وُلد الشاعر \"محمد مفدى زكريا\" عام 1908م في قرية \"بني يزقن\" في منطقة \"الميزاب\" بالجنوب الجزائري وقد تلقَّى تعليمه متنقلاً بين مختلف المدارس والمعاهد، ابتداء من الكُتّاب الذي حفظ فيه القرآن وتعلم القراءة والكتابة، وانتهاء بمعهد الزيتونة والمعهد الخلدوني في تونس، وأتيح له خلال مقامه في البلد الشقيق الاغتراف من نبع اللغة والثقافة العربية، واستيعاب تراثها الشعري، والاطلاع على قصائد شعراء مدرسة الإحياء وكذلك المدرسة الرومانسية، فكان لذلك أثره في إثراء موهبته واتباعه المنهج الفني الذي قامت عليه المدرسة الأولى بصفة خاصة، كما يبدو جليَّا في شعره.
كما أتيح له متابعة الصحف العربية الوافدة من مصر إلى تونس، وما حفلت به صفحاتها من مقالات بأقلام رواد النهضة والإصلاح والتحرير، وانعكس هذا بدوره على الموضوعات والأفكار والمشاعر التي عبّر عنها مفدى زكريا.
لما عاد من تونس إلى الجزائر المنكوبة بالاستعمار لم يتردد في اللحاق بركب حركة الإصلاح والاستقلال، فانضم إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكان من شعرائها المرموقين، وقد تتابعت قصائده بصحفها ومجلاتها، ثم رافق الحركة السياسية الوطنية مناضلا بقلمه ولسانه، فكان شاعر الحرية والنضال والدعوة إلى التضحية والفداء في سبيل عزة الوطن وحريته. ولُقّب بـ\"ابن تومرت\"، وهو اسم مؤسس دولة الموحدين في المغرب
اللهب المقدس
لما انطلقت ثورة الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1954م التحق بصفوفها محارباً بقلمه ولقب بـ \"شاعر الثورة التحريرية\"، وقد كلفه ذلك تجريده من حريته سنوات طويلة، زُجّ فيها في غياهب السجون. وقد نظم كثيراً من قصائده وأناشيده في الزنازين، وما ثناه هذا القمع عن عزمه. وتطالع القارئ أنفاسه المتهدجة الثائرة في كل صفحة من صفحات أشعاره النضالية في ديوانه الكبير \"اللهب المقدس\". فالثورة الجزائرية هي الينبوع المتفجر في قصيدهº لأنها القضية الأساسية التي وقف عليها فنه وحياته، والتي ألهمته حرارة أنفاسه.
فلا غرو أن يقترن اسم مفدى زكريا على صفحة غلاف هذا الديوان بعبارة (شاعر الثورة الجزائرية) فهي قولة حق بلا منازعº لأنها الجذوة التي ألهبت وجدانه وفكره، منذ عرف طريقه إلى عالم الكلمة حتى غدا شاعر الحرية والنضال. وبهذا الموقع ينتسب في رأينا إلى طبقة شعراء الحماسة العرب. فشعره هو الثورة، والثورة هي شعره، ومن ثم أهدى ديوانه (إلى الدقيقة الواحدة من فاتح نوفمبر 1954م.. إلى أول أصبع جزائرية... تطلق القذيفة المسحورة الأولى فتسعِّر \"اللهب المقدس\" في دروب بلادي الحالمة وأحراشها السكرى، ورمالها العطشى، وجبالها الغضبى).
ويقول في كلمة التقديم أيضاً إن \"اللهب المقدس\" هو ديوان الثورة الجزائرية ـ التي يسميها ثورة العرب في الجزائر ـ بواقعها الصريح، وبطولاتها الأسطورية، وأحداثها الصارخة، وهو \"شاشة تليفزيون\" تبرز إرادة شعب. ويقتبس مفدى زكريا وصف أمير الشعراء أحمد شوقي للشعراء (أنتم الناس أيها الشعراء) كما يُعرِّض بشعر نزار قباني في ديوان \"طفولة نهد\"، وذلك في قوله: \"قد لا يجد عشاق ما يسمونه بالشعر الجديد في \"اللهب المقدس\" ما يشبع غرائزهم المشبوبة في جحيم النهود والبراعم والفساتين، ولكن سيجد فيه (الشعراء الناس) صلة رحم وثقى بعزّ أمجادهم، وتجاوبا صادقاً مع مشاعر العروبة الزاحفة في كل بلد عربي يقدر ما لكلمة \"عروبة\" من عظمة وجلال، وعسى أن أكون قد أرضيت ضميري وثورة بلادي وعروبتي\".
ويشترك مفدى زكريا مع كثير من شعراء المقاومة السجناء في مخاطبتهم من وراء الأصفاد أطياف زوجاتهم وأبنائهم وبناتهم المغيبين عن عيونهم فينادي مفدى زوجته من سجن \"بربروس\" الرهيب في الجزائر العاصمة سنة 1955م إذ يقول:
سلوى أناديك (سلوى) مثلهم خطأً ****لو أنهم أنصفوا كان اسمك الرَّمقُ
يا فتنة الروح هلا تذكرين فتى *** ما ضره السجن إلا أنه وَمِق؟
هل تذكرين إذا ما الحظ حالفنا*** إليك أهتف يا (سلوى) فنتفق؟
أم تذكرين ولحن الروح يطربنا*** إذ نفرش الرمل في الشاطئ ونعتنق
وتغرب الشمس تطوي في ملاءتها*** سَّرين أشفق أن يغشيهما الشفق
وكم سهرنا وعين النجم تحرسنا*** إذ نلتقي كالرؤى حينا ونفترق
والليل يكتم في ظلمائه شبحاً*** يأوي إلى شبح ضاقت به الطرق
يا ليل كم لك في الأطواء من عجب *** يا ليل حالك حالي أمرنا نسق
عود على بدء
ويتغنى شاعرنا بانتماء الجزائر إلى الإسلام والعروبة، فتحت رايتهما تصدت كتائب جيش التحرير للمستعمر مستلهمة مبادئها وأهدافها وسلوكها من الأصول الإسلامية وروح الشريعة، جاعلة من الجهاد في سبيل إعادة البلاد إلى نهج العروبة والإسلام مبدأ مقدسا آمن به رجالها إيمانا لا يتزعزع.
وقد بلغ من التزام المجاهدين بقدسية التضحية والفداء التي نص عليها الكتاب والسنة تنفيذ بعضهم ـ في حالات نادرة ـ حكم الإعدام في أبناء وآباء وأخوة ثبتت في حقهم جريمة العمالة والخيانة العظمى. ومن ثم كان للدين الإسلامي الحنيف الباع الطويل في شحذ الهمم والتفاف الشعب حول قادة الفاتح من نوفمبر بعد أن مهد العلماء المسلمون الجزائريون للثورة بنشر العقيدة وبث الوعي بمقاصدها، وعلى رأسهم الشيخان \"عبد الحميد بن باديس\" و\"محمد البشير الإبراهيمي\" اللذان استوعبا جوهر الدين الحق، وحاربا البدع والضلالات التي أشاعها التخلف والاستعمار، وعرفت باسم \"الطرقية\"، كما قاوما النزعة \"الإقليمية\" المعادية للعروبة والتي غرسها الفرنسيون، وبشرا بالجانب الإنساني للإسلام، ونشرا التعليم باللغة العربية التي استخدم الاستعمار كل الوسائل للقضاء عليها وطمس الشخصية الجزائرية.
اقرأ كتابك
ويستحق مفدى أن ينال شرف نعته بالمدافع الصلب عن الوحدة العربية، لا لما شدا به من قصائد في هذا الغرض فحسب، بل بما بذل وضحى في سبيل مبدئه، متوجا قوله بفعله، فلقد دفع الثمن من حريته إذ زج به العدو من سجن إلى سجن، فلم يجزع أو تهن عزيمته، بل زاده الاضطهاد والتعذيب إيمانا بحرية وطنه وعروبته.
ولنستمع إلى صدى صوته من قاع الزنزانة رقم \"375 بسجن البرواقية\" وهو ينشد قصيدة \"اقرأ كتابك\" وقد ألقيت هذه القصيدة نيابة عنه في إذاعة (صوت العرب) بالقاهرة:
هذا (نفمبر) قم وحي المدفعا *** واذكر جهادك والسنين الأربعا
واقرأ كتابك للأنام مفصلا ***تقرأ به الدنيا الحديث الأروعا
إن الجزائر قطعة قدسية *** في الكون لحنها الرصاص ووقعا
وقصيدة أزلية أبياتها ***حمراء كان لها (نفمبر) مطلعا
نظمت قوافيها الجماجم في الوغى *** وسقى النجيع رَويَّها فتَدفّعا
غنى بها حر الضمير فأيقَظت *** شعبا إلى التحرير شمر مسرعا
وأراده المستعمرون عناصرا *** فأبى مع التاريخ أن يتصدعا
واستضعفوه فقرروا إذلاله *** فأبت كرامته له أن يخضعا
واستدرجوه فدبروا إدماجه *** فأبت عروبته له أن يُبلعا
وعن العقيدة زوروا تحريفه *** فأبى مع الإيمان أن يتزعزعا
لقد كان شاعرنا في طليعة العلماء والأدباء في عصره، وله دراية عميقة بالتاريخ العربي الإسلامي الذي جعل شعوب المشرق والمغرب نسيجا واحداً لا انفصام له.
في ملحمة فلسطين
تتوج ملحمة الشعر النضالي الذي استوحاه من إيمانه بالوحدة العربية ودعوته إلى الدفاع عن شعوبها المكافحة بقصيدته \"فلسطين على الصليب\"، وهي حوار بين الشاعر وفلسطين والعرب بعد 13 عاما من تقسيم فلسطين.
وهي من أروع منجزاته الشعرية صياغة ومضمونا. ولعل قسوة الجرح الفلسطيني وفداحة النكبة كانا من وراء حرارة النغم الذي شدا به هذا الشاعر الموهوب المرهف الحس الأصيل الانتماء، وهو يفتتح الجزء الأول من القصيدة بنداء جياش موجع يثير كل المواجد:
أناديك في الصرصر العاتية ***وبين قواصفها الذَّارية
وأذكر جرحك في حربنا ***وفي ثورة المغرب القانية
فلسطين يا مهد الأنبيا *** ويا قبلة العرب الثانية
ويا حجة الله في أرضه *** ويا هبة الأزل السامية
أما الجزء الثاني فقد صاغه الشاعر على لسان فلسطين، فهو ينزف أسى ولكنه يسمو شموخا. وفيه يكشف مفدى دون مواربة ولا رياء عن أسباب المحنة. فالعربي الذي يبكي فلسطين هو الطاعن والطعين، هو الجرح والسكين. وقبل أن ندين غيرنا علينا أن نطهر أنفسنا، تلك شريعة الحق والعدل، وليس هناك طريق بديل:
لقد كان لي سبب للبقا *** فقطع قومي أسبابيه
ورحت أباع وأشرى ***كما تباع لجزارها الماشية
وأشنق في حبل مستعمري ***وأصلب في كف جلاديه
وفرَّقني الخُلف أيدي سبا *** وشُتِّت في الأرض أوصاليه
فأصبحت أرسف في محنتي ***وقومي عن محنتي لاهية
هو الشعب لا السادة المترفون ***يحقق للنصر أحلاميه
ويستفز الشاعر النخوة العربية بذكر الأمجاد التاريخية التي خلدها أبطال العرب خالد بن الوليد وسعد بن أبى وقاص وصلاح الدين الأيوبي في القادسية وحطين وأنطاكية. ويختتم مفدى زكريا قصيدته بالأمل.. بل بالثقة في النصر:
ولن يخلف الله ميعاده *** ولا ريبَ ساعتنا آتية
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد