتابع الجهد والإنتاج، بعد أن أحَلتُ نفسي عن إدارته ومباشرة الإشراف عليه إلى ولديَّ بلال وعلي بارك الله فيهما، وقد زادت مطبوعاته على الألوف.
وعندي من المؤلفات ما يزيد على العشرين، غير أنني لم أطبع منها سوى عدد من المقالات والمحاضرات والرسائل الصغيرة. (والملحوظات على الموسوعة الفلسطينية) تلك الموسوعة التي أبعدت الإسلام عن فلسطين.. وكان أن ألغيت الموسوعة في أجزائها الأحد عشر مجلدًا كبيرًا، والتي عمل بها أكثر من ثلاثمائة باحث، وساعدها عدد من المؤسسات العلمية!! وحظيت بأموال أكثر من متفضل ومتبرع كريم.
وهذا فضل أكرمني الله به وحدي.
ووجدت أن تحقيق كتب التراث أنفع للعباد من كثير من المؤلفات الحديثة، فعملت في إعداد وتحقيق العشرات من الكتب سواء بمفردي، أو بمساعدة عدد من أهل العلم، أو اقترحتها عليهم وقدمت لهم ما يعينهم في عملهم، ومن ثم الإشراف على طبعها، وفي عملي بصحاح السنن الأربعة وضعافها، التي طبعها مكتب التربية العربي لدول الخليج أيام إدارته من العالم الفاضل معالي الدكتور محمد الأحمد الرشيد، وتابعها خلفه، ما يشهد على التزامي بالمنهج العلمي الرصين.
كما كان لي في تحقيق كتابين صغيرين منهج آخر في رد عدوان المتعرضين للناس وكراماتهم، وهما:
- الرد الوافر للعلامة ابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى 842 هجرية، في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية بعد الهجمة الشرسة عليه وعلى منهج وعلوم السلف.
- وكتاب تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب لابن المرزبان المتوفى 310 هجرية، الذي كشف فيه زيف الذين حرموا التوفيق والوفاء في تعاملهم مع من يحسن إليهم!
وخلال الخمسين سنة، قمت بجمع مكتبة هيأ الله لي أسباب جمعها، هي محل اعتزازي وافتخاري، وكانت من أكبر أسباب بقائي في لبنان أيام الحوادث التي دامت قرابة عشرين سنة بعد أن عجزت عن إيجاد مكان آمن لها عند كل من قصدتهم لذلك، من الذين يدعون الحفاظ على التراث!!..
وأنا لا أعرف ـ الآن ـ ما هو عدد الكتب المطبوعة التي تحويها، ولكني أعرف أن فيها من نوادر المطبوعات ما يسر به كل من يزورها ويستعين بها، ويقال: بأنها أكبر مكتبة شخصية في المنطقة.
ولكن الذي أعرفه:
إن فيها العدد الكبير من المخطوطات الأصلية وقريب من عشرة آلاف من مصورات المخطوطات واللوحات والأفلام.
وألوف الوثائق العلمية والسياسية والاجتماعية، وهي تحت الفهرسة.
وفيها العدد الكبير جدًا من التحف والخرائط والرسوم والصور للحوادث والأشخاص (وأنا ممن يرى إباحة التصوير).
وأما الدوريات والصحف فقد تجاوزت الـ 1200 دورية وهذا العدد أكبر مما تحتويه أية مكتبة مماثلة (باللغة العربية).
وإذا ما ذكرت هذا، فإنني أذكره تحدثًا بنعمة الله، فإن كان فيه النافع فإنه من الله - سبحانه -، مع اعترافي بتقصيري، وأن ذنوبي تغطي كل عمل لي، وأنا أعرف بنفسي وبما عندي، وكلي أملٌ أن يتغمدني الله برحمته، وأن يستر عيوبي في الدنيا والآخرة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد