الشيخ محمود مهدي الاستانبولي في ذمة الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم أفاجأ بنبأ وفاة الشيخ محمود مهدي الاستانبولي لأنني كنت أعلم أن أمراض الشيخوخة قد اشتدت عليه، وإذا نجح الأطباء في علاج أحد هذه الأمراض فوجئوا بمضاعفات لها يصعب النجاة منها.. ولكن حين جاءني خبر نعيه في 7/5/1998 عادت بي الذكريات إلى سيرة هذا الرجل - رحمه الله - في مدينته دمشق.

يصعب على رجل مغترب مثلي تصور مدينة دمشق بدون الشيخ الاستانبولي بسبب وجوده القوي في مجالات دعوية شتى.

كان للشيخ - رحمه الله - وجود في الصحافة وخاصة في المناسبات العامة: كذكرى المولد النبوي، وصلاة التراويح، فلابد في كل عام من بيان البدعة في هذه وتلك، ولابد أن يرد عليه آخرون من دعاة ما يسمى بالبدعة الحسنة.

 

وكان له وجود في المساجد راداً على خطبة هذا الخطيب، وموعظة ذاك الواعظ.

 

وكان له وجود قوي في مجال التربية والتعليم، ومن مظاهر هذا الوجود قيامه بإنشاء عدد من المدارس الخاصة لتكون بمثابة رد إيجابي على مدارس التبشير الصليبـي في بلادنا التي تعززت وقوي شأنـها أيام الاستعمار الفرنسي، ولا تزال بعض هذه المدارس تؤدي دورها.

 

وكان له وجود في عالم النشر كإصدار الكتب والمطويات التي تدافع عن الإسلام وتفضح أعداءه وتكشف زيف المبتدعين والضالين المضلين.

 

كان الشيخ - رحمه الله - أول من أصدر مجلة تُعنى بشؤون المعلمين في سورية، ويروي في مذكرات له كتبها في مرحلة الخمسينيات أن المندوب الفرنسي كان قد استدعاه في مرحلة الاحتلال ليحقق معه في شأن هذه المجلة:

قال له: من رئيس التحرير؟!.

قال: أنا.

وسأله مرة ثانية: من أسرة التحرير؟!

قال: أنا.

وعاد يسأله: من المحاسب؟!

قال: أنا.

وهاهنا تبرز لنا الطبيعة الجادة عند هذا الرجل، والقدرة المستمرة على العطاء والإنتاج خلال عمره الذي ناهز أربعة وتسعين عاماً.

وفضلاً عن أمره بالمعروف ونـهيه عن المنكر، ودعوته إلى اتباع نـهج السلف الصالح، وشدته في ذلك الذي كان يميزه عن غيره فلقد كان أصيب بطلق ناري في ساقه وهو في شرخ الشباب عندما كان يتدرب على إطلاق النار، وكان يبرر ما حدث له من عرج بقوله: إنـها \"فرامل\" من الله - تعالى - عندما يشتد انفعالي في حواري للمخالفين.

وسواء اتفق الناس مع الراحل أم خالفوه لابد أن يعترف المنصفون أنه كان مجتهداً مخلصاً في نصحه [نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً].. وسواء اتفقت معه أو خالفته لابد من الاعتراف بأنه كان نسخة في مدينة دمشق يصعب أن تتكرر بمثل هذه المواصفات التي أشرنا لبعضها.

 

وقصارى القول: فلقد كانت آفاق الشيخ الفقيد واسعة لا يحدها حد ولا يقيدها قيد، وكان كمن يقاتل على عدة جبهات، وكم كان مهتماً في آخر سني حياته بتوجيه أنظار الدعاة إلى مسألة الاهتمام بدعوة الغربيين إلى الإسلام.

 

بقي أن يعلم القارئ أن هذا الشيخ مات غريباً عن مدينته دمشق التي أحبها، ولم تشفع له عند النظام النصيري شيخوخته أو تجنبه لأية معارضة سياسية، وكان يقول لأصدقائه ومحبيه: الأنشطة السياسية عائق في طريق نشر الدعوة فاجتنبوها… ويسرف في الخطأ من يعتقد أن النظام الباطني النصيري لا يتعرض بسوء إلا لكل معارض سياسي للنظام.

رحم الله الشيخ الاستانبولي رحمة واسعة، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله، وإنا لله وإنا إليه راجعون...

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply