الشيخ عبد الصبور البطيخي العريف الذي كان يشرف على الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في هذه القرية النائية في أقصى جنوب صعيد مصر وعلى يد هذا الشيخ المجهول المغمور في زوايا النسيان بأحد الكتاتيب تعلم وتربى واحد من أجمل الأصوات التي رتلت القرآن الكريم في عصرنا هذا حتى صار اسمه عنوانا لمدرسة خاصة في ترتيل كتاب الله، تخرج فيها وتربى عليها ملايين المسلمين في أنحاء العالم اعتادوا جميعهم سماع القرآن من صوت السماء: الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
في قرية \"أصفون المطاعنة\" إحدى قرى مركز إسنا بمحافظة قنا وعلى بعد 700 كم جنوب القاهرة يعيش الشيخ عبد الصبور البطيخى مقرئ ومحفظ القرآن الذي كان عريفاً كبيراً في كُتَّاب القرآن الذي تعلم فيه الشيخان عبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي. لقد كان من حظي أن ألتقي بالرجل في رمضان الماضي حيث جرى بيننا حوار طويل، لكن شاء القدر أن يتأخر نشره وحين أذن الله كان الرجل قد انتقل إلى رحاب ربه.
قرية العلماء وإمارة القطر:
مدخل قرية أصفون التي عاش فيها أشهر القراء...
كانت بداية رحلتي له من قريته أصفون المطاعنة إحدى أقدم قرى الصعيد، عُرفت أيام الفراعنة باسم \"صفيانست\" وهي كلمة هيروغليفية تعني أرض الكنوز واشتهرت أيام الفراعنة بالسحر والكهانة، كما أطلق عليها العبرانيون اسم \"صافون\" وعرفت في العصر الحديث باسم \"أصفون\"، ومن أعلامها الذين تكلموا عنها الشيخ \"سليمان حسن عون\" الذي وفد من المغرب عام 953 هجرية حيث قال عنها: إن أصفون تعرف بالآثار والكنوز وهي من أعجب الأراضي في العالم وأسماها الترك \"الكولة\" وقديما كان اسم هذه المنطقة \"خوربر عام\" لأن بها معبدا به أربعون فارسا من الجن وعند المعبد ثلاثة أحجار من الجرانيت الأسود مكتوب عليها باللغة السريانية والهيروغليفية والديماتوكية: مَن فك تلك الرموز والطلاسم فُتح له المعبد، ودخل هذه القرية القائد غانم عياض الأشعري بعد أن فتحت مصر وبعده حكمها العباسيون أبناء عقيل، وبها مسجد عتيق بناه الصحابي عمرو بن العاص وقيل إن هذا المسجد هدم وبنى 7 مرات.
أصبحت أصفون بعد ذلك منبعا للعلم والدين نبغ فيها كثير من العلماء وحفظة القرآن، ومن مؤسسي العلم في هذه القرية محمد بن الخطيب العقيلي وهو من أوائل من درسوا العلوم الشرعية، وحفظ أبناؤه القرآن وعلموه الناس من بعده، ومن بين أعلام أصفون أيضا أبو حمزة الأصفوني من تلاميذ الإمام البخاري وعبد الحميد بن أبان الأصفوني وله كتب في الملل والنحل وكان واحدا من تلاميذ الإمام ابن حزم، وكان بها القاضي بن مسكين فقيه المالكية وهو من مواليد هذه القرية، وعرف عن أهل أصفون حبهم للعلم حتى اشتهرت بين القرى المجاورة \"بإمارة القطر\".
أصفون ورحلة الكتاتيب:
وعن أصفون المطاعنة يقول ابن بطوطة: \"دخلت هذه القرية فوجدت فيها الفقه بأحكامه واختلافات مذاهبه، والتفسير بأركانه، والأدب برواياته، والشعر بأوزانه، وأنساب العرب حتى إن الناس وطلاب العلم يأتون من المنيا وأسيوط يأخذون الفتاوى من علماء أصفون وتؤخذ بفتيتهم\". وختم ابن بطوطة حديثه عنها بقوله: \"إنها مدينة ظاهرة وبالعلماء زاخرة\".
وكان الكتاب في قرية أصفون هو الخطوة الأولى لطلاب العلم وكان أول كتاب في هذه القرية هو كتاب \"ديوان المآذنة\" والذي أسسه الشيخ الصادق الخطيب وكتاب الشيخ محمود الطوبي ثم كتاب الشيخ أحمد بهجت وكتاب الشيخ أحمد أبو المكارم والذي كان عريفا في كتاب الشيخ الطوبي.
ويرجع بنا الشيخ البطيخي بذكرياته ومشواره مع القرآن قائلا: تبرع أهل القرية بقطعة أرض لتأسيس الجمعية الأزهرية عام 1926 وكان الغرض من إنشائها تحفيظ القرآن الكريم بالقراءات السبع، أنشأها محمد بك النوبي عمدة القرية في ذلك الوقت بالجهود الذاتية، وجاء بالشيخ محمد سليم حمادة المنشاوي من مدينة \"المنشأة\" بمحافظة سوهاج لتحفيظ القرآن لأبناء القرية والقرى المجاورة، وكان الشيخ محمد سليم يحفظ القرآن بالقراءات السبع، وتتلمذ على يده الكثير من أبناء القرية ومن أشهرهم \"أحمد فراج\" أول وزير خارجية بعد الثورة والشيخ الليثي الحبولي الواعظ بالأزهر.
البطيخي عريف عبد الباسط:
الشيخ محمد سليم المنشاوي معلم الشيخ عبد الباسط
كان الشيخ محمد سليم المنشاوي المعلم الأول للشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان الشيخ البطيخي هو العريف الذي كان يتابع مع الشيخ عبد الباسط حفظ القرآن وتلاوته قبل أن يقرأه الشيخ عبد الباسط على أسماع الشيخ المنشاوي.
والشيخ السيد عبد الرحمن أحمد وشهرته الشيخ عبد الصبور البطيخي من مواليد عام 1920 بقرية أصفون أنهى حفظ القرآن وعمره 15 سنة وأتم حفظه بالقراءات السبع في خمس سنوات.
يقول عنه أهل القرية: إنه يقرأ القرآن باستمرار في كل زمان ومكان وهو يمشى وهو جالس بل وهو نائم حتى إذا استيقظ يكمل القراءة من حيث توقف ويراجع القرآن كله كل ثلاثة أيام ثم أصبح يراجعه كل يومين، وبعون الله وبركته -كما يقول الشيخ البطيخي- أصبح يراجع القرآن الكريم كله كل يوم وليلة، ويحكى عنه أنه استيقظ من نومه ذات ليلة على خطأ ارتكبه أحد المقرئين في عزاء، فاستيقظ من نومه وصححه له.
وحين جلست إلى الشيخ عبد الصبور عاد بي -رغم كبر سنه- إلى الوراء حينما كان في الخامسة من عمره، حيث أخذه والده من يديه إلى كتاب القرية بالمسجد العتيق ويسمى كُتاب المآذنة أو ديوان المآذنة، وكان عبارة عن حجرة فسيحة ملحقة بالمسجد أثاثها دكة صغيرة يجلس عليها المعلم وبعض الحصير المفروش على الأرض للتلاميذ وفي هذه الحجرة باب يسمى باب المئذنة العمرية التي بنيت أيام الفتوحات الإسلامية وهي مئذنة عالية مبنية بالطوب اللبن وبها سلم خشبي صمم على الطراز الإسلامي، ويستطرد قائلا: \"كنا نصعد عليها في خلسة من الشيخ لنشاهد بيوت القرية ونقلد المؤذن\".
ويستكمل الشيخ عبد الصبور: من أول يوم بدأت أتلقى دروس القرآن والكتابة ثم واصلت حفظ القرآن على يد الشيخ الصادق الخطيب محمود وكان هذا الشيخ يعلمنا برفق ولين ولكنه كان لا يتهاون مع من يقصر في الحضور أو الحفظ حيث كانت لديه \"فلكة\" (آلة للعقاب)، وكانت أتعاب الشيخ هي رغيف من \"البتاو\" (نوع من الخبز) وكان يضع رغيف البتاو في \"الطاقة\" (مكان في الحائط).
بَركة الشيخ سليم المنشاوي:
وعن ختمه القرآن يروي الشيخ البطيخي: \"ختمت حفظ القرآن عن عمر 9 سنوات وبدأت حفظه بالقراءات السبع على يد الشيخ محمد سليم حمادة المنشاوي وكنت أكبر عريف في ذلك الوقت\". والعريف هو مساعد الشيخ حيث ينوب في غيابه ويقوم بإدارة الكتاب وله أيضا دور في تسميع \"الألواح\" وهي ألواح من الألمونيوم كان يكتب عليها الطلاب بالقلم الحبر بدلا من الكراس. وبعد تسميع اللوح للعريف يقوم العريف بالحكم على الطالب وجودة حفظه من عدمه ويدلي برأيه للشيخ الذي يقوم بالتصرف مع الطالب، كما كان العريف يقوم بجمع الأجر من التلاميذ للشيخ وكان يعرف في ذلك الوقت \"بالجراية\" تعطى للشيخ كل ثلاثة أيام، أما أجرة الشيخ النقدية فكان يتم الاتفاق عليها مع والد التلميذ وهي ثمن قرش أو قرش أو قرشين للقادرين.
وكان الطالب إذا أتم حفظ القرآن وختمه تعم أهل القرية فرحة كبيرة ويعطي والده وهبة للشيخ وكانت عبارة عن جبة وعمامة أزهرية وحذاء وما يقرب من أربع أرطال من اللحم أو شيئا من الطيور وكانت تسمى \"الخلعة\" وكان العريف ينال نصيبه بعيدا عن \"خلعة\" الشيخ، وكانت تعطى له جلبابا وحذاء جديدين من الأعيان القادرين فقط. كما كان العريف يسمى بين أهل القرية \"بركة الشيخ\". ومن المهام التي يقوم بها أن يحضر مبكرا قبل أن يأتي التلاميذ ويشرف على تهيئة الكتاب كما يسند إليه الشيخ تنفيذ العقاب على الطالب المقصر أو الذي يتهاون في الحفظ والمراجعة.
وكان الكتاب يتقبل الطلاب على فترتين في الصباح الباكر وحتى صلاة الظهر وفي المساء من قبل صلاة العصر حتى صلاة المغرب، كما كان شيخ الكتاب حريصا على تعليم الأبناء كيفية الوضوء والطهارة والصلاة ويقيمون حلقات علم إلى جانب تحفيظ القرآن الكريم حتى يتعلم الأبناء أمور دينهم ودنياهم.
رحلته مع الشيخ عبد الباسط:
عبد الباسط عبد الصمد صوت السماء:
وكان كُتاب الشيخ محمد سليم من أشهر الكتاتيب يقصده أهل القرية والقرى المجاورة، ومن أشهر الطلاب الذين جاءوا من بلادهم طلبا للعلم كان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد. جاء من قرية بعيدة مترامية الأطراف تسمى \"نجع حلية\" بمركز أرمنت إحدى مراكز محافظة قنا، جاء به والده وعمره 13 عاما وأقام في القرية بديوان الضبع.
ويصف الشيخ البطيخي عبد الباسط فيقول: \"كان الشيخ عبد الباسط جميل الوجه بهي الطلعة ترى على وجهه هيبة القرآن وكان من طبيعته ألا يجالس من هم أصغر منه إلا في كتاب القرية، فإذا خرج من الكتاب يذهب إلى دواوين القرية ليجالس الأعيان وزعماء العائلات، وكان يحفظ القرآن بشراهة ويواظب على المراجعة بجد واجتهاد، وكان عبد الباسط يقول: \"أنا أقسو على نفسي وأتعب حتى أجيد الحفظ وأدرس العلوم الشرعية حتى أصبح قارئا على مستوى القطر وليس قارئا على القرافة\".
أحب أهل القرية الشيخ عبد الباسط وتعهدوه بالرعاية المادية والمعنوية فمنهم من لقنه دروسا في اللغة العربية ومنهم من كان يعِيره كتب العلوم الشرعية، وكان يحفظ الكثير من كتاب العقد الفريد، وحفظ القرآن بقراءاته السبع حتى نال الإجازة العالية.
ويقول الشيخ البطيخي: \"كان مستوى حفظ الشيخ عبد الباسط للقرآن وأبيات الشاطبية متميزا عن أقرانه وعندما كان يتردد على دواوين القرية كان يقرأ القرآن منذ طفولته بالتجويد، وكان صوته جميلا منذ صغره يلتف أهل القرية حوله ليستمعوا إليه ويعجبوا به أشد الإعجاب.
ويضيف الشيخ البطيخي: كان الشيخ عبد الباسط يرفض الحضور إلى الكتاب وأنا غائب حيث كان يرتل ويراجع معي ما عليه من واجبات للحفظ قبل أن يقرأ على الشيخ المنشاويº لأن الشيخ كان لا يتهاون مع طلابه، فعندما كنت أغيب كان الشيخ عبد الباسط يأتي إلى منزلي ويسأل متى سأعود إلى الكتاب ثم يتلو علي ما حفظه فإن كان هذا الحفظ يرضيني يذهب إلى الشيخ سليم ليتلو عليه.
نفحات تصوف في صوت عبد الباسط:
هنا عاش الشيخ عبد الباسط عبد الصمد:
ويواصل الشيخ البطيخي قائلا: كان عمدة القرية محمد بك السنوسي إذا تكدر يطلب من عبد الباسط أن يتلو عليه ما تيسر من القرآن تجويدا أو تلاوة، وكان العمدة يقول: \"إن صوت الشيخ عبد الباسط يجعل نفسي هادئة وأحس كأنني أستمع إلى مقرئ في الأزهر\"، وكان خيري بك أبو الليل أحد أعيان أصفون يقول أيضا: \"كلما سمعت هذا الصبي صاحب الصوت الساحر والنغم الحلو أزداد انجذابا لقرائته وأخشى على نفسي من حالة الجذب هذه التي تحدثها قراءته في نفسي\".
ويستعيد الشيخ عبد الصبور البطيخي ذكرياته قائلا: رغم أن الشيخ عبد الباسط كان صغير السن فإن صوته كان يحدث أثرا كبيرا في نفسي ونفس كل من سمعوه، وذات مرة كان الشيخ العارف بالله أحمد أبو الوفا شرقاوي - رحمه الله - في إحدى زيارته لأصفون لإحياء المجلس الشرقاوي وطلب من الشيخ عبد الباسط قراءة وسيلة الشيخ الدردير المسماة \"الصلوات\" بصوته فلما انتهى دمعت عيناه وقال: \"إن صوت هذا الصبي يحيي فيَّ روح التصوف فمن لا يشعر بشجن صوت الشيخ عبد الباسط ليس لديه عواطف إيمانية\"، وأهداه خمسين قرشا.
من الحسين بدأت الشهرة:
وعن بداية شهرة عبد الباسط روى لنا الشيخ البطيخي فقال: في شهر رمضان كان الشيخ عبد الباسط يحيي لياليه في دواوين القرية ولا يرد أحدا يطلب منه أن يقرأ له بضع آيات من القرآن، ثم بدأ بعدها في التنقل بين المحافظات، وفي إحدى المرات قرأ في مجلس المقرئين بمسجد الحسين بالقاهرة، وعندما جاء دوره في القراءة كان من نصيبه ربع من سورة النحل، وأعجب به الناس حتى إن المشايخ كانوا يُلوحون بعمائمهم وكان يستوقفه المستمعون من حين لآخر ليعيد لهم ما قرأه من شدة الإعجاب، ثم تهافت الناس على طلبه حتى طلبته سوريا ليحيي فيها شهر رمضان فرفض إلا بعد أن يأذن له شيخه.
ويضيف الشيخ عبد الصبور: كنا ذات مرة في زيارة إلى الحرم المكي وكان شيخ الحرم المكي في ذلك الوقت يقرأ من سورة البقرة إلى سورة الأنعام بقراءة ورش عن نافع فرتل قائلا: \"وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا\" وقرأ في الركعة الثانية: \"إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا\" فحرص الشيخ عبد الباسط على أن يقابله ليصحح له سهوه في القراءة، فقال له: كان ينبغي أن تقرأ وتقول: نبيئهم، بدلا من نبيهم، وأشد وطائا بدلا من أشد وطئا، فقد قرأت في الآية الأولى بقراءة حفص ولم تقرأ بقراءة ورش فأقره الشيخ على هذا السهو في القراءة وطلب منه أن يبقى في الحرم المكي معهم.
جلسنا ليلة كاملة مع الشيخ البطيخي - رحمه الله - يحكي لنا بعضا من ذكريات الكتاتيب والمقرئين، قد كانت ذكرياته تستحق التسجيل كاملة، ولكن ضاعت الفرصة ولم يبق منها إلا هذا الحوار..رحم الله الشيخ البطيخي وغفر له ببركة القرآن الكريم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 3 )
تعليق
23:59:37 2020-01-31
تصحيح
20:11:35 2016-07-23
تصحيح بسيط
18:49:59 2015-06-26