حسن البنا ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدرس الخامس:

كان من لا يعرف حسن البنا تشده إليه طريقته المهذبة الرقيقة في التعامل مع الناس...

كتب عنه عدد كبير من المفكرين العلمانيين أو العصاة، فشهدوا بحسن أخلاقه وأدبه وتواضعه رغم اختلافهم معه في الأفكار والتصورات، ولكنهم أنصفوا الرجل.

يقول إحسان عبد القدوس في روز اليوسف 12 سبتمبر / 1945 ولا يخفى على أحد طبيعة هذه المجلة واتجاه أصحابها:  (لو زرت حسن البنا لاستقبلك بابتسامة واسعة، وآية من آيات القرآن الكريم، يعقبها بيتان من الشعر، يختمها بضحكة كلها بشر وحياة.

والرجل ليس فيه شيء غير عادي، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك، اللهم إلا بنحافة جسمه ولحيته السوداء التي تتلاءم كثيراً مع زيه الإفرنجي وطربوشه الأحمر الغامق..

)، ثم تحدث عن لباقته وقدرته على الإقناع، ورزانة أسلوبه.

  ويقول الأديب الكبير أحمد حسن الزيات:  (وجدت فيه ما لم أجد في قبيله، أو أهل جيله: من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق، لا يزعزعه غرور العلم، ولا شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء المزن، لا يكدره ضلال العقل، ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا تحبسها عقدة اللسان، ولا ظلمة الحس، إلى حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحبه، وشخصية تحملك على أن تذعن! ! )..

 ثم قال الزيات: « والفطرة التي فطر عليها حسن البنا والحقبة التي ظهر فيها حسن البنا تشهدان بأنه المصلح الذي اصطنعه الله لهذا الفساد الذي صنعه الناس » عن كتاب [حسن البنا، الداعية الإمام والمجدد الشهيد، أنور الجندي، ص 268].

 يقول الشيخ محمد الغزالي في قمة خلافه مع الإخوان وبعد أن تخلى عنهم:  « شهدت رجلاً كان يهاجم الأستاذ البنا - رحمه الله - في الهيئة التأسيسية مهاجمة عنيفة، ويخاطبه بما لا يليق من الألفاظ.

فلما ثار عليه الإخوان غضب الإمام الشهيد وثار في وجه الغاضبين، حتى لقد أخرج بعضهم، ثم أقبل مبتسماً على هذا المهاجم المتجني، وقال له:  قل ما شئت وانقدني كما ترى، فلن تُقاطع بعد ذلك، ولعلي أجد في قولك ما أصلح به خطأ أو أقوم به معوجاً، [من معالم الحق 257، دار الكتب الحديثة].

  أشار الأستاذ البنا في مذكراته إلى سبب من الأسباب التي دعت جماعة شباب محمد إلى التخلي عن الإخوان فقال:  « وكان هذا الشعور نواة لتفسيرات لاحقة [يقصد تملق أحد الإخوان للنواب وقادة الأحزاب في حفل عام] لتصرفات كثيرة مشابهة، وما زال يتضخم حتى صار أساس فتنة ذهبت بمجموعة من خيار الإخوان، وحالت بينهم وبين العمل في هذا الميدان » [المذكرات 252].

 والشاهد هنا أنه رغم وقوع خلاف بينه وبينهم، ورغم انفصالهم عن الإخوان وقيامهم بتأسيس جماعة جديدة أسموها (شباب محمد)، فلقد وصفهم البنا بأنهم من خيار الإخوان، وحاشاه أن ينشر عنهم الأراجيف، ويتهمهم بما هم منه برءاء، ويؤلب الأجواء ضدهم، ويسخر عشرات الآلاف من إخوانه ليقوموا بتشويه سمعتهم أمام الناس...

ليس هذا من خلق البنا، وهو الذي يقرأ في كتاب الله قوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ ولا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ, عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ) [المائدة: 8].

فهم عنده من خيار الإخوان وإن وقعت الخصومة بينه وبينهم...

ما أشد حاجة الدعاة والجماعات اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الرائعة، وما أشد حاجتهم إلى التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفته عائشة - رضي الله عنها - بقولها: « كان خلقه القرآن ».

 

الدرس السادس:

نجح البنا في تحويل الأفكار والأماني إلى واقع ملموس.

فإذا تحدث عن الزكاة مثلاً لم يقف عند حد الوعظ، والتذكير، وترغيب الناس وترهيبهم بل تراه يأمر بتنظيم لجنة مهمتها جمع الزكاة من الملتزمين في الجماعة وغيرهم من عامة المسلمين، ثم يقومون بتوزيعها حسب الطرق الشرعية المعروفة.

 وكذلك يفعل في مختلف جوانب البر والخدمات الاجتماعية، فيقدم المساعدات للعاطلين عن العمل، والمرضى، وغيرهم من المنكوبين والمحتاجين، وكان لقسم البر والخدمات شعب في مختلف أنحاء مصر، وعندما كان يدرب إخوانه على عمل خيري، كان يقول لهم: هذا أفضل من عشرات الدروس في الوعظ.

 وخطط - رحمه الله - لتكون الجماعة غير محتاجة إلى عون أية جهة حكومية، أو غير حكومية، فأسس الشركات الاقتصادية وكان من أشهرها:  شركة المعاملات الإسلامية، والشركة العربية للمناجم والمحاجر، وشركة المطبعة الإسلامية والجريدة اليومية، وشركة التجارة والأشغال الهندسية بالإسكندرية، وشركة الإعلانات العربية، فضلاً عن تأسيس المستشفيات المجانية [انظر الإخوان المسلمون والمجتمع المصري ص: 131].

 ومما لاشك فيه أن هذه الشركات أرهبت فاروق، والأحزاب، والإنكليز، وأشعرتهم أن هذه الجماعة ليست مجموعة من [الدراويش]،، وإنما هي واقع ضخم لم تعرفه منذ عدة قرون.

 

الدرس السابع:

كان الرجل جاداً عندما نادى بتحرير مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي من نير الاستعمار الدخيل، والمجدد لا يعرف الهزل في قضايا دينه وأمته...

لقد أخذ البنا يخطط من أجل طرد الإنجليز من مصر، ومن أجل طرد اليهود من فلسطين، وشكل - رحمه الله - تنظيماً عسكرياً، وأخذ يبتاع الأسلحة، ومصر كانت مخزن أسلحة، لاسيما أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية.

قال - رحمه الله - في خطاب جامع ألقاه في المؤتمر الدوري الخامس:  (في الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني أن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله...).

 انظر إلى قوله: [فإني فاعل إن شاء الله]، وبدأ التنفيذ العملي عندما أمر إخوانه في مصر وسورية والأردن دخول حرب فلسطين، وأبلت هذه القوات بلاء حسناً، وكان اليهود يهابون المعارك التي يواجهون بها كتائب الإخوان كما شهد رئيس أركان الجيش المصري في المحكمة وهو ليس منهم وليس من مؤيديهم، إنه رجل دولة وقد صحا ضميره فأدلى بهذه الشهادة...

 وسقط على أرض فلسطين المباركة عدد غير قليل من هؤلاء الشهداء الأبرار، واستماتوا في الدفاع عن الأقصى في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الشيوعية العربية تعلن تأييدها لما أسمته حق إقامة دولة لليهود في فلسطين وكان دعاة العلمانية من الأحزاب التي لبست لبوس القومية العربية لا تختلف مواقفهم عن مواقف الشيوعيين كثيراً، ومن يستقرئ التاريخ يجد وثائق لا تحصى تدمغ أصدقاء (اللنبي) و (لورنس) و (غلوب)..

فهل تصحو ضمائر زعماء قادة منظمة التحرير فيعترفون بحقائق التاريخ الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؟!  - ألا يعرف هؤلاء أن جيش عمر بن الخطاب هو الذي فتح فلسطين وطهر الأقصى من دنس الرومان الصليبيين؟ !.

 - ألا يعرفون أن جيش صلاح الدين الأيوبي هو الذي فتح فلسطين وجعل منها مقبرة للغزاة الصليبيين؟ !.

 - هل نسي أو تناسى هؤلاء أن جند عز الدين القسام، والحاج أمين وعبد القادر الحسيني، وجند الإخوان المسلمين من مصر وسورية والأردن وغيرها من البلدان العربية، وجند الإسلام من تركيا ويوغسلافيا والهند وغيرها من البلدان التي يكثر فيها المسلمون...

هؤلاء جميعاً هم الذين استماتوا في الدفاع عن فلسطين عام 1936 وعام 1948م.

 - أخبرونا من الذين يواجهون اليهود في فلسطين المحتلة منذ أكثر من عام؟!..

 إن الذين يريدون فرض جورج وكابوتشي والشيوعيين علينا لا يريدون خيراً لفلسطين، والتاريخ لا يرحم! !.

 كانت سجون مصر تنتظر الإخوان المسلمين، بعد عودتهم من حرب فلسطين، ولكن الذين لم يدخلوا السجن وهم قلة أخذوا يستعدون لمعركة أخرى...

وانتظروا أول فرصة سانحة، أي بعد خروج مجموعات من الإخوان من السجن، فبدأوا معركة قناة السويس ضد الإنكليز، وشارك في هذه المعارك بعض الضباط من الطيبين وغيرهم، فشعر المستعمر بأنه من الصعب جداً استمرار احتلاله لمصر لأنهم أصبحوا هدفاً لضربات الإخوان القوية في كل مكان من مصر، وكان من أبرز أبطالهم الشيخ محمد الفرغلي، والأستاذ يوسف طلعت، اللذين أعدمهما نظام جمال عبد الناصر لأنه يعلم أنهما سيقاومان كل انحراف وكل فساد...

 وجملة القول: هذا جانب تجديدى من تجديد حسن البنا، وهذه صفحات مشرقة من تاريخ هذا الرجل في الجهاد.

 

الدرس الثامن:

كان البنا دائم التجديد، فلقد بدأ بداية متواضعة، ثم أخذ يطور جماعته، ويطور مخططاته...

وكما قلنا فيما مضى كان من هذا التجديد المستمر في عمله: إنشاء الصحف، والشركات، ومراكز البر والخدمات، ونظام الأسر، والنظام الخاص...

وكان - رحمه الله - يعلم أنه قد انضم إلى الجماعة في مختلف فتراتها عناصر غير متجردة، وكانت تريد من وراء ذلك مكاسب ومغانم، وأن من هؤلاء من توصل إلى مراكز قيادية في الجماعة...

انظر إليه وهو يقول:  « في هذا اليوم تحدث إلي...و... بخصوص نظام مجلس الإدارة، إن هؤلاء الناس لم يفهموا بعد دعوة الإخوان المسلمين، وقليلون هم أولئك الذين يستطيعون النهوض بأعباء إدارتها، وتنفيذ منهجها الواسع، إنني أتمنى أن يكون إلى جانبي رجال يفهمون ويديرون فأسلم إليهم هذا العمل وأرتاح بهم قليلاً وأطمئن إلى مقدرتهم، ولكن أين هم؟ إن الكثيرين لا يفهمون من مجلس الإدارة إلا كلمة العضوية، فهم يتنافسون على حيازتها، وتقع بها بينهم العداوة والبغضاء.

 سيتبع التغيير المنتظر ضجات هي كالسراب يلوح ثم يزول بمجرد الوصول إليه.

فاللهم إن كنت تعلم حسن القصد وخلوص النية فوفق، وإن كان غير ذلك فاسلك بنا سبيل عبادك المخلصين، آمين، [المذكرات 133].

 وكتب قبل صفحتين يقول:  « على أن ملخص خطراتي أن فرعي جمعية الإخوان بالمحمودية وشبراخيت سوف لا تنفع كثيراً، لأنها أنشئت بغير أسلوبي، ولا ينفع في بناء الدعوة إلا ما بنيت بنفسي، وبجهود الإخوان الحقيقيين الذين يرون لي معهم شركة في التهذيب والتعليم، وهم قليل.

ونفس فرع الإسماعيلية ستحدث فيه تعديلات كثيرة، ولكنه سيسير سيراً نافعاً إن شاء الله... إنه لله...

قائد موهوب ولكنه منصرف بهذه القيادة وهذه المواهب إلى السفاسف مسرف في وقته لا يقدر له قيمة، قلبه مملوء بأوهام لا حقيقة لها، ومنصرف إلى ناحية لا تثمر إلا العناء، فالاعتماد عليه ضرب من المخاطرة العقيمة.

 والأخ الشيخ.. له أساليبه الخاصة به.

وهو ينظر إلي كأخ زميل فلا يصغي لآرائي إلا قليلاً، ومن هذه الناحية يكون توحيد الفكرة ضرباً من التعسرº فالاعتماد عليه مخاطرة كذلك » [المذكرات 131].

 وفي هذه الأسطر القليلة نقرأ عبارات تحتاج إلى دراسة واسعة لأهميتها، والبحث لا يتسع لذلك ولكن نشير إليها:  - يتمنى أن يكون إلى جانبه من عشرات الآلاف رجال قلائل يفهمون دعوته.

 انظر إليه وهو يتساءل: ولكن أين هم؟!.

 - يعرب عن حزنه وألمه من هؤلاء الذين يتنافسون على عضوية مجلس الإدارة، ومن أجلها يتخاصمون.

 - يؤكد أنه سوف يجري تغييراً وسوف ينشأ عن هذا التغيير ضجة.

 - الاعتماد على غير المخلصين ضرب من المخاطرة العقيمة.

 فمن هؤلاء الذين يقصدهم؟ !...

هل هم الذين تخلوا عنه وانضموا إلى حزب الوفد؟ !.

 أم هم الذين تآمروا فيما بعد مع عبد الناصر وأمثاله ضد إخوانهم؟ !.

 أم هم صنف ثالث استمروا في الجماعة وفقدوا رجلاً كالبنا يفهمهم على حقيقتهم؟ !.

 وفيما كتبه البنا - رحمه الله - موقف مهم من الصوفية وطرقهم وانحرافاتهم.

قال - رحمه الله -:  « حضر إلى الإسماعيلية... من القصاصين وهو يدعو إلى الطريقة وله أفكار خاصة تنافي آمالي الإسلامية.

وأنا إنما وقفت نفسي لدعوة أرى أنها خير السبل للإصلاح الإسلامي، وأمثال هؤلاء يريدون تحويلها وتشكيلها بشكل دعواتهم وذلك ما لا أريد..

 لقد آن الأوان الذي أعتزل به عن كل هذه الدعاوى المشتبهة.

وأكشف فيه عن الغاية للإصلاح الإسلامي الذي يتلخص في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وتطهير العقول من هذه الخرافات والأوهام، وإرجاع الناس إلى هدي الإسلام الحنيف » [المذكرات 132].

فعلى الذين يتحدثون عن صوفية حسن البنا في صغره أن يتدبروا قوله هذا، ويضعوا خطوطاً تحت قوله عن الصوفية: [تنافي آمالي الإسلامية].

وقوله: [لقد آن الأوان الذي أعتزل به عن كل هذه الدعاوى المشتبهة].

وتأكيده بأن دعوته تقوم على الكتاب والسنة وتطهير العقول من هذه الخرافات والأوهام...

وهكذا كان البنا - رحمه الله - دائم التجديد يكره الجمود والتقليد، كما كان يسير بدعوته من مرحلة إلى مرحلة أخرى، ويخطط لهذه المراحل، ويعرف الموضع الذي يضع فيه قدمه...

وكان يسمع النقد ويصغي لكل ناصح، ويسارع إلى الاعتراف بخطئه، ويمد يده لكل داعية للإسلام داخل مصر وخارجها.

 ولقد أقلقت هذه الظاهرة أعداء الإسلام من المستعمرين وأعوان فاروق، وعلموا أن مركز القوة في الجماعة هو مؤسسها ومرشدها، فدبروا محاولة اغتياله، ومن الغرائب والغرائب كثيرة أن يكون حماة الأمن هم أنفسهم قطاع طرق، وجناة وقتلة...

وفرح أعداء الإسلام داخل مصر وخارجها عندما علموا بنبأ قتله.

رحم الله البنا رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply