بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كان فتى ذا نعمة، واختيال في مشية..
عطره يفوح في طرقات المدينة..
شبابها يحاكونه ويقتدون به في حركاته..
لم يكن فاسقا أو ظالما، بل كان عادلا حكيما، مقبلا على العلم وحب العلماء.
كان من قدره أن يكون واليا على المدينة، فقرب العلماء وأكرمهم، فإذا وقع له أمر مشكل جمعهم، فلا يقطع أمرا دونهم.
سئل: "ما كان بدء إنابتك؟. فقال: أردت ضرب غلام لي، فقال: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة".
قال أنس بن مالك: "ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله من هذا الفتى".
كتب الله أن يكون خليفة الأمة وإمامها، جاءته الخلافة وهو لها كاره، فخلع نفسه أمام الناس، فتنادى الناس به، وأبوا إلا هو، لما يعلمون من حسن ديانته ورأيه، فثبت عليها، واستعان بالله على ما يراه مصيبة وقعت عليه.
أجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وقد ذكر جماعة من الأئمة أنه إمام مجدد، ينطبق عليه قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها)[رواه أبو داود في الملاحم باب مايذكر في قرن المائة، عن أبي هريرة، صحيح أبي داود 3606]
كان هذا الإمام الخليفة الزاهد، حجة على العباد في أقواله وأفعاله وسيرته.. أحيا من السنن ما كان قد اندرس، وأعاد المظالم إلى أهلها، ولم يحاب أحدا في الله تعالى، ولو كان أقرب الأقربين.
فبدأ بأهله وعياله، فخير زوجته بين أن تقيم معه على: أنه لا فراغ له إليها. وبين أن تلحق بأهلها، فاختارت المقام معه.
وكذا فعل مع جواريه، فأعتق من أعتق منهن، وانصرف عن البواقي فلم يصل إليهن، شغلا بما هو فيه من أمور الخلافة، تقول زوجه: ما جامع واحتلم وهو خليفة".
كان يغتم ويهتم لأمر رعيته كثيرا، تقول زوجته: "دخلت عليه يوما، وهو جالس في مصلاه، واضعا خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟، فقال:
"ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت فتفكرت في: الفقير الجائع، والمريض الجائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد.
فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي، فبكيت".
ولما كان بهذا الشعور بالمسؤولية تجاه رعيته: عمّ الرخاء في الناس، حتى صار الساعي يسعى بصدقته في أقطار الأرض، فلا يجد من يقبلها.
فقد كان يعطي كل مستحق ومحتاج..
وكان يعطي المنقطع لتعلم الفقه والقرآن..
ويكتب إلى عماله أن يستعملوا أهل القرآن، وأن يجتنبوا الأشغال عند حضور الصلاة..
وأن يأخذوا الناس بما ثبت في السنة من أحكام، ويقول: " إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحهم الله".
يكتب بالموعظة إلى العامل من عماله فينخلع قلبه، وربما يعزل نفسه ويطوى البلاد، كتب إلى بعضهم:
"اذكرك طول سهر أهل النار في النار، مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك".
فخلع العامل نفسه، وقدم على عمر، فقال له: "مالك؟، فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبدا".
إذا خلي في بيته، غل نفسه، ولبس المسوح، وقام يصلي يناجي ربه كالعبد الآبق ويقول:
"اللهم إن عمر ليس بأهل أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر".
يكثر أن يقول: "اللهم سلم سلم".
تقول زوجه: "ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه.
قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش، فيذكر الشيء من أمر الآخرة، فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فاطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: ياليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها".
وبكى مرة فبكى لبكائه أهل الدار، فلما سري عنه سألوه فقال: "ذكرت منصرف الناس يوم القيامة، فريق في الجنة وفريق في السعير".
يجتمع كل ليلة إلى أصحابه من الفقهاء، فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة. كتب مرة إلى أحد إخوانه وكان في طريقه إلى الجهاد:
"إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه، مَنِ ابتلاه الله بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حسابا ولا أهون على الله إن عصاه مني، فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي، وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكا لي، إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله، فأحب يا أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة، فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني".
قبل الخلافة نشأ ناعم العيش، يؤتى بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: "ما أحسنه، لولا خشونة فيه".
فلما ولي الخلافة صار يلبس الغليظ المرقوع ويقول: "ما أحسنه لولا لينه".
ولا يأكل إلا العدس ونحوه، قال مالك بن دينار: " يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أتته الدنيا فاغرة فاها، فتركها جملة".
قال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فقال: " بل جزى الله الإسلام عني خيرا".
وقيل له: "يا أمير المؤمنين، لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله، فقال: " والله لأن يعذبني الله بغير النار، أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني لذلك أهل".
ومن أقواله:
- " إنه ليمنعني من كثير الكلام مخافة المباهاة".
- " إن نفسي تواقة، وإنها لم تعط شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل، فلما أعطيت الذي لاشيء أفضل منه في الدنيا، تاقت إلى ما هو أفضل من ذلك"؛ أي الجنة.
ولم يكن رحمه الله عنه مجرد خليفة بل كان فقيها أيضا، فهو معدود من العلماء، وله آراء مذكورة في كتب الفقه والتفسير والحديث، فمن فتاواه أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وهذا القول نصره ابن تيمية، وألف كتابا في ذلك عنوانه:" الصارم المسلول على شاتم الرسول".
وفي خلافته منع أهل الذمة من إدخال الخمور بلاد المسلمين، ونهى عن النياحة، ونهى عن الغناء، وأمر بالتنكيل بمن خالف ذلك.
وبالجملة فإن خلافته كانت راشدة، اجتمعت القلوب على محبته، ولم يشذ منهم إلا من كان مريض القلب، ممن يحب نفسه، ويقدم مصلحته، ولو كان في ذلك ضرر على الأمة.
انتشر العدل في زمنه حتى بين البهائم..
فقد روى ابن سعد في طبقاته بسنده عن راعي من رعاة الغنم: "كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبدالعزيز، فكانت الشاء والذئاب والوحش ترعى في موضع واحد، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب لشاة، فقلت: ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك. قال حماد بن زيد: فحدثني هو أو غيره أنهم نظروا فوجدوه قد هلك في تلك الليلة".
وروى كذلك بسنده إلى مالك بن دينار: " لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس، قالت رعاء الشاء في رؤوس الجبال: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟، قيل لهم: وما علمكم بذاك؟، قالوا: إنه إذا قام على الناس خليفة عدل كفت الذئاب عن شائنا".
إن الله قادر على شيء، فالذي جعل الأنعام طعاما للسباع، يقدر أن يجعل طعامها في الأعشاب، ومثل هذا يحدث إذا نزل عيسى عليه السلام، والسبب صلاح الناس وزوال الشر من نفوسهم والقيام بالعدل، فإذا آمن الناس، واتقوا: أمنت البهائم. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}.
مات رضي الله عنه سنة 101هـ وعمره تسع وثلاثون سنة، كانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر، وهو من نسل عمر بن الخطاب، فهو جده لأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان يلقب بالأشج، لشجة كانت في وجهه، لما مات.
قال الحسن البصري: "مات خير الناس".
وعن خالد الربعي: "إنا نجد في التوراة أن السموات والأرض تبكي على عمر بن عبدالعزيز أربعين صباحا".
وسواء صح ذلك في التوراة أم لا؟، فإن معناه صحيح، سأل رجل ابن عباس: "يا أبا عباس، أرأيت قول الله: {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}، فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟، قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن، فأغلق بابه من السماء، الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه: بكى عليه.
وإذا فقده مصلاه من الأرض، التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها: بكت عليه. وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض" [تفسير ابن كثير سورة الزخرف]
قال الذهبي: "قلبي منشرح للشهادة لعمر أنه من أهل الجنة".
هذه القصة عبرة، وذكر الصالحين يشرح الصدور، ويقيم الحجة على الناس، فهم القدوة الحسنة لكل طالب للحق، محب لإقامة العدل.
[طبقات بن سعد 5/253ـ320، ابن كثير 5/9/192، السير 5/114]
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد