بسم الله الرحمن الرحيم
خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:
في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد أن تولى سليمان الخلافة قرّب عمر بن عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعاً حيث قال: يا أبا حفص، إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمُر به(1) وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في كل صغيرة وكبيرة، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني (2). وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص، ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي (3).
1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:
أ ـ شخصية سليمان بن عبد الملك: إذ لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه.
ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبيº إذ قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان عمر وأعطاه الخلافة بعده (4).
2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:
فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة، خالد القسري ووالي المدينة عثمان بن حيان 114، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ أن الصلاة كانت قد أُميتت فأحيوها (5). وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها (6).
3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:
كلّم عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك: إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك، فتركه يسيراً ثم راجعه فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر فقال سليمان لغلامه: ائتني بكتاب عبد الملك، فقال له عمر: أبا لمصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال أيوب بن سليمان: ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تُضرب فيه عنقه، فقال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر: إن كان جهل فما حلمنا عنه(7). فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره، فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا يُنقض ولا يُغيّر هو كتاب الله - تعالى -وحده، وهكذا يصل الطغيان بضحاياه إلى تعظيم شأن الآباء والأجداد الذين ورّثوا ذلك المجد الزائل لأبنائهم إلى الحد الذي يعتبرون فيه قضاءهم شرعاً نافذاً من غير نظر في موافقته لحكم الإسلام أو مخالفته، وموقف يذكر لسليمان حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له(8).
4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز: كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟ قال: رأيتك زدت أهل الغنى غنى وتركت أهل الفقر بفقرهم (9). فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق ـ يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه، وحرم منه أهله (10)، فقد بين عمر - رحمه الله - أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.
5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:
خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر: إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟ فقال سليمان: خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها، فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم(11)، ويظهر عند عمر وضوح فقه ترتيب الأولويات فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.
6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً:
أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا؟ قال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عن ذلك كله. فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة (12)، فقال له سليمان: ما تقول في هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال: كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يُذهب بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال عمر: أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه (13).
7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة:
لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر: هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسؤول عنهم غداً وفي رواية: وهم خصماؤك يوم القيامة، فبكى سليمان وقال: بالله أستعين (14).
8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:
كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً..فحبس عمر الرسول وقال: لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن بن علي أطيب نفسه فيترك هذا الكتاب.فجلس الرسول، فمرض سليمان، فقال للرسول: لا تخرج، فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان، وأفضى الأمر إلى عمر دعا بالكتاب ومزقه (15).وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه ويشاركه مسؤولياته (16)، ويرى الدكتور يوسف العش أن سياسة عمر بن عبد العزيز ومنطلقاتها بدأت منذ بداية خلافة سليمان، نعم إن سليمان كان يشتط حيناً في سياسته، فيتخذ تدابير لعل عمر لا يقرها، لكن عمر بن عبد العزيز كان على الرغم من ذلك راجح القوة في خلافته وسياسة عمر لم تتغير، فهو في دمشق مثله في المدينة، على أنه في دمشق يستطيع أن يفعل أكثر من المدينة، والأمر المهم عنده هو منع الجور (17)، والظلم والعسف، ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز تعامل مع سنة التدرج وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رد المظالم ومنعها، وعندما وصل للخلافة ازداد في إحقاق العدل ومحاربة الظلمº لأن الصلاحيات المتاحة كانت أكبر، فهو نصح عمه عبد الملك، وذكّره بالآخرة مع جبروته وظلمه، ولم يتقاعس في عهد ابن عمه الوليد، وتقدم خطوات، ووُفّق حسب الإمكان في عهد سليمان، وأُتيحت له الفرصة في خلافته، وبالتالي لا نقول: إن ما حدث لعمر على مستواه الشخصي انقلاب، وإنما الانقلاب في توظيف الدولة لخدمة الشريعة في كافة شؤون الحياة، ولو كان على حساب العائلة الحاكمة، التي كانت لها مخصصاتها وصلاحياتها، والتي عدّها عمر بن عبد العزيز حقوقاً للأمة يجب ردها إلى بيت المال أو إلى أصحابها الأصليين.
----------------------------------------
الهوامش:
1. سير أعلام النبلاء نقلاً عن أثر العلماء صـ168.
2. المعرفة والتاريخ للفسوي (1/598).
3. سيرة عمر بن عبد العزيز صـ28 لابن عبد الحكم، أثر العلماء صـ168.
4. سير أعلام النبلاء (5/149).
5. أثر العلماء على الحياة السياسية صـ169.
6. تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء على الحياة السياسية صـ170.
7. سير أعلام النبلاء (5/125).
8. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ31.
9. التاريخ الإسلامي (15/30، 31).
10. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ131.
11. التاريخ الإسلامي (15/29).
12. سيرة عمر بن عبد العزيز صـ33، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ170.
13. نعب الغراب: صوت أو مد عنقه وحرك رأسه في صياحه.
14. البداية والنهاية (12/685).
15. المصدر نفسه (12/685).
16. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ104.
17. أثر العلماء في الحياة السياسية صـ173.
18. الدولة الأموية، يوسف العشي صـ254.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد