جاء في سنن أبي داود - رحمه الله تعالى - وفي غيرها من كتب الحديث الشريف، قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة، من يجدد لها دينها).
ونحسب أن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإمام الرباني الأواب، هو مجدد دين هذه الأمة في القرن الثاني عشر الهجري، عندما نهض بدعوته، وأحيا سنة نبيه، وأبطل ما علق بهذا الدين العظيم من شوائب ليست منه بل هي دخيلة عليه وعلى حنيفيته، وهي من عقائد الجاهلية الفاسدة التي لم يأل الرسول القائد جهداً في القضاء عليها، ولكن الجهلة ومن كان في مصالحه حاجة إليها وفي نفسه حنين إلى تلك العادات والعقائد والتقاليد والانحرافات أعادوها جذعة مع الأيام فكانت أقوى من عزمات بعض المصلحين الذين تصدوا للقضاء عليها ففشلوا لأسباب موضوعية فتراكمت مع الأيام، إلى أن جاء هذا الإمام المجدد فقضى عليها من جديد، أو كاد.
بيئته:
لا يعرف قيمة دعوة الشيخ وأهميتها، إلا من عرف ما كانت عليه حال الأمة في عصره والعصور التي سبقته، فقد بلغ الانحطاط الفكري مداه في العالم الإسلامي بعد إغلاق أبواب الاجتهاد، وصار العلماء وطلاب العلم يعكفون على متون المتأخرين وحواشيهم، وانتشرت الضلالات، وشوهت العقيدة بما داخلها من تشوهات قاربت شركيات الجاهلية الأولى أو كادت في نجد وسواها من بلاد المسلمين..وانتشرت الخرافات والبدع وظنوها من الدين.
كانت الحياة السياسة سيئة وفاسدة، والحروب بين الزعامات ناشبة، والبلاد مقسمة ممزقة، قسمتها الأهواء، ومزقتها الجاهليات المستحدثة، والعلماء أنصاف جهلة وأنصاف عجزة، لا يقوون على إنكار منكر، وقطاع الطرق يعبثون بأمن البلاد، ويعتدون على حرمات العباد، ويسطون على الحجيج، يسلبونهم أموالهم وطعامهم وشرابهم.كانت الخلافة العثمانية ضعيفة، دبت في أوصالها عوامل الضعف، وفقدت سيطرتها على أطرافها البعيدة، ولم تستطع أن تبسط سلطانها على شبه الجزيرة العربية التي تتبعها بالاسم فقط وأوربا لا تخفي أحقادها على العرب والمسلمين والخلافة، تسوقها روح صليبية لم تهدأ منذ غزوة مؤتة، مروراً بالحملات الصليبية، وحتى الاستعمار الحديث ويوم الناس هذا، وقد تستمر إلى يوم الدين، وأوروبا تطمع في (الرجل المريض) واقتسام تركته، والمسلمون في حالة عجز تام. فوضى في السياسة، وفوضى اجتماعية، وفوضى وانحراف في العقائد والعبادات وكل ما يمت إلى هذا الدين العظيم بصلة.
نشأة الإمام:
في هذه البيئة المنذرة بألوان الكوارث والشرور، ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفضل ودين وقضاء في بلدة العيينة في نجد عام 1115هـ - 1703م لأب قاض فقيه، وعالم كبير، من أسرة آل مشرف التي تنتهي بنسبها إلى بني تميم، وكذلك كانت أمه امرأة فاضلة ذات عقل ودين، ومن عشيرته الأقربين. وهكذا كانت ولادته، ونشأته في بيئة متدينة، تعنى بالعلم، وتخرج العلماء الذين يتوارثون العلم كابراً عن كابر. فجده الشيخ سلمان بن علي هو رئيس علماء نجد، وأوسعهم علماً، وأشدهم تمسكاً بأهداب هذا الدين، حتى صار مرجعهم جميعاً، وله كتاب مشهور في المناسك، هو المعتمد في باب المناسك عن الحنابلة، وكذلك كان عمه إبراهيم بن سلمان عالماً جليلاً، وكذلك كان أخوه سليمان وخاله من علماء نجد، وكان ابن عمه عبد الرحمن بن إبراهيم من العلماء المعدودين، وهو بالتالي ورث أبناء وحفدته حب العلم، فكان أبناؤه الخمسة وكثير من حفدته من علماء شبه الجزيرة العربية.
أبرز صفاته:
1- الذكاء: قال عنه أخوه سليمان: (كان أبي عبد الوهاب يتعجب من ذكاء أخي محمد، فقد تعلم والدي منه، واستفاد من شدة اطلاعه، ونفاذ بصيرته، فراح يقول: لقد استفدت منه كثيراً).
2- الزهد: الزهد بالمال، وبالمناصب التي كانت مبذولة له، ليس بينه وبينها إلا أن يقبلها ويوافق عليها، وقد تجلى زهده في المال في مواقف كثيرة، منها أن الأمير محمد بن سعود كان يأتيه بالأموال، ويضعها بين يديه فلا تمتد يده إلى شيء منها، إلا لإنفاقه على الدعوة ورجالها من المجاهدين وطلبة العلم ويكتفي هو بالكفاف من العيش، ويؤثر البعد عن المناصب.
3- الكرم: فقد كان - رحمه الله - يصرف من ماله الخاص على طلبة العلم الفقراء الذي يقصدونه من البلاد البعيدة في نجد وسواها، وقد يستدين لينفق على أولئك الطلبة، حتى أرهقته الديون، والشيخ التقي الورع لا تمتد يده إلى المال العام، ولا إلى أموال الزكاة وأموال الخمس التي أطلق الأمير محمد يده يد الشيخ فيها، ليتصرف بها كيف يشاء.
4- رهافة الحس، وشدة التأثر بما يراه من معاناة الناس والبؤساء: فقد كان شديد التألم لما يرى من تعاسة الناس من أبناء القرى والأرياف والبوادي، الأمر الذي جعله يعاهد الله على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- الشجاعة والإقدام: فما كان يخشى في الله لومة لائم، يقول الحق، مهما كلفه ذلك من ثمن جرأة في القلب واللسان واليد معاً.
6- شدة الغيرة على الدين: جعلته وقافاً عند كتاب الله، وسنة نبيه، تقيأ، ورعاً، عفيفاً، كثير العبادة، صياماً، وقياماً، وتسبيحاً وذكراً، قد وقذته العبادة، وآضه حمل عبء هذا الدين يغار عليه كما يغار على عرضه وحرماته.
7- قوي العقيدة: عميق الإيمان، على عقيدة السلف الصالح، كأنه قد جاء لتوه من عند ذلك الجيل القرآني الفريد.
8- ذو عقل راجح: وفكر صائب، ونظر بعيد، وحجة قوية، مع حضور بديهة يعقبها حضور الدليل، وذلاقة اللسان.
9- المثابرة والدأب على العمل: والثبات، مع إخلاص أصحاب الدعوات الصادقين، لا يكل ولا يمل ليله ونهاره.
10- حرية التفكير: ولكن في حدود الكتاب والسنة، وهذه جعلته يخالف إمامه أحمد في كثير من المسائل.
11- رجل إدارة وتدبير: يعرف كيف يصل إلى قلوب الزعماء وعقولهم بلا نفاق ولا ممالأة على غير ما يعتقد أنه الحق.
والخلاصة أن الشيخ - رحمه الله تعالى -كان ذا شخصية نادرة في قوتها، وصلابتها في إيمانها، وعملها فقد حمل الشيخ أعباء الدعوة بأثقالها أكثر من خمسين سنة، وواجه بها الأعاصير التي كانت تريد أن تعصف به وبها، وتقتلعهما من جذورهما، ولكنه صمد، ولم يطأطئ لتلك الأعاصير هامته، ولم يحن لها ظهراً، وبهذا وتلك، حق له أن يكون من أبرز رجال الإصلاح والفكر في العصر الحديث.
الإمام العالم:
هيأ الله للشيخ محمد أباً عالماً ذكياً، لماحاً لمح في طفله محمد أمارات الذكاء والنجابة، فقربه إليه، وحدب عليه، وامتحن حافظته، فوجدها حية قوية، فذاكرة الطفل محمد تستوعب ما يلقى فيها فحفظه كتاب الله المجيد، وهو لم يزل طفلاً لم يبلغ العاشرة وعلمه الكثير من علوم العربية والعلوم الدينية، والفقه الحنبلي، وحببه في العلم والعلماء، لأنه كان يرجو من ولده أن يكون عالماً مثله، ومثل جده، وقدمه ليؤم المصلين وهو ابن ست عشرة سنة، وزوجه وهو صغير السن والجسم، ولكنه رجل في عقله، وقلبه ومداركه.
وأكب الفتى على مطالعة كتب التفسير والحديث، فازداد شغفه بالعلم، وعلم مما قرأ أنه لا بد لطالب العلم من الكد والتعب وتحمل المشاق في الارتحال إلى مواطنه، حيث العلماء والعلم، فقرر الشيخ الشاب الحج إلى بيت الله الحرام، وبعد أداء فريضة الحج، جلس إلى بعض علماء مكة المكرمة، وأفاد شيئاً منهم، ثم رحل إلى المدينة المنورة، وأقام فيها شهرين، وجالس علماءها، وأفاد الكثير منهم، وخاصة من شيخيها: محمد حياة السندي، وعبد الله بن إبراهيم الشمري المدني الذي قال له مرة: - ألا تحب أن أريك سلاحاً أعددته لبلدي؟
قال الشيخ: بلى... فما هو؟
فأدخله الشيخ منزلاً عنده فيه كتب كثيرة، وقال له: هذا هو السلاح الذي أعددته لها. وفهم الشيخ ما يريده منه وله أستاذه، فصمم على امتلاك هذا السلاح الماضي الذي غفل عنه المسلمون زمناً، فذلوا، وهانوا، وضعفوا واستكانوا.
ثم توجه إلى البصرة للاستزادة من العلم، وقرأ على علمائها، وخاصة عالمها الشيخ محمد المجموعي الذي قرأ عليه الحديث واللغة، وأفاد منه ومن وأولاده علماً غزيراً.
ولكن أهل البصرة ضاقوا به وبآرائه ودعوته التي بدأ يصرح بها، فأخرجوه منها في يوم شديد اليقظ، حتى كاد العطش يقتله، لولا أن تداركته رحمة ربه، فأرسل إليه مكارياً حمله على حماره إلى بلدة الزبير، وأنقذه من الهلاك.
عاد إلى نجد، إلى بلدة حريملاء، حيث والده، ليستأنف القراءة على أبيه، ويلتهم كتب التفسير والحديث وأصول الدين، وكتب شيخيه الأثيرين: ابن تيمية الذي كان إمامه ومرشده وباعث تفكيره، والموحي إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح وابن القيم، وليباشر في نسخ الكتب العلمية كان ينسخ عشرين صفحة في الجلسة الواحدة.
تعلق بعلم الحديث، وقرأ كتبه، ودروس السيرة النبوية المطهرة، والتاريخ الإسلامي، كما اطلع على ثقافة عصره، عربية وإسلامية، الأمر الذي جعل منه عالماً متبصراً إماماً متحرراً، ومصدراً علمياً في المعارف والعلوم الشرعية.
ومن أقواله:
(اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل:
الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
والثانية: العمل به (أي بما تعلمنا من أمور ديننا).
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة: الصبر عليه).
كتبه:
لم يعن الشيخ بتأليف الكتب لأنه كان معنياً بتأليف الرجال، وبناء العقول والقلوب لتكون مؤهلة لنشر الدعوة وحمل أعبائها، والدفاع عنها، والذود عن مرتكزاتها، وترك التأليف لغيره من العلماء من تلاميذه، وأصحابه، وأبنائه، وقد بنى دولة وأرسى أسسها على الدعوة، لتكن دولة الإسلام التي غربت شموسها منذ قرون، بعد أن خذلها القائمون على شؤونها، فباءوا بالخزي في الدنيا والآخرة.
ومع ذلك، ترك الشيخ عدداً من الرسائل والكتب القيمة التي ألف بعضها واختصر بعضها الآخر من الكتب المعتمدة في المذهب الحنبلي، كتبها بأسلوب واضح، لا غموض فيه ولا تقعر، لأنه أراد بها نشر أفكاره دعوته، ولم يرد الشهرة والذكر، ومن هذه الكتب والرسائل:
1- كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
2- كشف الشبهات.
3- الأصول الثلاثة وأدلتها: (معرفة الرب معرفة دين الإسلام معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -).
4- شروط الصلاة وأركانها.
5- القواعد الأربعة.
6- أصول الإيمان.
7- كتاب فضل الإسلام.
8- كتاب الكبائر.
وغيرها كثير...
مذهبه الفقهي:
كان الشيخ - رحمه الله تعالى -، حنبلي المذهب في الفروع الفقهية، لكنه إذا وجد حديثاً صحيحاً يخالف مذهب الحنابلة أخذ به، قال: (وأما مذهبنا، فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة في الفروع، ولا ندعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد، كائناً من كان) الهدية السنية 99.
ولكن الشيخ ما كان يجبر أحداً على اتباع المذهب الحنبلي، بل إنه يطلب من الشافعي أن يكون شافعياً، ومن الحنفي أن يكون حنفياً، يقول: (ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة).
و (إذا صح لنا نصّ جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذناه وتركنا المذهب).
العقائد:
وفي باب العقائد كان على مذهب السلف، وهو إقرار ما ورد من صفات الألوهية في القرآن والأحاديث الصحيحة كما ورد، والتسليم به، والإيمان بظاهره مع نفي الكيفية، وهذا هو مذهب أئمة الإسلام جميعاً يقول: (عقيدتنا في جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، نؤمن بها ونقرها كما جاءت مع إثبات حقائقها وما دلت عليه، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تبديل ولا تأويل) الهدية السنية 99.
اهتم الشيخ اهتماماً كبيراً بقضية التوحيد، وكتبه كلها ليس فيها إلا التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله - تعالى -وحده، واجتناب الشرك.
قال الشيخ - رحمه الله تعالى -: (إن التوحيد هو عماد الإسلام الأكبر، وقد ضاع في زماننا هذا، وتداخل به الفكر الفاسد).
فهو التوحيد الاعتقاد بأن الله - عز وجل - هو خالق الدنيا، وباسط شأنه عليها، ورازق عباده، وواضع قوانينه التي تسيرها، والمشرع لها، ليس لمخلوق شركة في ذلك، فهو واحد أحد، فرد صمد، ليس في حاجة لمعين، فهو المستعان، هو حاكم هذا الكون بما أنزل من تشريع وديانات، وكتب ورسل، وهو النافع، بيده النفع والضر، لا شريك له، وإن كلمة لا إله إلا الله، تنزه الخالق - عز وجل - عن وجود سلطة تسير الدنيا غيره، هو - عز وجل - الخالق البارئ المصور).
مسار الدعوة:
رأى الشيخ كثيراً من البدع السيئة في بلدته (العيينة) وفي المدينة المنورة كما رأى في البصرة بدعا كثيرة أنكرها عليهم، وجادلهم فيها، ونهاهم عنها، وألف كتابه (التوحيد) ليردع الجهلة والبدعيين، ويدعوهم إلى تصحيح العقيدة، وخلوص العبادة لله، فأذوه وطردوه. وعندما عاد إلى أبيه، وقص عليه القصص، نهاه أبوه عن الشدة على الناس.
وفي عام 1153هـ - 1740م توفي أبوه، وبعد وفاته بقليل، جهر الشيخ بدعوته، واشتهر أمره، وذاع صيته، فوفد عليه الناس، وشرعوا يقرؤون عليه التفسير والحديث والتوحيد والسيرة والفقه.
وعندما كثر أتباعه، صار ينكر ما يراه مخالفأً للدين، ثم انتقل إلى مدينة العيينة، أكبر المدن النجدية، وأكثرها سكاناً، وصار له شأن فيها، بدعم من أميرها، فانطلق يحارب كل ما يراه بدعة شركية فقطع الأشجار المعظمة، وكسر الأحجار المقصودة، وهدم القباب المشيدة على القبور.
وفكر الشيخ بتوحيد بلاد نجد، وهذا لن يكون إلا بوجود قوة مادية تعينه، فالحق الذي لا تدعمه قوة لا يثبت أمام الأعاصير، والله - سبحانه - يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، إذن لا بد من التفاهم مع أمير من أمراء نجد يحميه ويتبنى دعوته وكان هذا الأمير هو محمد بن سعود الذي كان معروفاً بأخلاقه النبيلة، إذ سارع إلى لقائه، وكان لقاء تحفه بركة الإخلاص والصدق في لهجة الشيخ الذي انطلق يشرح للأمير أصول دعوته من أمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد باللسان والسنان.
كان الأمير يصغي إليه بعقله وقلبه، واستوعب هذه المعاني، وقال الشيخ: (أبشر أيها الشيخ بالمنعة والنصرة). فأجابه الشيخ: (وأنا أبشرك بالأجر والعز والتمكين والغلبة، فكلمه التوحيد، من تمسك بها ونصرها، أيده الله في الدنيا، ومكنه وأجزل أجره في الآخرة).
وعاهد الشيخ على المضي قدماً في هذا السبيل، وكان عهداً مباركاً جعل الناس يتوافدون على الشيخ الذي انتقل إلى الدرعية مدينة آل سعود، وانتقل معه عدد من أصحابه وتلاميذه الذين وجدوا في الدرعية الأمن والعلم والدين والجهاد، كما توافد إليها المخلصون من شداة العلم من البلدات والقرى القريبة والبعيدة، حتى اتسعت الدرعية، وصارت عاصمة نجد، تضج بالحياة والأحياء من طلاب العلم والحرفيين، وصارت قبله النجديين الذين تحرك فيهم حب العلم والخير، فبادروا إليها، تاركين أوطانهم وما يشدهم إليها من أهل وعشيرة ومصالح.
وتحرك الجهلة والأشرار وأصحاب المصالح، فافتروا على الشيخ ودعوته.
وكانت حروب، وكان كر وفر، وكان نصر الله يتنزل على جنده الدعاة المخلصين حتى إذا دانت أو كادت (نجد) تدين لدعوة الشيخ، انطلق الشيخ بدعوته إلى خارج نجد، وكاتب العلماء والقضاة والأمراء، وشرح لهم أصول دعوته.
واستجاب من استجاب، ممن كتب الله له السعادة في الدارين، وجافى عنها وتناءى من غلبت عليه شقوته، أو مصالحه، أو جهالاته، من الأمراء، ومن علماء السوء الملتصقين بأولئك الأمراء، ومن الأدعياء وجهلة المتصوفة، ولكن نصر الله وتوفيقه كانا حليفي الشيخ وحلفائه من الأمراء السعوديين، وكان الله بالمرصاد لأولئك المتربصين بالشيخ ودعائه، فأخزاهم، وكشف عوارهم، وأعز جنوده المؤمنين المخلصين الذين عملوا لنشر الدعوة في كثير من بلاد العرب والمسلمين الذين تأثروا بها، وتبنوها وعملوا على انتشارها حيث كانوا.
وما كان هذا النصر والانتشار والتمكين إلا نتيجة طبيعية للجهود الجبارة التي بذلها هذا العالم الرباني الذي لم يكن يوماً مبتدعاً فيما يدعو إليه، بل كان متبعاً لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان من الأئمة والأعلام.
وبانتشار الدعوة، وبسط دولتها ونفوذها في نجد والحجاز، انتشر الأمن، وقلت السرقات، وتوارى الفجور، واختبأ معاقرو الخمور، وأمن الناس والحجيج على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
أعداء الدعوة:
أوذي الشيخ في الله، ولقي الألاقي من أجل دعوته، ولكنه صبر وصابر، وثبت على الحق، ولم ترهبه المحن، ولا خشي جبروت الطواغيت، فالمال، والراحة، والوقت، والجهد، والدماء تهون في سبيل ما انتدب نفسه له، وتصدى لتجليته، إنها العقيدة، وإنها جنة أو نار، إنه دين الله وما أهون البذل في سبيل هذا الدين عند الصالحين والصديقين من أمثال الشيخ وشيوخه: أحمد الإمام الممتحن، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام العالم الجليل ابن قيم الجوزية، ومن قبلهم سيد الخلق وإمام المجاهدين الرسول القائد صلوات الله وسلامه عليه ومن بعدهم، شيخه المجموعي الذي أوذي بسببه.
وكان أعداء دعوته أصنافاً:
- فهناك الجهل بحقيقة هذا الدين من بعض العلماء الجامدين وبعض الصوفية الجهلة.
- وهناك أصحاب المصالح من بعض العلماء، وشيوخ القبائل والأمراء.
- وهناك العثمانيون الذين رأوا في حركة الشيخ ثورة عليهم، وانتقاصاً من نفوذهم وسلطانهم، وخاصة بعد استيلاء الدولة الوليدة على مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وفيهما الحرمان الشريفان اللذان تهوي إليه قلوب المسلمين.
- وهناك الدول الأوربية التي كانت تتطلع إلى منطقة الخليج العربي، من أجل احتلاله، وانتهاب ثرواته، وانتقاص الدولة العثمانية من أطرافها، تمهيداً للإجهاز عليها، وتقسيمها. رأت أوروبا في الحركة (الوهابية) كما أطلق عليها أعداؤها عملاً سياسياً خطيراً، فهي إيذان بظهور قوة جديدة يمكن أن تسيطر على المنطقةº ولهذا أغرت أوربا الحاقدة، الدولة العثمانية الغارقة في التخلف والجهل، بها.. فبادر العثمانيون إلى شن الحروب عليها، قادها محمد علي باشا والي مصر، فانهزم أمامها ثم هزمها، وكاد يقضي عليها كواقع سياسي، ولكنه لم يستطع فعل الكثير من أجل الحد من امتداداتها الدينية والفكرية في أعماق العالم الإسلامي.
لقد كانت دعوة الشيخ وحركته كما وصفها الشيخ مناع القطان (بدء يقظة كاملة في العالم الإسلامي، تعمل على سيادة مبادئ الإسلام الصحيحة، والقضاء على البدع وأوضاع الحياة الفاسدة، وتأسيس دولة إسلامية، وتكوين حكومة صالحة تحكم بمبادئ الإسلام، وتنفذ أحكامه، ونقيم حدوده.
وكما قال الأستاذ أنور الجندي: (كانت حرباً على الاستبداد والجمود، والتقليد، في مختلف ميادين السياسة والاجتماع والدين). وكما قال الأستاذ علال الفاسي: (كانت ترمي إلى تطهير الدين من الخرافات، والعودة إلى روح السنة المطهرة، من أجل تربية الشخصية الإسلامية على المبادئ التي جاء بها الإسلام المتكفل بصلاح الأمة في دينها ودنياها).
وفاته:
توفي الشيخ محمد في شوال 1206هـ - حزيران 1792 ودفن في مقبرة الطريف في الدرعية، بعد أن عمل في الدعوة أكثر من خمسين سنة، بذل فيها قصارى جهده، وكل ما لديه من إمكانات مادية ومعنوية، ترك الدنيا وما فيها لأهلها، وزهد بما في أيدي الناس، وما يقتتل حوله سائر الناس.. ترك المال، وزهد في المناصب، وورث أبناءه حب العلم والدين والزهد بما لدى الناس والحاكمين، ولو أراد منصباً لنفسه أو أولاده لبادر الأمير محمد، ومن بعده الأمير عبد العزيز لتلبية رغبته، وتنفيذ إرادته، ومنحه وأولاده ما شاء من المناصب، ولأعطوهم من الأموال ما يجعلهم في عدادا الأغنياء الأثرياء، ولكنه وأبناءه كانوا عازفين، عن كل هذه المغريات، كانوا راغبين في الله، وفي نصرة عقيدة الإسلام، وبتنقيتها مما علق بها من أوهام وأساطير وبدع، لتعود العقيدة إلى أبنائها نقية من كل شائبة، صافية من أي كدورة، سليمة من أي تشويه، وبهذا فاز وفازوا، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد