من علمائنا الربانيين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عرفه منبر الجمعة خطيباً قوياً صادعاً بالحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم. كان يعتني بخطبة الجمعة عناية فائقة، ويعد لها إعداداً حسناً، جمع بين الأصالة العلمية والرسوخ الفقهي واستحضار الأدلة والشواهد القرآنية، مع معايشة حيّة لقضايا الأمة وهمومها.

 

أحيا للمنبر هيبته ومكانته في قلوب الناس، وكانت عبراته الندية، وصوته المتخشع، وبكاؤه المتكرر، يؤثر في المصلين تأثيراً عجيباً، فقد كان يربيهم بدموعه قبل كلماته.

 

إنَّه العلاَّمة الفقيه الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود ـ ختم الله له بالصالحات ـ.

 

كان مثالاً للعالم الورع المتثبت، ومن تواضعه أنه عند الفتوى كان ينسب الاجتهاد الفقهي إلى سـماحة الشيخ عبـد العزيـز بن باز - رحمه الله - أو إلى اللجنة الدائمة للإفتاء، وخاصة في المسائل الخلافية، تورعاً وطلباً للسلامة، وأحياناً يحيل بعض المستفتين إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، أو سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، - رحمهما الله -. وتعجب منه عندما تراه يستشير بعض طلابه، أو يذاكرهم في بعض مسائل العلم، وكأنه من أقرانهم.

 

عرفه الناس زاهداً عفيفاً طاهر اليدين، حرّ الجبين، منصرفاً عن الدنيا وزينتها، ولا يخوض فيما يخوض فيه الناس من الزخارف والأهواءº فازدادت محبتهم له، وثقتهم بفتاويه، وخاصة في النوازل التي تتطلب صدقاً وتجرداً.

 

من محامده العجيبة أنه كان قريباً من الشباب حريصاً على مجالستهم ومناصحتهم، وعلى الرغم من كثرة التزاماته إلا أنه كان يحب زيارتهم ومجالستهم في مكتباتهم وحِلَقهم ومحاضنهم، حتى بعد أن ضعف جسمه وصعبت حركته.

 

وعندما تجرأ بعض الناس على الوقيعة في أعراض بعض الدعاة والمصلحين، واستطار شررهم في كل ميدان، سكت الكثيرون، لكن شيخنا الجليل انتصر لإخوانه، واجتهد في الذب عن أعراضهم، مع حرص شديد على عفة اللسان والإنصاف، وتربية الشباب على البعد عن القيل والقال.

 

ومن حكمة الله - عز وجل - أنه ابتلاه بمرض أقعده منذ عدة سنوات فعزله عن الناس، وعزل الناس عنــه، لكــن ذكـره الحـسن لا يزال يعمر قلوب الدعاة وطلبة العلمº فإذا تذاكروا الورع ورقَّة القلب والقوة في الحق، تذكروا الشيخ عبد الله بن قعود واستشهدوا بسيرته. وأحسب أن مرضه من فضل الله عليهº فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيراً يُصِب منه»(1)، وقال: «ما من مسلم يصيبه أذى مـن مـرض فمـا ســواه، إلا حطّ الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها»(2). وقال: «ما يصيب المســلم مـن نصب ولا وصب، ولا همّ ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه»(3).

 

إنَّ الأمة أحوج ما تكون ـ خاصة في هذه المرحلة الحرجة ـ إلى العلماء الربانيين الذين يبصرون الحق ويستشرفون مآلات الأمورº فهم النور المبارك الذي يبدد الفتنة، ويضيء للناس الطريق بعيداً عن عثرات الشبهات، ومضلات الأهواء. وهم القلب الحي النابض الذي تسنَّم الذروة في ريادة الأمة وتوجيه مسيرتها.

 

إن العناية بتراجم العلماء ليست مجرد وفاء صادق لهم، وإن كان الوفاء مطلباً نبيلاً، لكنها مع ذلك دعوة للاقتداء وتجديد الثقة، وهذا يجعلني أذكِّر بضرورة الالتفاف حول العلماء الربانيين، وتقوية الصلة بهم، والعمل الجاد على رعاية طلاب العلم وبنائهم. وأحسب أن المناخ العلمي المتكامل الذي يتحرك فيه الدعاة، ويتربى فيه المصلحون، هو المنطلق الصحيح لسلامة المسيرة. وإن مما يؤسف له كثيراً تقصيرَ بعض الحركات الإسلامية في البناء العلمي لأبنائها، وجَعلَ ذلك في آخر الاهتمامات، بل ازدراءه في بعض الأحيان، والتهوين من شأنه.

 

وإذا أردت أن تدرك منزلة أية حركةº فانظر إلى منزلة العلماء فيهاº فما حصل الخلل والاضطـراب فـي مواقـف بعـض المصلحـين إلا حينما حصل الانفصام بين العلم والقيادة الدعوية.

 

قال الله - تعالى -: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ, أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الـمُشرِكِينَ} [يوسف: 108].

 

----------------------------------------

(1) أخرجه: البخاري في كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض (10/103) رقم (5645).

(2) أخرجه: البخاري في كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء (10/111) رقم (5648) ومسلم في كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه (4/1990) رقم (2570).

(3) أخرجه: البخاري في كتاب المرضى، باب ما جاء في زكاة المرض (10/103) رقم (5641 ـ 5642) ومسلم في كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه (4/1992 ـ 1993) رقم (2573).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply