أيهما أصح : سعيد ابن المسيِّب ، أم سعيد ابن المسيَّب ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

مع بزوغ شمس الحركة العلمية التراثية في القرن الثاني الهجري، اتجهت أنظار العلماء إلى فن ضبط المشكل، أي المغلق الذي لا يفهمه كل أحد، وهو علم قائم بذاته، وإن كان بعض العلماء يلحقه بعلم الحديث النبوي(1). وضبط المشكل سمة على علو همة الطالب والمتفقة ودليل على شغفه بالعلم. وأولى الأشياء بالضبط أسماء الناس، لأنه لا يدخله القياس، ولا قبله لا بعده شيء يدل عليه(2).

لكن هنا مسألة: هل الذي يُضبط المشكل أم الواضح والمشكل؟!. العلماء في هذه المسألة على قسمين:

الأول يقول لا يضبط إلا المشكل، وكره بعضهم ضبط غير المشكل، وقالوا، فيه تضييع للوقت، والعمر قليل، والعمل كثير، فاستحبوا الاشتغال بالنافع،

والقسم الثاني قالوا: من الأفضل أن يُشكل الجميع لاسيما المبتدئ، وغير المتبحر في العلم فإنه لا يميّز ما أشكل ما لا يشكل، واستدلوا على هذا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وأدَّاها كما سمعها\"(3).

ومن اللطائف هنا ما أورده \"عبد الغني بن سعيد\" (409ه) في كتابه \"المؤتلف والمختلف\" حيث روى عن عبد الله بن إدريس الكوفي أنه قال: لما حدثني شعبة بحديث أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي، كتبت أسفله (حور عين) لئلا أغلط - يعني فيقرأه: أبا الجوزاء لشبهه في الخط\"(4).

وهذا العلم يقي من التصحيف والتحريف في الأسماء، وقد قال ابن الصلاح (643ه): \"هذا فن جليل من لم يعرفه من المحدثين كثر عثاره، ولم يعدم مخجلاً، وهو منتشر لا ضابط في أكثره يُفزع إليه، وإنما يضبط بالحفظ تفصيلا\"(5).

و\"سعيد بن المسيّب القرشي المدني\": (13- 94ه) علم ذائع الصيت، معدود في زمرة الفقهاء السبعة المشهورين، الذين كانوا بالمدينة في عصر واحد، وقد جمعهم بعض العلماء في بيتين فقال:

ألا كل من لا يقتدي بائمة ** فقسمته خيزى عن الحق خارجة

فخذهم عبيد الله عروة قاسم ** سعيد سليمان ابوبكر خارجة(6)

 

وهذا الإمام تغايرت أقوال المحدثين في ضبط اسمه أو في ضبط اسم والده على الأصح، والناس في ضبط اسمه على رأيين:

الأول: بضمّ الميم وفتح السين فياء مشددة مفتوحة وباء ساكنة وهذا الوجه هو المشهور بين العلماء على اختلاف طبقاتهم وعلومهم، وسبب شهرته ما درج بين الناس من التخاطب والتهاتف به على هذا الوجه من قديم الدهر دون نكران من أحد، وأقدم من تسمَّى ب (المسيَّب) هو \"المسيَّب بن علس\" شاعر جاهلي، كان أحد المقلين المفضلين، وهو خال الأعشى ميمون، وكان الأعشى راويته، وله ديوان شعر. وقد أورد ابن دريد في كتابه \"الاشتقاق\" سبب تسميته ب \"المسيَّب\" وأن ذلك بسبب بيت قاله:

فإن سرّكم أن لا تؤوب لقاحكم ** غزاراً فقولوا للمسيَّب يلحق(7)

وقد ضبط محقَّق \"الاشتقاق\" العلامة عبد السلام هارون لفظة \"المسيَّب\" على الوجه المتقدِّم - الياء المشدَّدة المفتوحة - فإن كان هذا الضبط هو أصل للكلمة ومراد للمؤلف ابن دريد فهذا قطع للنزاع في ضبط (المسيَّب) على غير هذا الوجه، والعلم عند الله - تعالى -.

ومما يرجح استفاضة هذا الضبط على هذا الوجه ما أورده \"السمعاني\" في كتابه \"الأنساب\" في ترجمة \"محمد بن إسحاق بن محمد المسيَّبي\" (236ه) حيث قال:

\"المسيَّبي\": بضم الميم، وفتح السين المهملة، والياء المشدَّدة آخر الحروف، وفي آخرها الباء الموحَّدة\"(8). فالسمعاني بهذا الضبط يُحاكي ابن دريد ويوافقه في ضبط (المسيَّب) على الوجه المتقدِّم قريباً، وممَّن ضُبط على هذا الوجه من الأعلام:

\"المسيَّب بن بشر الرياحي\" (106ه)، و\"المسيَّب بن زهير القيسي\" (175ه)، و\"المسيَّب بن نجبة الفزاريّ\" (65ه) وهو تابعي شهد القادسية وفتوح العراق، و\"المسيَّب بن واضح\" (246ه) محدث مشهور من حِمص، و\"المسيَّب ابن رافع\" (105ه) فقيه سمع من بعض الصحابة رضي الله عنهم(9).

والضبط على هذا الوجه هو الدارج عند أهل العراق على ما أورده الزبيديّ(1205هـ) في \"تاج العروس حين قال: \"قال بعضُ المحدثين: أهل العراق يفتحون وأهل المدينة يكسِرون\"(10).

وابن خلكان في \"الوفيات\" يضارع ابن دريد والسمعاني في ضبط \"المسيَّب\" على الوجه المذكور، ومن كلامه:

\"المسيَّب: بفتح الياء المشددة المثناة من تحتها..\" ويأتي بقية كلامه عند الكلام عن الوجه الثاني.

وأصل كلمة المسيَّب: البعير يُدرك نتاج نتاجه، فيُسيَّب، أي يترك ولا يركب ولا يحمل عليه، والسائبة التي في القرآن: الناقة التي كانت تُسيَّب في الجاهلية لنذرٍ, ونحوه(11).

 

أما الوجه الثاني في ضبط \"ابن المسيّب\"º فهو بضمّ الميم فسين مفتوحة وياء مشددة مكسورة، وأورد هذا الوجه في اسم سعيد ابن المسيِّب: الزبيدي في \"تاج العروس\" وذكر وزنه فقال \"محدِّث\"، ويُفتح، وابان أنَّ أهل المدينة يكسرون، وقال: \"ويحكون عنه أنه كان يقول: سيَّب الله عن سيَّب أبي\"، ومال إلى هذا الوجه: \"القاضي عياض\" (544ه) و\"ابن المديني\" (234ه)، أما ابن خلكان فقد ضبط \"المسيَّب\" بفتح الياء ثم قال: \"وروي عنه أنَّه كان يقول بكسر الياء\"، وهذه إيماءة منه إلى تضعيف هذا الوجه.

وأورده \"محمد طاهر الفتّني\" (986ه) في \"المغني\" على الوجهين كأنَّه يرتضيهما(12).

أما \"النووي\" (676ه) فقال: \"يقال المسيَّب بفتح الياء وكسرها والفتح هو المشهور، وحكي عنه أنَّه كان يكرهه، ومذهب أهل المدينة الكسر\"(13).

والمتأمل في عبارة النووي هذه يتبيَّن له أنه يرى ضعف الرواية المنسوبة إلى سعيد، \"سيَّب الله من سيب أبي\" وأنه يُجيز ضبط لفظة ابن المسيَّب على الوجه الأوّل.

ودليله أن الرواية جاءت بصيغة التمريض بلا جزم: يُروى، يُحكى، يذكر... الخ.

والأمر الآخر أنها لم ترو بإسنادٍ, متصل، والإسناد كما هو معلوم من خصائص الأمة الإسلامية، وقد قال ابن المبارك: \"لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء\"، وقال شعبة: \"كل حديث ليس فيه \"أنا\" و\"ثنا\" فهو خلّ وبقل\"، وهذان اللفظان من صيغ الأداء الثمانية التي تواضح عليها المحدثون في تبليغ المرويَّات وتحمّلها(14)، وعلى ضوء ما تقدّم يمكن القول إن فقيه المدينة يكره أن يُعرَّف ب \"ابن المسيَّب\" بفتح الياء المشددة ويميل إلى الوجه الآخر بكسر الياء المشدّدة، وهذا لا مناقرة فيه، لكن لا يجب تخطئة من نطقه أو رقمه وضبطه بالياء المفتوحة كما هو صنيع الأئمة المتقدمين، والعلم عند الله - تعالى -.

 

_____________________________

الحاشية:

1- الإلماع للقاضي عياض (ص/149).

2- المؤتلف والمختلف (ص/2)

3- رواه أصحاب السنن بسند صحيح.

4- المؤتلف والمختلف (ص/155).

5-مقدمة ابن الصلاح (ص/80).

6- وفيات ابن خلكان (283/1).

7- الاشتقاق (ص/316).

8- الأنساب (299/5).

9- انظر: ميزان الاعتدال (220/3).

10- تاج العروس (90/3).

11- تفسير الطبري (70/9).

12- المغني في أسماء الرجال (ص/231).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply