بسم الله الرحمن الرحيم
قليل جداً هم القادة المسلمون الذين وضعوا كتباً في الشؤون العسكرية، تتضمن خبراتهم وآرائهم التي وصلوا إليها نتيجة ممارستهم العمل العسكري كقادة لفتوحات وعمليات عسكرية مختلفة، وقادة أقل من ذلك ممن بقيت كتاباتهم عبر السنين، فقد عصفت بالأمة الإسلامية محن وأحداث أحرقت وأتلفت من تراثها الشيء الكثير، وإن بقيت بعض الكتابات موجودة فقد تكون حبيسة خزائن مخطوطات طوتها الأيام والأحداث، ويكاد يقتصر ما يتوفر حالياً ويتم تداوله على خطب وحكم وتوجيهات تنسب لقادة حملوا راية الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وما كتاب \"مختصر سياسة الحروب\" للهرثمي إلا دليل على ما سبق قوله.
وضع الكتاب في الأصل للخليفة المأمون عبدالله بن هارون الرشيد (170218ه 786833م)، وهذا يعني أن الكتاب قد تم تأليفه قبل نحو 1200 سنة، وقد عُرف عن المأمون حروبه ضد البيزنطيين، وعنايته بالعلم والعلماء، ويقول محقق الكتاب عبدالرؤوف عون: إن هذا الكتاب هو مختصر من كتاب كبير يسمى: \"الحيل في الحروب\"، وهو كتاب لا وجود له الآن، ويرجح أنه فقد أيام غزو التتار لبغداد، وأن المختصر الحالي وضع من قبل شخص غير الهرثمي المؤلف الأصلي، وقد أورد تعليلاً لذلك.
يقول محقق الكتاب: إن الهرثمي هو أبو سعيد الشعراني كما في فهرست ابن النديم، كما يقول بعدم وجود شيء عن ترجمة هذا المؤلف، ويضيف أن الهرثمي قد يكون منسوباً بالولاء إلى هرثمة بن أعين (؟ 200ه ؟ 816م) أحد قادة الرشيد، أو أن يكون الهرثمي هو أحد أبناء هرثمة، أو غير ذلك. وأياً من كان الهرثمي أصلاً ونسباً فهو قائد ومفكر عسكري مسلم عظيم، تستحق آراءه العسكرية الدراسة التي تستحق، فكتابه هذا لا تقل قيمته وأهميته العسكرية بحال عن كتاب \"فن الحرب\" للمفكر الصيني صن تسو الذي وضعه قبل نحو 2500سنة، والذي صدرت ثلاث ترجمات عربية على الأقل إحداها عن الصينية، وتثني على الكتاب ومؤلفه هيئات عسكرية وكتّاب.
يقع كتاب \"مختصر سياسة الحروب\" في نحو 70 صفحة، وقسم الكتاب إلى أربعين باباً مجردة كما يقول المؤلف، ويضيف أن كل باب يحمل تسمية لينظر الناظر فيها فيقصد بغيته منها. ويلاحظ أن أبواب الكتاب تغطي مواضيع عسكرية عديدة، فقد بدأ بالحض على تقوى الله عز وجل في الباب الأول، والعمل بطاعته. ويتطرق الكتاب إلى صفات الرئيس (القائد)، وأهمية الحذر والاستشارة، والعيون والجواسيس (الاستخبارات والاستطلاع) والتعبية (التكتيك) والحركة العسكرية وأمور الطلائع والكمائن والبيات (الهجوم الليلي المباغت) والذنوب والجرائم والعقوبة (القضاء العسكري)، وغير ذلك من المواضيع الهامة، وفي الباب الأربعين ينهي الكتاب بخاتمة جيدة عن الاختلاف في حاجة العسكريين والمتدربين بما يسعون عليه من علم عسكري باختلاف الآراء (المدارس) الفكرية العسكرية.
ولم يغب عن ذهن مؤلف الكتاب التعرض لدور معالم سطح الأرض والأحوال الجوية على العمليات العسكرية، وهو ما يعرف الآن بالجغرافيا العسكرية، إذ يحمل الباب الخامس عشر عنواناً: \"في التحرز عند النزول والمقام\" ويبدأ الباب بقوله: \"قالوا: لا تنزلن من عدوك منزلاً أبداً حتى تعرفه، وارتده ذا ماء ومحتطب ومرتفق، بحيث إن أردت أن تتقدم منه إلى عدوك قدرت على ذلك، وإن أردت التأخر عنه أمكنك ذلك، وتحر أن تسند ظهور أصحابك إلى الجبال والتلول والأنهار وما أشبهها، من كل موضع تأمن من الكمين والبيات\"، فهو بذلك أكد على مبدأ عظيم وهو معرفة الأرض قبل النزول بها، كما أكد على أهمية الاستفادة من المعالم الطبيعية الموجودة في المكان من تلال وأنهار لتكون مناطق يأمن منها هجوم العدو لطبيعتها، وحث في هذا الباب على ضرب (حفر) الخنادق، وعلى ما يبدو أنه يقصد أماكن تجمع متخصصة بمهن وصنوف الجند والمواد والمؤن. وأكد على الاهتمام بدوريات الحراسة والاستطلاع.
يحمل الباب السادس عشر عنواناً: \"في اختيار موضع المصاف للقاء الزحف\"، وهذا أهم أبواب الكتاب في الجغرافيا العسكرية، بل ومن أهم أبواب الكتاب بشكل عامº لأنه يبحث في موضع الحرب، إذا أن المصاف (جمع مصف) هي مواضع الصفوف أي مواضع الحرب التي تكون فيها الصفوف، إذا رتبت الصفوف مقابل صفوف العدو، حيث يقول: \"قالوا: احرص على أن تسند ظهور أصحابك في مصاف اللقاء إلى الموضع الذي تأمن أخذ العدو منه، وخروج الكمين عليه. إحرص أن يكون موضع القلب على جبل أو شرف، وما أشبه ذلك من أرض صلبة غير ذات خبار أوغبار..\"، ويتبين مما سبق أهمية حسن اختيار المواقع من الأرض، بحيث لا تكون رخوة رطبة مما يعيق الحركة بل ثابتة متماسكة، وأن تكون ليست بالأرض الرملية تثير الغبار مما يؤثر على التنفس ويحد من الرؤية.ويضيف أمراً هاماً يتعلق بحالة الجو حيث يقول: \"توخ أن تكون الريح والشمس من وراء ظهرك، فإن لم يمكنك ذلك فاحرص على أخذ الريح بكل حيلة، فإن امتنع ذلك فتنكب استقبالها واطلب أن يكون مجراها من طرف ميمنتك إلى ميسرة عدوك.. \" وبذلك يحض على عدم مواجهة أشعة الشمس، وجعل العدو من يواجهها، وهذا ما حصل في حرب رمضان عام 1973 حيث عملت القوات العربية على تحديد ساعة الصفر في وقت تكون فيه القوات الإسرائيلية في الشرق بواجهة أشعة الشمس المائلة للغرب، كما يعمل القائد ما أمكنه لعدم مواجهة الريح التي تعمل على الحد من الحركة بالاشتراك مع الغبار، ولم يغفل المؤلف عن اقتراح البدائل إن تعذر تنفيذ ذلك.
وفي الباب الثاني والعشرين الذي يحمل عنواناً \"في وضع الخيل المعدة مواضعها من الأحيان الخمسة\" ينبه إلى ضرورة وجود قوات البحث عن العدو أو أي أخطار (النوافض)، ومن يبعثون للإطلاع على أخبار العدو (الطلائع) في أماكن من جبال ومنخفضات ومستنقعات تمكنهم من رصد العدو ودرء خطره، وفي ذلك يقول: \"قالوا: لتكن خيل النوافض والطلائع على مراتبها، للأخذ بالجبال والمقالع والغياض التي بالقرب، لقطع المادة عن العدو ونفي كمينهم عن العسكر.. \".
يحدد المؤلف مكان سير الطلائع، وكيفية توزيع القوة لضمان نجاح مهمة الاستطلاع بحيث تصل المعلومات الاستخبارية اللازمة للقوات الصديقة بأي حال، من خلال التمركز في المناطق المرتفعة، ويقترح لمسيرة الطليعة الأرض المستوية الصلبة، حتى لا تثير خيولهم الغبار وتخلف آثار حوافرها، أو تترك أقدامهم آثار سيرهم على الرمل، فيستدل عليهم من أي قوات تطاردهم، مما يترتب عليه فشل مهمة الاستطلاع، وذلك في الباب السابع والعشرين الذي يحمل عنواناً \"في ذكر الطلائع وتدبيرهم\" إذ يقول: \"... ليكن مسيرهم وركضهم في الأرض المستوية الصلبة، التي ليست بذات غبار ولا افتقار إلا عن ضرورة.. \".
يعود المؤلف إلى إبداء النصح والتوجيه من حيث الاستفادة من حالة الجو، وذلك في الباب الثامن والعشرين والذي يحمل عنواناً \"في ذكر الكمناء وتدبيرهم\" حيث يوصي أن يكون موعد خروج القوة الكامنة في وقت لا يتوقع العدو فيها ذلك، وحيث يكون منهكاً من شدة الحر، أو متقوقعاً من شدة البرد، مما يحقق عنصر المفاجأة، وذلك وفق الفصل الذي تتم فيه المواجهة والقتال، ويبدو ذلك من قوله: \"لتكن ساعة ظهورهم من المكمن بالغدوات في حال الغفلة من عدوهم، وعند حطهم عن دوابهم وإمراحها، وعند انتشارهم واغترارهم في أحر ساعة تكون في أيام الصيف، وأبرد ساعة في أيام الشتاء\".
وللمؤلف رأيه في المناطق الحصينة ففي الباب الرابع والثلاثين والذي يحمل عنواناً \"في ممارسة الحصون\" حيث يقول: \"قالوا: إن الحصون ليست هي القلاع الشامخة المبني عليها الأسوار فقط: هي القلاع والمطامير، والجبال والفياض والمدن والخنادق والرمال والوحول والآجام والبحار، كل هذه وما أشبهها حصون ومعاقل.. \"، وهذا يعني إمكانية الاستفادة من أي عوائق وموانع طبيعية كالمطامير حفائر تحت الأرض منها مخازن ومنها ما هو ضرب من الحصون، والغياض مجموعات من الأشجار وسط مساحة من الأرض المكشوفة، والآجام أراض غير مزروعة كثيفة الأشجار، وهذا ما يحدث في العلم العسكري الحديث ويقوم عليه من استغلال المعالم الطبيعية والصناعية التي ذكرها كمواقع حصينة.
يتبين مما ورد سابقاً، ومن باقي أبواب كتاب \"مختصر سياسة الحروب\" أن مؤلف الكتاب عسكري محترف ومجرب، وقائد منتصر، قاد حملات ناجحة، سار بها طويلاً إلى مصر وباقي جبهة شمال أفريقيا بعيداً عن بغداد عاصمة الخلافة، ليحقق انتصارات تسجل للعسكرية الإسلامية كمدرسة أصيلة تنبع من العقيدة الإسلامية، ويوصي كاتب هذه السطور بأن يصار إلى إعادة طباعة الكتاب مدار البحث، أو نشره على شبكة الإنترنتº ليطلع عليه الجيل الحالي من العسكريين والمهتمين الشباب والأجيال القادمة، ففيه الحكمة والموعظة والدرس والتجربة، فقد مضت على طباعته أربعة عقود، إضافة إلى ضرورة ترجمته إلى اللغات العالمية وأولها اللغة الإنجليزية، لما في ذلك من نشر للتراث العربي الإسلامي بين غير الناطقين بالعربية من المسلمين، وبين الشعوب والأمم الأخرى، إذ لم ينتشر كتاب المفكر الصيني سالف الذكر على سبيل المثال إلا بعد ترجمته عن لغته الأم وهي الصينية.
*كتاب \"مختصر سياسة الحروب\" للهرثمي صاحب المأمون، تحقيق عبدالرؤوف عون، ومراجعة الدكتور محمد مصطفى زيادة، الصادر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، وطبع في مطبعة مصر في فبراير شباط 1964.
وانظر ترجمة حياة هرثمة بن أعين في المجلد الثاني من الأعلام لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، لبنان 1980، وتبدو النهاية المأساوية التي آل إليها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد