الشيخ مصطفى الزرقاء أستاذ جيل وإمام عصر المتوفى في ربيع الأول 1420


  

بسم الله الرحمن الرحيم

روى البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك عن هشام عن عُروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا\".

 

لقد ارتحل عنّا عالم جليل، وجِهبِذ مُحَقِّق، وفقيه متعمِّق، هو العلامة المغفور له بإذن الله - تعالى - الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، وقد خسر العالم الإسلامي بوفاته إماماً من أئمة الفقه في هذا العصر، فقد كان - رحمه الله - تعالى - لسان الفقه الإسلامي في عامة المجامع والندوات والمؤتمرات الفقهية التي عُقدت في العالم الإسلامي، بل العالم عامّة في هذا القرن، وما أظن أن كثيراً منها فاته، وقد كان فيها جميعاً العنصر الفاعل، والمحدِّث المفوِّه، والمحقِّق المتعمِّق، والباحث الثٌّبت، كما كان - رحمه الله تعالى - أستاذاً من أساتذة الفقه الأوّل في هذا القرن، وتخرَّج به أجيالٌ هم الآن أساتذة الجيل في كثير من الجامعات الإسلامية، أما مؤلفاته - على قلتها من حيث الحجم - فقليل نظيرها بين الكتابات الفقهية المحدثة وذلك لما تميز به فكره الفقهي من دقة الاستنباط، واستيعاب الأصول والقواعد والعلل التي تضبط الأحكام الشرعية، ولما تميّز به قلمه من أسلوب عربي فصيح محكم، خالٍ, من الحشو والركاكة، فلا تكاد تجد كلمة واحدة يمكن أن تغني عنها كلمة أخرى في كتبه التي صاغ بها أفكاره، ونسج منها نظرياته، وبخاصة سلسلته: (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد).

 

ومما تميز به الفقيه الراحل إطلاعه على العلوم القانونية، واضطلاعه بتدريسها في عدد من الجامعات العربية والإسلامية، والتأليف فيها، حتى عُدّ المرجع المتقدّم فيها، مما مكّنه من المقارنة بينها وبين نظائرها في الفقه الإسلامي، وإظهار رجحان الأحكام الفقهية وتميّزها عليها، بالأدلة العلمية الناهضة، وهو ما لم يتوفر لأكثر فقهاء العصر.

 

وقد أكرمني الله - تعالى - بدراسة أكثر كتبه عليه في جامعة دمشق، ثم القيام بتدريس أكثرها مكانه في جامعتي دمشق وحلب، بعد رحيله عن سوريا إلى المملكة الأردنية الهاشمية للتدريس في جامعاتها، ثم إلى المملكة العربية السعودية للاستفادة من خبرته النادرة ومشورته الصائبة التي كانت محلّ الاعتبار والرضا في المؤسسات العلمية كافة في المملكة العربية السعودية بمجامعها المختلفة، وفي غيرها من البلدان الإسلامية شرقاً وغرباً.

 

وقد شارك - رحمه الله - تعالى - في وضع العديد من مشاريع القوانين في البلدان العربية، كما ساهم في شرح وتنقيح بعض منها، من ذلك: قانون الأحوال الشخصية السوري، والقانون المدني الأردني...

 

كما وضع - رحمه الله - اللبنة الأولى في صرح الموسوعة الفقهية في دولة الكويت عام 1967م، ومشى فيها خطوات ثابتة هامة كانت العمدة في استمرار هذه الموسوعة إلى يومنا هذا بحمد الله - تعالى - وتوفيقه، على يد نخبة من أبناء الكويت الأمناء والعديد من الفقهاء المتخصصين.

 

كما كان - رحمه الله - تعالى - مصدراً هاماً للفتوى في العالم الإسلامي، وقد صدر عنه فتاوى كثيرة في حياته كانت مميّزة وذات طابع اجتهادي خاص، فهو - رحمه الله - تعالى - وإن كان حنفيّ المذهب، إلا أن فتاواه لم تكن تقف عند حدود هذا المذهب، ولكن تعدّته إلى المذاهب الثلاثة الأخرى: المالكي والشافعي والحنبلي، وربما جَنَحَ إلى ترجيح رأي ابن تيمية في بعض المسائل، أو اتّجه اتجاهاً خاصاً متفرّداً في بعض الأحكام - وبخاصة المستجدة منها - إلى ما يراه راجحاً ومحقِّقاً للمصلحة، وربما وافق في توجهه هذا أكثر الفقهاء أو بعضهم، وربما خالفهم فيه جميعاً غير آبهٍ, بخلافهم، مثل إباحته التأمين ضد الأخطار، والتأمين على الحياة، لدى شركات التأمين التجارية، فقد عُرِضَ هذا الموضوع على مجمع الفقه الإسلامي، فاتجه جميع أعضائه فيه إلى المنع، لما فيه من الغَرَر، وتفرّد الشيخ الزرقاء دونهم بإباحته، لما رآه من المصلحة، وقياساً له على عقد الموالاة وغيره، وهذه الميزة في الشيخ يعدّها البعض من ميزاته الايجابية، لما بلغه - رحمه الله تعالى - من العلم، وما وصل إليه من القدرة على التحليل والاستنتاج، ويعدّها آخرون من سلبياته التي تجرّأ فيها على مخالفة الأكثرية، والخروج على الجماعة.

 

وهو في نظري مأجور فيها إن شاء الله - تعالى - مصيباً كان أو مخطئاً، لأنه عالم ومحقّق بذل جهده كاملاً، فثبت أجره على الله - تعالى -، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر\" متفق عليه.

 

فنسال الله - تعالى - لفقيهنا وفقيدنا الغالي الرحمة والرضوان، والمقام العالي في جنات الخلد، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يعوض الله - تعالى - العالم الإسلامي بخسارته فيه خيراً، وأن يثيب الفقيد الغالي عما قدم للمسلمين عامة وللفقه الإسلامي خاصة من علوم ومعرفة جناتٍ, عرضها السماوات والأرض، وأن يرزقَ أهله وذويه وطلابه ومحبيه كافّة الصبر والسلوان، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

توفي الشيخ - رحمه الله تعالى - في مدينة الرياض عصر يوم السبت 19 ربيع الأول1420 - 3 تموز 1999.

 

طرف من أخباره الأسرية - رحمه الله تعالى -:

\" ولد - رحمه الله - بمدينة حلب عام 1322 في بيئة إسلامية وأسرة علمية، فوالده العلامة الفقيه الشيخ أحمد الزرقاء صاحب كتاب \"شرح القواعد الفقهية\" المتوفى عام 1357 (1938) وهو أحد من ترجم له الشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة تلميذه - رحمه الله عليهما - في كتابه \"تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري\". وجدّه هو علامة حلب الفقيه العمدة المحقق الشيخ محمد الزرقاء المتوفى عام 1343.

 

\" يطلق الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - على سلسلة العلم هذه: الشيخ مصطفى - الشيخ أحمد - الشيخ محمد، سلسلة الذهب.

 

وتتابع الاهتمام بالعلم في هذه الأسرة العلمية لدى ابن الشيخ مصطفى الثاني: الدكتور أنس، فهو من العلماء في الاقتصاد الإسلامي.

 

\" والدته هي السيدة زينب بنت الحاج محمد جلب وكانت امرأة صالحة ولما حملت به رأت في الرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشرها بأنها حامل بذكر وأوصاها بتسميته مصطفى.

 

\" جاءه من زوجته الأولى (وطفاء الأميري) أولاده: نوفل وهو أكبرهم - وأنس - ورُفيدة، وتوفيت - رحمها الله - عام 1942º ثم تزوج من (فخرية طاهر الذيل) وجاءه منها، مازن وعامر، وتوفيت - رحمها الله - عام 1983 وحزن عليها حزناً شديداً ورثاها بقصيدة من عيون قصائد الرثاء.

 

\" كما توفي في حياته ولده الطبيب مازن ثم ولده الأكبر المهندس نوفل الذي قال فيه إثر وفاته:

 

كان التيتّم للصغار بفقدهم *** آباءهم، فإذا الأمور تُبَدَّل

فاليوم فقدك يا بنيّ أضاعني *** وأراك قد يتّمتني يا نوفل

 

آثاره العلمية - رحمه الله تعالى -:

 

1. سلسلة (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد) وصدر منها:

المجلدان الأول والثاني بعنوان: المدخل إلى النظرية العامّة للالتزامات في الفقه الإسلامي، الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية في عام 1984، والمجلد الرابع بعنوان: عقد البيع.

 

2. شرح القانون المدني الأردني في ثلاث مجلدات.

 

3. أحكام الوقف (جزء لطيف).

 

4. في الحديث النبوي.

 

5. العقل والفقه في فهم الحديث النبوي.

 

6. الاستصلاح والمصالح المرسلة.

 

7. الفعل الضار والضمان فيه.

 

8. نظام التأمين والرأي الشرعي فيه.

 

9. الفقه الإسلامي ومدارسه.

 

10. عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مجمع العظمات البشرية.

 

11. عقد الاستصناع وأثره في نشاط البنوك الإسلامية.

 

12. صياغة شرعية لنظرية التعسّف في استعمال الحق.

 

وقدّم لكتاب (مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحّد) الذي كان أعضاء اللجنة التي قامت بصياغته، كما قدم لكتاب والده النفيس (شرح القواعد الفقهية)، ولكتاب تلميذه العلامة الشيخ أبو غدّة (صفحات من صبر العلماء).

 

وجُمِعَ شعره في كتاب بعنوان (قوس قزح)، لتنوّع مواضيع قصائده كتنوّع ألوان قوس قزح، كما جمعت فتاواه المتفرقة في كتاب ضخم بعنوان (فتاوى مصطفى الزرقاء) صدر حديثاً مع ترجمة حافلة للشيخ - رحمه الله - بقلم جامع.

 

من فتاوى الشيخ مصطفى الزرقاء - رحمه الله -:

 

مشكلة في الحجاب لدى أجنبيات يعتنقن الإسلام؟

سئل الشيخ - رحمه الله - من مسلمين مغتربين في أمريكا ما يلي: عدد من النساء اعتنقن الإسلام عن قناعة ورضا، غير أن موضوع الحجاب ظل صعبا عليهن الالتزام به، سواء بسبب الاقتناع ـ خاصة وهن يرين من بين المسلمات العربيات وغيرهن من لا يتحجبن ـ أو الصعوبة الني تواجههن إذا أردن إكمال حياتهن موظفات وعاملات كما تقضي ضرورة الحياة هناك. والسؤال: هل الأفضل أن يتأخر إعلان هؤلاء إسلامهن مع استمرارهن في مرحلة الدراسة والبحث حتى يشرح الله صدورهن للتحجب؟ أو ينبغي أن يرخص لهن ويرحب بهن على ما هن عليه من قناعات؟

فأجاب - رحمه الله - بما يلي:

\" إن من اعتنقن الإسلام من النساء الأجنبيات عن قناعة ورضا ويصعب عليهن الالتزام بالحجاب ـ ستر ما يجب ستره من بدن المرأة ـ لا نستطيع تغيير حكم الإسلام الشرعي لأجلهن وإباحة السفور والحسور لهن، لأن هذا التناقض عندئذ في حكم الإسلام بين الإباحة والمنع.

 

ولكن إذا سفرن وحسرن يجب أن يكون هذا على اعتقاد أن هذا حرام في الإسلام، أما اعتقاد أنه حلال لا يحرمه الإسلام فهذا ينافي الإسلام.

 

ففرق كبير في النظر الإسلامي بين العاصي لأوامر الله - عز وجل - مع اعتقاد الحرمة وبين المستبيح، فالمستبيح للمحرم القطعي كافر. وذلك كمن يشرب الخمر عاصيا فهو مسلم ومن يراها مباحة فهو كافر.

 

وعلى هذا يكون ممارسة السفور والحسور من هؤلاء المسلمات الجديدات دون اعتقادهن للإباحة ـ بل بانتظار أن تقوى إرادتهن وعزيمتهن ـ أولى من بقائهن على الكفر والله اعلم.

 

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء \" اللهم اجعلنا منهم.

 

وبهذه المناسبة أقول: يجب إفهام هؤلاء النسوة أن احتمالهن لهذا الحجاب اليسير وان كان فيه بعض المشقة عليهن: فيه لهن ثواب إضافي عند الله أكثر ثوابا لمن تعيش في بيئة إسلامية.

 

العيوب التي يجب ذكرها للخاطب

وكتب إليه - رحمه الله - أحد الأشخاص سائلا:

 

هل يجب على والد المخطوبة أن يذكر للخاطب جميع العيوب الخلقية و الخلقية، فمنها العيوب التي لا تؤثر في دوام الحياة الزوجية مثل بعض الأمراض المستعصية غير المعدية أو التي يلزمها علاج طويل؟ وفي حال أن الخاطب لم يسأل فهل يلزمه المبادرة بذكر هذه العيوب، علما أن بعض العيوب لا تظهر للخاطب عندما يرى خطيبته ولا لأهله؟

فكتب - رحمه الله - إلى السائل مجيباً:

 

\" العيوب التي يجب ذكرها للخاطب هي الأمراض المعدية، أو التي تزعج الحياة الزوجية كالصّرع، أو العيوب الجنسية كالرّتق، هذا ما يبدو لي والله أعلم.

 

موقف الإسلام من تحديد النسل

وجاءه - رحمه الله - السؤال التالي:

 

يكثر اليوم الكلام والحديث عن ضرورة اتخاذ تدابير عامة في البلاد لتحديد النسل، فما موقف الإسلام من هذه الدعوة في البلاد الإسلامية؟

فأجاب طيّب الله ثراه:

 

\" ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"تزوّجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم\"، ورُوِيَ أيضاً بإسناد غير قوي - ولكن تعضده مؤيّدات من الأدلة - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: \"تناكحوا تكثُروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة\".

 

وفي هذه دلالة على أن تحديد النسل بأي وسيلة من الوسائل لا يجوز في ظل الإسلام بأن يكون هدفاً عاماً في الدولة تهدف إليه، وتخطّط له، وتحمل عليه الناس بتدابير عامة. فلا يزال ولن يزال - العدد البشري في كل أمة من أهم مقاييس شأنها في الأنظار الدولية، وقابليات قدرتها وقوّتها.

 

ولكن لا يوجد مانع شرعي في الإسلام من اتخاذ تدابير شخصية - أي في نطاق شخصي غير عام - من كلّ فرد بحسب ظروفه الخاصة وقدرته المالية، بتحديد نسله بطرق منع الحمل دون طرق الإجهاض التي فيها عدوان على جنين متكوّن إلا في حالات الضرورات التي تصل إلى درجة إباحة المحظورات كضرورة إنقاذ حياة الأم التي توقف الإنقاذ على إسقاط حملها.

 

هذا ما تدلّ عليه النصوص الشرعية وعموماتها وكلام الفقهاء. وهو الموقف الذي استقرّ عليه رأي علماء الشريعة الإسلامية المعاصرين في عدّة مناسبات وحلقات اجتماعية: كمهرجان الغزالي بجامعة دمشق سنة 1961، ومؤتمر تنظيم الوالدية في الرباط عاصمة المملكة المغربية سنة 1971، وفي كليهما اشترك فقهاء العصر على مستوى البلاد العربية والإسلامية وقرروا هذا الموقف. كما قرّره أيضاً العلامة المحقق الداعية الإسلامي الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه القيم عن الدعوة إلى تحديد النسل وموقف الإسلام منها.

 

حكم مشاركة المسلم أو من في ماله ربا

وجاءه - رحمه الله - السؤال التالي:

 

هل تباح مشاركة أحد من هؤلاء في عمل تجاري: 1- النصراني؟ 2- المرتدّ عن الإسلام بإنكار معلوم من الدين بالضرورة؟ 3- الذي في ماله ربا أو في ماله رشوة أو مال مغصوب؟

فكان جوابه - رحمه الله -:

 

1- تجوز مشاركة النصراني بالتجارة.

 

2- المرتدّ عن الإسلام لا تجوز معاملته.

 

3- الذي في ماله ربا أو حرام آخر تُكره معاملته ومشاركته.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply