الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
اللهُ – عز وجل - يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه من يشاء، ومن جملة من اختارهم اللطيف الخبير – سبحانه وتعالى - قوم هم \"ألين الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها بياناً، وأصدقها إيماناً، وأعمّها نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة\" [1] قوم جعل الله \"حبهم ديناً وإيماناً وإحساناً، وبغضهم كفراً ونفاقاً وطغياناً\"[2] قوم اختارهم الله – عز وجل - فنصر بهم المختار - صلى الله عليه وسلم -، وفتح بهم القلوب والأمصار، وجعل منهم المهاجرين والأنصار، أثنى الله على متقدميهم فقال: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ, رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جناتٍ, تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم)[3]
حبّ الصحابة والقرابة سنة ألقى بهـا ربي إذا أحـياني
كيف لا؟! \"فأيّ خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطّة رشدٍ, لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالاً، وأيّدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد والسيف والسنان\" [4].
أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.. لنقف معهم وقفات نتعرف عليهم لنعرف حقهم ونقتفي آثارهم،
............. عسى رحمةٍ, شملتنا أو لعلّ وربّما
كمــا شملت آل الرســـول وصحبـه فــأكرم بهم آلاً وصحبــــــاً و أنعمـــا
من هو الصحابي?
\"الصحابي من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال إسلام الرائي وإن لم تطل صحبته، وإن لم يَروِ عنه شيئاً، هذا قول جمهور العلماء خلفاً وسلفاً\" [5]. هكذا حدّه ابن كثير، ونحوه قال ابن تيمية [6] في منهاج السنة وذكر أنه قول أحمد - رحمه الله -.
وذِكرُ أهل العلم للرؤية لا يُخرج من صَحِبَه - صلى الله عليه وسلم - دونما رؤية كابن أم مكتوم - رضي الله عنه - إذ المقصود من الرؤية أقل اللقيا، \"فلفظ الصحبة جنس تحته أنواع، يقال صحبه شهراً و ساعة [7]، قال ابن حجر: \" أصحّ ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي: من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه ومن لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه ولم يجالسه، ومن لم يَرَهُ لعارضٍ, كالعمى\" [8]. لهذا \"قال بعضهم في معاوية - رضي الله عنه - وعمر بن عبد العزيز – رحمه الله - ليوم شهده معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته\" [9].
وقال شيخ الإسلام: \"واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان مُلكُه مُلكاً ورحمةً كما جاء في الحديث ((يكون الملكُ نبوةً ورحمةً، ثم تكون خلافةٌ ورحمةٌ، ثم يكون مُلكٌ ورحمةٌ، ثم مُلكٌ وجبريّةٌ، ثم مُلكٌ عَضوضٌ)) وكان في مُلكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يُعلم منه أنه كان خيراً من مُلك غيره\" [10].
ما يجب في حقهم
جملة ما يجب في حقهم - رضي الله عنهم -، ما قاله الطحاوي – رحمه الله -:\" ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ولا نُفرّطُ في حُبِّ أحدٍ, منهم ولا نتبرّأ من أحدٍ, منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلاّ بخير\" [11]، كما دلّت على ذلك الآيات والآثار، قال الله – تعالى -: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ, - رضي الله عنهم - ورضوا عنه وأعدَّ لهم جناتٍ, تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفور العظيم) [12]، وقال – تعالى -: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آوَوا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) [13]، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالدٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبّوا أصحابي فلو أنّ أحدَكُم أنفق مثل أُحُدٍ, ذَهَباً ما أدرك مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه)) [14]، \"فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لخالد ونحوه لا تسبوا أصحابي يعني عبد الرحمن وأمثاله لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأوّلون وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهم أفضل وأخصّ بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة\" [15]، \"وأما مَن بعد هؤلاء السابقين الأوّلين وهم الذين أسلموا بعد الحديبية فهؤلاء دخلوا في قوله – تعالى -: (وكُلاً وَعَدَ اللهُ الحسنى) [16]، وفي قوله – تعالى -: (والذين اتّبعوهم بإحسانٍ, رضي الله عنهم ورضوا عنه)\" [17]، \"والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسبّ من له صحبة أولاً، لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لم يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَهº فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحالٍ, مع الصحابة؟\" [18]، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: \"لا تسبوا أصحاب محمد فَلَمقام أحدهم ساعة – يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم - خيرٌ من عمل أحدكم أربعين سنة\" [19].
وكذلك مما يدلٌّ على ما أسلفنا من حقهم - رضي الله عنهم -، أوثق عرى الإيمانº الحب في الله والبغض في الله، أعني عقيدة الولاء والبراء، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضاً بعدي، فمن أحبّهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)) [20].
ومن حقّهم - رضي الله عنهم - أن نمسك عمّا شَجَرَ بينهم وأن لا نذكرهم إلاّ بخير، فهم ما بين مجتهدٍ, مصيبٍ, له أجرين، ومجتهدٍ, مخطئٍ, له أجرا [21]، وجميعهم قد سبقت لهم من الله الحسنى وقد مضى في ذلك ذكر طرف من الآيات والأخبار. وما كان منهم تجاه بعضهم - رضي الله عنهم - كان عن تأوّلٍ, وخطأٍ,، وقصد جميعهم الخير والإصلاح، ما كفّر أحدٌ منهم أحداً ولا فَسَّق أحدٌ منهم أحداً، بل عرفوا قدر بعضهم، لكن رأى بعضهم أن الحق معه وأن غيره بغى عليه اجتهاداً خطأً ولا سبيل إلى ردّه إلاّ بما كان.
قال ابن كثير – رحمه الله -: \"وقد رُوِي من غير وجهٍ, عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: (إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله: (ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ, إخواناً على سُرُرٍ, متقابلين)\" [22].
دَع ما جَرى بين الصحابة في الوغى بسـيوفهم يومَ التقى الجمعـــــــــانِ
فقتيلُهـم منهم و قــــــــاتلُهـم لهـــم وكلاهمـــــا في الحشـر مَرحومـــــانِ
واللهُ يوم الحشـــــر ينــــزع كلّمـــــــا تحـــوي صدورهــمُ من الأضغــــــــانِ
أكرم بفاطمــةَ البتـول و بعـلـِهــــــــا و بمــن همـــــــــا لمحمــدٍ, سـِبطانِ
أكرم بطلحــةَ والزبيــرِ وسَعدهـــــــم و سـعيدهـــم و بعابـــــدِ الرحمــــــنِ
والويـــلُ للرّكب الذين ســـــعوا إلــى عثمـــان فــاجتمعوا على العصيــــانِ
ويــلٌ لمـن قتــل الحسيــن فــــــإنــه قــــد بـــــــاء مـن مــولاه بالخســرانِ
حكم من سبهم أو آذاهم
يقول الله – تعالى -: (والذين يُؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) [23]. اختلف العلماء فيمن سبّ الصحابة - رضي الله عنهم - وذلك أن سبّ الصحابة ليس على مرتبة واحدة، بل هو أنواع ودركات، ولكنهم اتفقوا على أنه جرمٌ عظيمٌ وذنبٌ كبيرٌ.
ومن أنواع سب الصحابة والتي تعد ناقضاً من نواقض الإيمان ما يلي:
(1) استحلال سبهم، فمن كان مستحلاً لسبهم فهو كافرٌ لاستحلاله سبَّ قوم أجمع العلماء على عدالتهم وتواترت نصوص الكتاب والسنة في الثناء عليهم والمدح لهم.
(2) ومما يناقض الإيمان سبٌّ جميع الصحابة أو جمهورهم سباً يقدح في دينهم، قال القاضي عياض – رحمه الله -: \"وكذلك نقطع بتكفير كلّ قائلٍ, قولاً يتوصّل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة\"، ويقول السبكي: \"إن سبّ الجميع لا شك أنه كفر\"، ويقول ابن حجر الهيثمي: \"ومن نسب جمهور أصحابه - صلى الله عليه وسلم - إلى الفسق والظلم وجعل اجتماعهم على الباطل فقد أزرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وازدراؤه كفر\".
(3) ومن أنواع سبّ الصحابة الذي يناقض الإيمان: أن يسبّ صحابياً تواترت النصوص بفضله، وذلك لما فيه من تكذيب لهذه النصوص المتواترة، وإنكار ومخالفة لحكم المعلوم من الدين بالضرورة. قال الإمام مالك – رحمه الله -: \"من شتم أحداً من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: أبا بكرٍ, أو عمرَ أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال كانوا على ضلال وكُفر قُتِل\". وسُئل الإمام أحمد عمّن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة فقال: \"ما أُراه على الإسلام\"، وسئل عمن يشتم عثمان فقال - رحمه الله -: \"هذه زندقة\".
ثم هناك صور من بغضهم وأذاهم - رضوان الله تعالى عليهم - ليست كفراً ولكنها تدور بصاحبها حوله توشك أن توقعه فيه، قال السبكي: \"وأجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة أنهم فُساق\" [24].
والعجب كل العجب أنك إذا نظرت في حال بعض من يشار إليهم بالبنان، ويقال هم مفكرون، ومثقفون، بل ربما كانوا قائمين على بعض منابر الثقافة والفكر – أو ما ينبغي أن تكون منابر ثقافة وفكر -، تراهم – على أحسن الأحوال - فساقاً يقعون في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أدري من أي الفريقين ينضب العجبº أمن هؤلاء النكرات الأوعال الناطحي الجبال الأعلام! أم مِمّن خويت عقولهم عن العلم ففقدوا التمييز فصارت ألسنتهم تقذف الألقاب وتشبه بالبلبل الغراب!
إذا عَيَّــرَ الطــائي بالبخــــلِ مـــــادرٌ! وعَيَّـــــرَ قـُسَـــَاً بالفَهَـاهَـــةِ باقـــــلُ!
وقال السُهى للشمسِ أنت ضئيلة!ٌ و قــال الدٌّجَى للفجـرِ لونـك حـــائلُ!
وطـاولـت الأرضُ السمـــاءَ سفاهـةً! وفـاخرت الشهبَ الحصى والجنـادلُ!
فيـــــــا مــوتُ زُر إنَّ الحيـــاةَ مـريـرةٌ و يــا نفـسُ جُــدي إنَّ دهـرك هـَــازِلُ
وكلمة أخيرة إلى الوالغين في تلكم الأعراض أن يغسلوها سبعاً كلهن بالتوبة النصوح، إشفاقاً على أنفسهم وتداركاً لها قبل الممات.
الهوامش:
[1] ابن القيم – إعلام الموقعين 1/10.
[2] الطحاوي – شرح الطحاوية بتحقيق التركي 2/689.
[3] التوبة: 100.
[4] إعلام الموقعين 1/5.
[5] شرح علوم الحديث لابن كثير 2/491 بتحقيق الحلبي.
[6] هذا ما علقه الحلبي في حاشيته على شرح علوم الحديث، ولكن الذي يبدو لي -والعلم عند الله- من كلام شيخ الإسلام في الفتاوى 4/462-465، أنه يرى ما سيأتي ترجيحه من قول ابن حجر من كون اللقيا كافية لثبوت الصحبة، ولكن أقل اللقيا هي الرؤية في حق من يرى.
[7] ابن تيمية – الفتاوى – 20/298.
[8] الباعث الحثيث، 2/497 عن المحشي.
[9] الباعث الحثيث – بتحقيق الحلبي 2/497.
[10] الفتاوى 2/478 ولا يعني هذا أن سيرة معاوية رضي الله عنه أعدل من سيرة عمر بن عبد العزيز بل العكس لكن ما حصل لمعاوية بالصحبة أمر لا يساويه ما حصل لعمر بن عبدالعزيز –رحمه الله- بعلمه، أنظر الفتاوى 4/527.
[11] شرح العقيدة الطحاوية 2/689.
[12] التوبة : 100.
[13] الأنفال: 72.
[14] البخاري (3673)، مسلم (2541).
[15] شرح الطحاوية 2/691-692.
[16] الحديد:10.
[17] الفتاوى 4/461.
[18] شرح العقيدة الطحاوية 2/691-692.
[19] رواه الإمام أحمد، فضائل الصحابة رقم (20).
[20] رواه الإمام أحمد 4/87، والترمذي (3862) وحسنه.
[21] الفتاوى 4/431، بتصرف.
[22] البداية والنهاية 7/249.
[23] الأحزاب: 58.
[24] نواقض الإيمان القولية والعملية، د. عبد العزيز العبد الطيف، ص 409-417، باختصار وتصرف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد