شوقي ضيف .. آخر العمالقة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

عاش 95 عاماً.. وقدم التراث العربي بشكل غير مسبوق:

إذا كان الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية الذي فقدته مصر والوطن العربي قبل أيام قد عاش 95 عاماً، فإن هذه السنوات الطويلة لم تكن وحدها وراء المكانة التي حققها هذا الرجل، والإنجاز العلمي الكبير الذي تركه لنا.

 

ثمة أسباب أخرى كانت وراء هذا الإنجاز الموسوعي للرجل، لعل من بينها دأبه، وإخلاصه الشديد لعمله، وتقديره لقيمة الوقت، فضلاً عن منهجيته، وصرامته العلمية، وتجدده الدائم، وقبوله بالاختلاف، وإيمانه بدوره كأحد حراس اللغة العربية، وحفاظ التراث الأدبي العربي.. لذلك لم يكن غريباً أن ينسبه الكثيرون إلى تلك السلالة التي انتمي إليها العمالقة طه حسين وأمين الخولي وأحمد أمين وغيرهم.

 

لقد كان د. شوقي ضيف كما يقول د. محمد عبد المطلب علامة من علامات الثقافة العربية في القرن العشرين، وقيمته في زمنه الذي عاشه لأنه أنجز فيه كماً هائلاً من الدراسات التي قدمت التراث العربي تقديماً غير مسبوق، كماً وكيفاً.

 

ولم يقتصر أثر د. شوقي ضيف على مؤلفاته التي تعتبر أكثر المؤلفات توزيعاً في الأدب والنقد، وإنما امتد هذا الأثر كما يذكر د. عبد المطلب إلى تخريج آلاف المثقفين الذين يقودون الثقافة في الوطن العربي، فضلاً عن جهوده التي اتصلت بكل المجالات الأدبية والنقدية والبلاغية واللغوية، وقد توَّج دوره برئاسته لمجمع اللغة العربية، حيث قاد هذا المجمع ونشطه، وجعله مشاركاً في الواقع اللغوي العام.

 

وفي رأي د. محمد عبد المطلب فإن مصر والعالم العربي قد عرفت قيمة هذا الرجل، فمنحته أعظم الجوائز.. حيث حصل على جائزة الملك فيصل العالمية، وكذلك جائزة مبارك، وقد كان دائم الحضور في كل المنتديات الأدبية والثقافية التي تعقد في مصر وخارجها، بل إن المستشرقين استمدوا كثيراً من المعلومات بالاعتماد على ما قدمه عن التراث العربي.

 

مشروعات ضخمة

وشوقي ضيف كما يصفه د. محمد حسن عبد الله هو أستاذ أجيال، وقد ربى هذه الأجيال بخلقه وطابعه العلمي، كما بعلمه ودأبه، وهو عالم ومثقف من أصحاب المشروعات الضخمة التي لا يستطيعها غير أولي العزم من العلماء القادرين على الإخلاص لمبدأ العمل، والقدرة الهائلة على الإفادة من الوقت وامتلاك ناصية المعرفة الجادة والأصيلة التي لا تفتن، ولا تتحول أمام إغراءات الدوافع الوقتية.. لقد كان مشروع شوقي ضيف العلمي -يواصل د. محمد حسن عبد الله- هو التأريخ للأدب العربي، من بواكيره في الجاهلية، وإلى اليوم، عبر مساحات قطرية شاملة لكل من ينطق بالعربية، من خلال التعريف، والتمثيل، وتحديد الاتجاهات، واستخلاص الخصائص بحيث يضع يد الباحث على \"الأصول\" وليس الهوامش، والحقائق الثابتة وليس الهوامش.. ولذلك لا يستطيع باحث حديث اليوم، وإلى مستقبل سيطول، أن يستغني عما كتب شوقي ضيف في أي موضوع مما عرض له.. قد يختلف معه، قد ينظر إليه على أنه أسلوب قديم، أو أنه متمسك بالنص، مجافٍ, للتأويل والتحديث بدرجة واضحة، ولكنه مع هذا لن يستطيع إغفال ما يقوله شوقي ضيف إيجاباً أو سلباً.

 

إن شوقي ضيف حسب كلام د. محمد حسن عبدالله هو خاتمة العمالقة الذين يستوعبون الثقافة الموسوعية، فقد تناول الشعر عبر 15 قرناً، والنثر في كل عصوره، ومدارس النحو وحركات التجديد فيه، والموسوعات التي أشبعها تحقيقاً وشرحاً، والتفسير والمدارس البلاغية، بعبارة أخرى أحاط بالإطار الموسع للثقافة العربية.

 

متعدد الجوانب

ويقول د. حامد أبو أحمد: كلنا تتلمذنا علي يد د. شوقي ضيف الذي يعد آخر العمالقة، فقد كان من الباحثين الذين لهم في الثقافة العربية آثار لا تمحى، لأنه لم يقتصر علي جانب واحد، بل كان متعدد الجوانب، درس الأدب العربي في عصوره المختلفة، وحتى في الأندلس، ويعتبر في العصر الحاضر أحد المؤرخين الكبار للأدب العربي قديمه وحديثه.

 

ولم يقتصر جهد شوقي ضيف على ذلك كما يقول د. حامد فله دراسات مهمة في البلاغة، وحتى في كيفية كتابة بحث للدكتوراه والماجستير، وأعتقد أن كتابه الذي يتناول هذا الجانب مقرر في كليات كثيرة، وهو بصفة عامة كاتب موسوعي بكل المقاييس، ومن الجيل الذي له هيمنته في الثقافة العربية.

 

شخصية فريدة

وبفقد د. شوقي ضيف يكون الأدب العربي قد فقد حسبما يقول د. مدحت الجيار علماً مهماً في تاريخ مصر الحديث، بل نستطيع أن تقول إن د. شوقي ضيف الذي اهتم بالأدب والنقد ثلاثة أرباع قرن تقريباً وختم حياته برئاسة مجمع اللغة العربية، يمثل شخصية فريدة بين مؤرخي الأدب، والنقاد، في مصر الحديثة.. فهو صاحب مشروع امتد 50 عاماً لإحصاء وتنظيم وترتيب التراث العربي في الشعر والنثر والنقد والبلاغة ووصل بهذه الموسوعة إلى أكثر من 100 كتاب، تعد من عيون الدراسات التقليدية.

 

وفضلاً عن ذلك يقول د. الجيار فإن تلاميذ د. شوقي ضيف يملأون البلاد العربية كلها، كما عبرت كتبه ومؤلفاته وأبحاثه البحار والمحيطات لتصل إلى كل جامعات العالم التي تهتم بالأدب العربي، بل تُرجم بعضها إلى عدة لغات.

 

ولشوقي ضيف أهمية خاصة في مصر فهو في رأي د. الجيار الشخصية التالية لطه حسين وأمين الخولي، وهو الشخصية التي احتفظت بتوازنها في دراسة الشعر العربي والنقد العربي طوال هذه الفترة منذ حصوله علي الماجستير وحتى وفاته.

 

رجل متواضع

وعلى المستوى الشخصي فقد كان د. شوقي ضيف في رأي د. محمد عبدالمطلب رجلاً متواضعاً، دمث الخلق يحترم الآخر، وكان بعيداً عن العدوانية في تعامله مع الآخرين.

 

ويتحدث د. محمد حسن عبدالله عن الدرس الأخلاقي لشوقي ضيف قائلاً: إن هذا الدرس يسطع فيه وجه شوقي ضيف كريماً وفاضلاً، فلم يرد باحثاً، ولم يضن بمعرفة، ولم يقصر في بذل معونة، وقد عرفت عنه هذا عن كثب، فكنت أتحدث في موضوع أعتقد أن معرفتي فيه بلغت غاية ما أتطلع إليه، فإذا بشوقي ضيف ينهض ويملي من أوراقه عناوين ربما، ودون مبالغة، عشرين أو ثلاثين مرجعاً عن الموضوع نفسه، لم أكن أعرفها، ويفضي بهذا بروح الأب.

 

ويقول: أذكر أنني رغبت في أن أضع عنه كتاباً لسلسلة النقاد التي كانت تصدرها هيئة الكتاب، وقرأت أهم ما له من دراسات وفي ظني أن كتاب \"الشعر وفنونه\" وحده يكفي لأن يكون تعريفاً حقيقياًَ وعميقاً لموهبة شوقي ضيف ومشروعه النقدي، ولكني رأيت أنه لو أضيفت بعض الأشياء المشوقة ستضفي على الكتاب نوعاً من الطرافة أو الجماهيرية، فحاولت جاهداً أن آخذ تعليقاًَ على مشاعره حين كان بعض تلاميذه يرأس القسم العلمي الذي يعمل فيه، فلم ينطق بكلمة واحدة تخدش علاقته بتلاميذه أو زملائه الذين أصبحوا في وضع إداري بمثابة رؤساء عليه، وسألته عن سهير القلماوي وطه حسين، كما سألته عن وديعة نجم التي رأست قسم اللغة العربية في جامعة الكويت فكانت دافعاً لاستقالته وعودته إلي الوطن، بل كان المشجع للدكتور عبدالسلام هارون في أن يستقيل ويعود معه، وقد حدث. ولعل هذا كان الاحتجاج الوحيد في مواقف رجل اتسع صدره لكل الأشياء التي لا يتسع لها غير صدر الحليم.

 

طهارة اليد

وفي رأي د. مدحت الجيار فقد ارتبط اسم د. شوقي ضيف بطهارة اليد، وعفة اللسان، والأمانة العلمية، فلم يثبت عليه شيء عكس ذلك، بل كان نموذجاً للمثابرة. والدرس العميق، الدقيق لكل ظواهرنا الفكرية، بل كان صاحب عقلية مرنة لا ترفض الجديد، ولم يكن عبث الشبان النقاد مرفوضاً عنده، لأنه تعامل دائماً مع مساحات من الجدية والعلمية والدقة.

وتجربتي معه ـ يقول د. مدحت ـ أنه كان حفياً بنا ونحن نناقشه في كتبه خارج قاعات الدرس، بل كنا ننتظر اليوم الذي يدرس فيه لطلاب الدراسات العليا ولم نكن قد وصلنا إلى هذه المرحلة بعد لنحضر ونستمع إليه، ونسأل عما خفي عنا في أمور العلم. وأحياناً في أمور الفقه، ولهذا كنا نعجب جداً بمؤلفاته التي تحمل مصطلح \"تجديد\" لأنها تذكرنا بتجديد ذكرى أبي العلاء، وتجديد العقل العربي، وتذكرنا أيضاً بأن هذا الرجل مع الجديد وليس مع القديم فقط.

رحم الله العلامة شوقي ضيف.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply