أبو الحسن الأشعري وتحولاته الفكرية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

للبيئة شأن عظيم في تنشئة الإنسان، وتحديد سلوكه وأفكاره وعاداته، فكلما كانت البيئة صالحة فكريا وسلوكيا كان ذلك أدعى لصلاح الشخص وأقرب لاستقامته.

 ولد أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري بالبصرة سنة 260هـ، وسكن بغداد وتوفي بها سنة 324هـ. وعاش - رحمه الله - ملازما لزوج أمه شيخ المعتزلة في زمنه أبي علي الجبائي، فعنه أخذ الاعتزال حتى تبحر فيه وصار من أئمته ودعاته. إلا أن عناية الله - عز وجل - بهذا الشيخ الجليل، ثم ما أودعه فيه من فكر ثاقب وفهم صائب، جعله يأبى أن يستسيغ مذهب المعتزلة، القائم على مجافاة الوحي.

 فكان - رحمه الله - كلما عرض له إشكال في مذهب المعتزلة طرحه على شيخه زوج أمه - أبي علي - إلا أنه يرى العجز ظاهراً في جوابه، فداخله الشك والحيرة، ثم حدث أن نام وفي نفسه شيء مما كان يطرحه على شيخه أبي علي، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام يأمره بالأخذ بالمروي عنه في أمور الاعتقاد، ورد ما خالف الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم -، وفي تلك الرؤيا ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ما ثبت عنه هو الموافق للعقل، على خلاف ما قاله المتكلمون، فأخذ أبو الحسن - رحمه الله - ينظر في كتب المعتزلة وفق وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى صدق كلامه - صلى الله عليه وسلم -، فخرج بعد انقطاع دام خمسة عشر يوما - قضاها في البحث والمطالعة - إلى المسجد الجامع، وأخبر الناس أنه انخلع مما كان يعتقده، كما ينخلع من ثوبه، ثم خلع ثوبا كان عليه ورمى بكتبه للناس.

 ومنذ تلك اللحظة وأبو الحسن سيف مصلت على المعتزلة، يبين زيف آرائهم، وينقضها بالحجة والبرهان، والأدلة العقلية والنقلية، فألف فيهم العديد من الكتب، حتى تمنوا موته والتخلص منه.

 استقر أبو الحسن - رحمه الله - بعد انخلاعه من مذهب المعتزلة - على مذهب ابن كُلاَّب وهو من شيوخ الأشعرية الأوائل، غير أنه ما كان ليدع النظر ويعمل الفكر في هذا المذهب الجديد، عملا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بما ثبت عنه، ورد ما عارضه، فلم يمكث طويلا حتى انتسب إلى مذهب أهل الحديث والسلف، وأعلن أنه على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وألف في ذلك كتابه المشهور \"الإبانة\"، وهو كتاب ثابت النسبة إليه كما ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر حيث قال: \"وتصانيفه بين أهل العلم مشهورة معروفة وبالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحققين موصوفة ومن وقف على كتابه المسمى بالإبانة عرف موضعه من العلم والديانة\".

 إلا أن طول فترة تمذهبه بمذهب المعتزلة، مع قلة خبرته بآثار السلف ونصوصهم، أورثت عنده نوعا من الاضطراب في بعض الآراء، فجانب فيها عقيدة أهل السنة والجماعة، يقول ابن تيمية - رحمه الله - في معرض رده لبعض شبهات أهل الكلام: \"وهذا من الكلام الذي بقى على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة، فإنه خالف المعتزلة لما رجع عن مذهبهم في أصولهم التي اشتهروا فيها بمخالفة أهل السنة كإثبات الصفات والرؤية وأن القرآن غير مخلوق، وإثبات القدر وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث، وذكر في كتاب المقالات أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث، وذكر في الإبانة أنه يأتم بقول الإمام أحمد، قال: فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين..... واحتج ضمن ذلك بمقدمات سلمها للمعتزلة فصارت المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام يقولون إنه متناقض في ذلك، وكذلك سائر السنة يقولون إن هذا تناقض، وإن هذه بقية بقيت عليه من كلام المعتزلة\"(منهاج السنة 2/ 227-229)

 وقال الإمام ابن تيمية أيضاً: \"بل هو - يعني الأشعري - انتصر للمسائل المشهورة عند أهل السنة التي خالفهم فيها المعتزلة كمسألة الرؤية، والكلام، وإثبات الصفات، ونحو ذلك، لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبره مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام والصفات الخبرية وغير ذلك\"[مجموع الفتاوى 12 / 204، 205].

 فهذه نبذة عن حياة الرجل الفكرية وهي حياة تجمع بين أمرين: الأمر الأول عناية الله - عز وجل - بهذا الإمام، إذ نقله - بفضله ورحمته - من البدعة إلى السنة ومن الضلال إلى الهدى، وتجمع أيضا قصة إمام بذل حياته في نصرة الحق والذب عنه، فألف العديد من الكتب في بيان الحق ورد البدع حتى بلغت تصانيفه المئات.

 غير أنه مما يجدر التنبيه عليه، أن مذهب الأشاعرة - المنتشر في بعض البلاد - ليس مذهب أبي الحسن الأشعري - رحمه الله - الذي مات عليه، وإن كانت الأشاعرة تنتسب إليه، وتنسبه إليها، وقراءة منصفة في مثل\"الإبانة\"و\"مقالات الإسلاميين\"توضح لك - أخي القاريء - البون الشاسع بين المذهبين.

 رحم الله الأشعري رحمة واسعة، وغفر له وتجاوز عنه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply