وترجل فارس الإعلام


  

بسم الله الرحمن الرحيم

في كثير من الأحيان لا ينتبه الناس إلى مقدار بعضهم وفضله كما ينبغي إلا حين يفجأهم الموت بفقده، فإذا إلى تأريخه الذي تكوّن في ذاكرتهم، ورأوا أثره في حياتهم علموا حينها عظم مصيبتهم بفقده وغيابه، ولاموا أنفسهم على تفريطهم في حقه إبان حياته، وكيف غفلوا عنه وفاتهم أن ينتفعوا بكل ما لديه حين كان ذلك ممكناً، ويعودون إلى الحوقلة واجترار الذكريات... وهي في النهاية إحدى سنن الحياة فيما يبدو، وقليل هم أولئك الذين يُعرف قدرهم في حياتهم.

 

لقد ترجّل الدكتور عبد القادر طاش وغادرنا راحلاً إلى آخرته في زمن تمرّ فيه قضيته الكبرى وهي قضية الإعلام الإسلامي بمنعطف لم يسبق له مثيل في التأريخ فقد أصبحت الآلة الإعلامية بأشكالها المتعددة والتعامل معها إبداعاً وتلقياً بزعمي هي أكبر التحديات التي تواجه الأمة سواء في اختراقها لميدان الأفكار والمفاهيم أو لاختراقها لميدان الأخلاق والقيم، بل حتى وصولها وملامستها لحاجات الحياة اليومية.

 

لقد كان أبو عادل - رحمه الله - رحمة واسعة - من أوائل من حمل عبء هذا الهمّ، ومن أوائل من تعاطى مع هذا المشكل الضخم برؤية إسلامية دعوية واعية تدريساً وتأليفاً وممارسة في الدوائر الأكاديمية والصحفية والفضائية، وكان يمثل رمزاً إسلاميا بارزاً في هذا السياق لا يمكن تجاوزه، ويطغى التمثيل به على غيره عند الحديث عن إشكالية وبدايات الإعلام الإسلامي، لقد تحرك في زمن كان الكثير فيه يقفون موقف المحذّر من الممارسة الإعلامية ومن كل مخرجاتها، أو على أحسن أحوال طائفة منهم في موقف المتردد والمتفرج الذي لا يتجاوز الاستقبال، فكان صاحب واضح متعقل يدرك طبيعة المرحلة ووعورة البداية، ولسنا ننسى المثال المتواضع الذي كسر به - رحمه الله - الحاجز، وهو برنامجه المبكر (المجلة الاسلامية) والذي كان يبث في التلفزيون السعودي المحلي لفترة من الزمن، ولكنه كان ذا نكهة خاصة لم يألفها الناس... ثم تطورت الممارسة التي خاضها بعد ذلك إلى آفاق أرحب وأوسع، وكان أكثرها صخباً وتأثيراً تجربته في جريدة (المسلمون) والتي كانت الوحيدة تقريباً في ميدان التمثيل للنموذج والرؤية الإسلامية الصحفية، وقد خاض الدكتور - رحمه الله - من خلالها في مجالات متعددة لم يألفها المتلقي في المطبوعة الإسلامية، فكانت منبراً حرّاً للسجال في الصف الإسلامي الذي كان حينها يفتح مرحلة جديدة من أبرز سماتها الشفافية المتزايدة وشيوع المحاورات العلنية والسجال الثقافي.

وكالفارس النبيل تحوّل الدكتور بعد ذلك إلى الفضائية الإسلامية الأولى وهي قناة (إقرأ) واجتهد أن يجعلها - ووفق ظروف نشأتها وتبعيتها التجارية - بداية لإعلام إسلامي فضائي منافس، وهو تحدٍ, كبير لم يزل قائماً وحاضراً ومتجدداً، فكانت محاولاته تلك رصيداً تأريخياً مهماً في طريق المحاولات الإسلامية لخوض هذا الغمار، واستثماره لصالح المشروع الإسلامي الشامل، ونحن هنا نستشعر صعوبة البدايات وعذاباتها، والتي تمتد من إنطلاقة الفكرة إلى خروجها مجسدة في الواقع المادي والذي كان يعني مادة إعلامية ناضجة مستلهمة للإسلام ومنطلقة في إطار ضوابطه تلامس روح الأمة وتقترب من مشكلاتها، وبرغم تلك الصعوبات فقد نجح الدكتور - رحمه الله - في وضع بصماته على تلك المرحلة، وعاد بعدها إلى عالم الصحافة ليترك لنا وبمعونة بعض تلاميذه ملحقاً صحفياً متميزاً وهو ملحق (الرسالة) عنوان ذكرى، ومبعث شجى يذكرنا بمؤسسه كل أسبوع بصحيفة المدينة وخصوصاً حين يخرج في حليته ومنهجيته التي شبقت صحافتنا المحلية الإسلامية بل وغير الإسلامية، وكانت في مهنيتها الصحفية وفي جانبها الفكري تحديداً نموذجاً لم يُنافس إلى الآن وإن غمطه النافسون حقه وهي شهادة من يرى واقع صحافتنا من زاوية واسعة تحيط بأطرافه ولابد من تسجيلها ولو للتأريخ فقط.

كل هذه المنجزات والأدوار التي مارسها فارسنا الراحل وبرغم دويّها الكبير وغبارها الثائر كان يمارسها بسمت هادئ رزين، ووقار ظاهر، وخلق رفيع، وأدب جم، وتواضع عفوي.

كان - يرحمه الله - يحرك هذه الزوايا الساكنة والقضايا الخاملة ثم يتركها باسماً ويتناولها الناقدون ويسهرون جرّاها ويختصمون خلف مثيرها السائر، رحمك الله أبا عادل فكم فقدنا بفقدك، وعوّضك الله خيراً من دارك وأهلاً خيراً من أهلك، وآجر الأمة في مصابها بك. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply