شوقي ضيف .. الحارس الأمين للغتنا الجميلة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

في مساء الخميس الحادي عشر من مارس 2005 أسدل الستار على الفصل الأخير من حياة الأديب والناقد الدكتور شوقي ضيف عن عمر ناهز الـ 90 عاماً قضاها عاكفاً في محراب العلم والفكر، مخلفاً وراءه زهاء الـ 50 كتابا في صنوف الأدب باتت مرجعاً بل ومصدراً أصيلاً لكل قارئ ومتخصص وباحث عن الحقيقة في تاريخ الأدب العربي على مر عصوره.

وفي صمت وقور رحل أحد جهابذة النقد العربي وهو الذي ملأ الدنيا بموسوعاته الأدبية، في فنون الأدب العربي، شعرا ونثرا، والتي تتلمذ عليها باحثون ربما كانوا أوفر شهرة من أستاذهم الجليل، تلك الموسوعات والمؤلفات التي تعتد بحق محاولة جدية تسعى لإعادة قراءة الأدب العربي وفق رؤية جديدة تبدأ بالشعر والأدب الجاهلي نهاية بدراسته النقدية المتميزة عن \"أعلام الأدب في العصر الحديث، مع شوقي والعقاد مروراً بعصر ابن مضاء القرطبي في دراسته حول تجديد النحو العربي.

 

المولد والنشأة:

ولد أحمد شوقي عبد السلام ضيف يوم 13 يناير عام 1910 بمحافظة دمياط (شمال مصر)، وفي السادسة من عمره التحق بالمدرسة الأولية، وأصيب بالرمد فأجرى له أحد أطباء القرية عملية فاشلة كاد أن يفقد معها عينه اليسرى وفي التاسعة من عمره تركت أسرته القرية وانتقلت إلى مدينة دمياط ثم دخل الكتاب الملحق بجامع البحر وفي أقل من عام حفظ القرآن الكريم كله وأجاد تلاوته وتجويده حيث شهد له شيخه بالعبقرية وتنبأ بتفوقه ثم التحق بالمعهد الديني بدمياط وأبهرته كتابات العقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين.

وفي معهد الزقازيق الديني أكمل د. شوقي تعليمه الأزهري وسط غربة لم يعتدها من قبل وما لبث أن واجه غربة أشد وطأة حين اتجه للقاهرة \"حي الحنفي بعابدين\" لينتظم مع طلاب \"التجهيزية\" ثم عرف نظام التعليم الحر بالأزهر والذي يتبع لمن يريد التعلم دون ارتباط على أن يجتاز امتحان العالمية وهو امتحان شفهي صعب يختار موضوعه الأزهري في الفقه أو التفسير أو الشريعة أو غيرها من العلوم فامتحن واجتازه بتفوق.

وقبل نهاية العام الدراسي علم أن كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول القاهرة الآن- ستفتح أبواب قسم اللغة العربية لقبول بعض خريجي التجهيزية وحملة الثانوية الأزهرية لاستكمال دراستهم بها فسعى د. شوقي للالتحاق بالقسم العربي وحين استقر في الجامعة وتشبع بأفكار أساتذته قرر أن يسير على خطاهم في قراءة دراسات النقد الغربي حتى تتسع خبرته الأدبية ويلم بجميع التيارات النقدية العالمية حتى جاء يوم تخرجه في مايو 1935 ليقف أمام طه حسين ـ عميد الكلية في حينها ـ في امتحان عسير نجح فيه بامتياز.

ولم تقف أحلام الشاب عند هذا الحد بل نال درجتي الماجستير والدكتوراه بتفوق حتى تم تعيينه كمدرس بقسم اللغة العربية وظلت تربطه بتلاميذه وأساتذته علاقات وطيدة.

وفي مارس 1964 وجهت للعقاد انتقادات عنيفة أثر وفاته فقرر د. شوقي تكريس جهده للدفاع عنه فقام بتأليف \"العقاد\" مثلما دافع من قبل عن محمود سامي البارودي وأحمد شوقي الذي خاض من أجلهما معارك فكرية ساخنة كانت صفحات الجرائد والكتب شاهداً حياً عليها حتى سافر معاراً إلى جامعة الأردن وتوفي والده في مصر وقتها فعاد مجدداً إلى القاهرة ووصلته دعوة من الأكاديمية السويدية باسم ستة من أعضاء \"جائزة نوبل\" يطلبون منه ترشيح اسم مبدع عربي لنيلها لعام 1969 فأرسل تقريراً للجائزة حول من يرشحه للفوز بها ولكنها لم تستجب لترشيحه ثم طلبت منه لسنوات طوال نفس الطلب ولكن دون جدوى. والغريب أن نفس الحدث تكرر ولكن بصورة مختلفة حين طلبت الأكاديمية السويدية في العام الماضي من أعضاء مجمع اللغة العربية أن يرشحوا اسماً لنيل جائزة نوبل مما أثار جدلاً كبيراً بين مؤيد ومعارض لترشيح د. ضيف إلى أن قرروا -بالأغلبية- ترشيحه.. ولكن دون جدوى!

ويعد ضيف من أبرز تلاميذ الدكتور طه حسين، غير أنه لم يتجه نفس توجهه في قضايا ومعاركه الأدبية المعروفة، وفي نفس العام التحق بمجمع الخالدين الذي أصبح أمينه العام في سنة 1988 ونائباً لرئيسه عام 1992 ثم رئيساً له منذ عام 1996 وحتى رحيله.

 

أبرز إسهاماته الأدبية:

أغنى شوقي ضيف المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات تجاوزت الـ50 في مجال الدراسات العربية والإسلامية وتاريخ الأدب العربي، استحق عليها جائزة \"مبارك\" في الآداب منذ عامين.

رحل شيخ المجمعيين بعد أن أثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب الهامة ما بين فكر ديني وفلسفة وأدب ونقد ومن بينها: الفن ومذاهبه في الشعر العربي، التطور والتجديد في الشعر الأموي الحديث، الأدب العربي المعاصر في مصر، محمد خاتم المرسلين، المدارس النحوية، الرحلات، الفكاهة في مصر، الحضارة الإسلامية من القرآن والسنة، تاريخ الأدب العربي \"7 أجزاء\".

وربما كان أهم إنجاز تركه شوقي ضيف، في المجالات المختلفة التي لم يتوقف عن العطاء والتأليف فيها، إنجازه العظيم في تاريخ الأدب العربي، وقد بدأ هذا الإنجاز بما كتبه عن (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) وكان هذا الكتاب في الأصل رسالة دكتوراه تحت إشراف أستاذه طه حسين وهي رسالة مبنية على فرضية مؤداها أن الشعر العربي بدأ بمرحلة \"الطبع\" التي استوعبت بداياته، وانتقل منها إلى مرحلة \"الصنعة\" التي انتقل منها بدورها، إلى مرحلة \"التصنيع\" ثم مرحلة \"التصنع\" التي أدت إلى العقم والانحدار، وكانت بذرة صيغة التطور عبر مراحل أربعة (طبع، صنعة، تصنيع، تصنع) مأخوذة عن أفكار طه حسين عن تاريخ الشعر العربي، ولكن شوقي ضيف رعى البذرة التي نقلها عن أستاذه،

وجاوز ثنائية الطبع والصنعة إلى غيرها من المراحل التي تولدت عن الصنعة، وظلت تضيف إليها ما انتهى بها في النهاية إلى العقم، ولم يكتف شوقي ضيف بذلك، وإنما حاول في كتاب لاحق تطبيق صيغته الرباعية على تاريخ النثر الأدبي في التراث العربي، ذلك التراث الذي رآه شوقي ضيف يتطور في صعود ينتهي إلى هبوط مابين مراحل الطبع ثم الصنعة ثم التصنيع ثم التصنع. وظهر ذلك كله في كتابه (الفن ومذاهبه في النثر العربي) الذي أكمل به مع الكتاب السابق عليه تأريخه الفني الخاص للأدب العربي، أقصد إلى ذلك التأريخ الذي اعتمد على متغيرات الفن الأدبي وتحولات التقنية.

ويبدو أن إحساس شوقي ضيف بأن هذه المتغيرات والتحولات الفنية غير منفصلة عن المؤثرات التاريخية المختلفة الذي دفعه إلى صياغة أكمل تاريخ نعرفه عن الأدب العربي إلى اليوم، مركزاً كل التركيز على الجوانب التاريخية التي أدت إلى تطور الأدب العربي وتحولاته من عصر إلى عصر. وظل هذا العالم الجليل يعمل في دأب وإصرار تكلله همة علمية عالية، ما يقرب من ثلاثين عاماً لكي ينجز موسوعته عن الأدب العربي في عشرة أجزاء. وكان الجزء الأول عن العصر الجاهلي الذي أصدرت منه دار المعارف بالقاهرة أكثر من اثنتين وعشرين طبعة إلى اليوم، وبعده كتاب (العصر الإسلامي) الذي صدرت له تسع عشرة طبعة،

ثم (العصر العباسي الأول) و(العصر العباسي الثاني) وجاء الجزء الخامس من عصر الدول والإمارات الممتد من سنة 334 للهجرة إلى مشارف العصر الحديث، والذي يتعرض لتاريخ الشعر في الجزيرة العربية والعراق وإيران، وهو الجزء الذي يكتمل بالجزء السادس عن الشام، في عصر الدول والإمارات، وبعده الجزء السابع من العصر نفسه عن مصر، ثم الجزء الثامن عن الأندلس، أما الجزء التاسع فكان عن ليبيا وتونس وصقلية، بينما انفرد الجزء العاشر والأخير بالأدب في الجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا والسودان.

هذا على المستوى الفكري، أما على المستوي الأكاديمي فقد سافر د. شوقي إلى الكويت في صيف 1970 ليسهم في تأسيس النظام الجامعي هناكº فكانت هذه السفرة إثراء كبيراً للحركة الأدبية والنقدية في الكويت.

 

تلاميذه يكرمونه حيا:

إذا كانت الدول والحكومات اعتادت أن تكرم أعلامها بعد وفاتهم، فإن الدكتور شوقي ضيف كان استثناء بين هؤلاء حيث كرمه تلامذته ومريديه ليس في مصر فحسب بل وفي سائر الأقطار العربية.

ومن هذه الكتب كتاب \"شوقي ضيف رائد الدراسة الأدبية \" الذي كتبه الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وكتاب \"شوقي ضيف: سيرة وتحية\"وهو مجموعة من الدراسات التي كتبها تلامذته على امتداد الوطن العربي، كشفا عن الجوانب المتميزة من إنجازه المتجدد، وأضيف إلى هذا الكتاب ما كتبه الدكتور أحمد يوسف علي بعنوان (قراءة أولية في كتابات شوقي ضيف) والرسالة العلمية المنشورة التي أعدتها الباحثة الإيرانية شكوه السادات حسيني إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة الحرة الإسلامية في طهران والرسالة الأخيرة دليل على الشأن الرفيع الذي وصلت إليه إنجازات شوقي ضيف العلمية في الأوساط العلمية العالمية،

ولولا ذلك ما خصص المجلد الأول من دائرة معارف الأدب العربي التي تصدر في لندن ونيويورك ترجمة له، مؤكدة أنه واحد من الأساتذة المرموقين والمتميزين عالمياً بكتبه الجامعية الكثيرة وإشرافه على رسائل الكثير من الباحثين العرب، الأمر الذي جعله أستاذاً للعديد من الشخصيات الجامعية البارزة على امتداد العالم العربي.

وقد نال شوقي ضيف تكريم العديد من المؤسسات العلمية ودعته جامعات عربية عديدة ليكون أستاذاً زائراً يؤكد مكانته العلمية، فذهب إلى جامعة بيروت العربية سنة 1963، وجامعة بغداد سنة 1968، وجامعة الرياض سنة 1973 وشارك في تأسيس قسم الدراسات العربية بالجامعة الأردنية سنة 1966 وكذلك جامعة الكويت سنة 1970 وترك في كل مكان ذهب إليه بصماته المنهجية، وتلامذة يسيرون في الطريق الذي سار فيه، والذي نال من أجله جائزة الدولة التقديرية للآداب في مصر سنة 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة 1983، وحصل على درع جامعة القاهرة، وجامعة الأردن، ودرع المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وأخيراً، درع فارس للثقافة الجماهيرية المصرية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply