قد تقرأ كثيرا من نوابغ الحرب ، وقد تعجب كثيرا بما يظهرونه من الشجاعة والصبر ، ولكنك لم تسمع بعد إلا في فترات قليلة بالطبع أن جنديا جمع إلى نبوغه في ميدان القتال نبوغا في ميدان الأخلاق ، وبحسبك أن تعلم أن صلاح الدين كان هو الرجل الذي بنى حياته الحربية كلها على الوفاء ، وأنه كان أبعد الناس عن الطرق التي توصف بالغمــوض والالتواء .
وقد تقرأ كثيرا عن مشهوري الملوك ، وتعجب أحيانا بما يظهرونه من التواضع والنبل وكرم السلوك أن ملكا مهما بلغت سماحته ، وحكم عليه تواضعه أن أخضع نفسه للقانون ، وسوى في ذلك بينه وبين خصمه ، وإن كان خصمه من أصغر أبناء الشعب .
الحق لقد كان السلطان الناصر صلاح الدين ملكا تجتمع فيه كل هذه الخصال ، بل رجلا يمكن أن تكون سيرته مثلا عاليا لكل واحدة من هذه الخصال ، فلا تزنه فقط بواحد من عظماء التاريخ ، وإنما زنه بثلاثة أو أربعة منهم ، يختص كل عظيم منهم بناحية من نواحي العظمة لا يشركه فيها أحد سواه .
ومن أمثلة تواضعه ما ذكره ابن شداد بقوله : - قيل إن رجلا من خدم السلطان رمى رجلا آخر مثله بحذاء كان في يده ، فاجتاز الحذاء الخادم إلى السلطان نفسه في خيمته . فما كان من السلطان إلا أن أدار وجهه ، وانتحى به ناحية أخرى كي لا يحرجهما. إلى أن ابتعدا عنه حياء وخجلا منه !
هذا في زمن السلم : أما في أوقات الحرب فبحسبنا أن نعلم أن هذا السلطان كان ينقل الحجارة بيده ، ويحمل التراب على كتفه ، لا فرق في ذلك بينه وبين سائر الجند ، ولقد أورد الكتاب والأدباء أمثلة كثيرة على رأفته ورحمته على الفقراء والنساء والأطفال والعجزة في يوم حطين ما يكفي للدلالة على نبله إلى الحد الذي لايبلغه أحد سواه .
وقد ينسى له أعداؤه كل شيء ، ولكنهم لا يستطيعون أن ينسوا له كرمه ومروءته ، واتساع إنسانيته ، وذلك حين سمع بمرض عدوه اللدود ريتشارد قلب الأسد ، فأبت رحمته وشفقته إلا أن يبعث إليه بطبيبه الخاص . ومعه كل ما يستطيع أن يحمله من الدواء والعقاقير .
على أن الحياة نفسها لم تكن في نظر الرجل عدوا يؤسر ، وبلادا تقهر ، وحصونا تنهار، وحروبا تثار ، وإنما الحياة الصحيحة عنده هي كذلك علم ينشر ، وأدب يزهر ، وعقيدة تظهر وتتطهر ، ومن هنا جاء فضله على الحضارة الإسلامية والعقل الإسلامي في العصور الوسطى .
لقد كان متمسكا بالسنة إلى أبعد حد ، فكان يكره الفاطميين ، ويبغض الفلاسفة من قلبه فقد قتل السهروردي حتى لا ينفذ سمه إلى العقيدة ، ويشكك في عقيدة أهل السنة .
أما ميوله الأدبية فقد ظهرت في حبه الشعر ، وتشجيعه للشعراء ، واستحسانه لما يسمع منه ، وتأثره وانفعاله بهذا الذي يسمع . بل قيل إن ديوان الحماسة لأبي تمام كان من حفظه ، وكان كثيرا ما ينشد بعض قصائده .
ومن الأبيات التي كانت تعجبه ، قول الشاعر في خضاب الشيب :
وما خضب الناس البياض لقبحه
فأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنه مات الشباب فسودت
على الرسم من حزن عليه منازله
وكان إذا قال : ولكنه مات الشباب : أمسك كريمته بيده، ونظر إليها وهو يقول : أي والله مات الشباب !!
وبتلك الأخلاق التي اشتهر بها الملك الناصر صلاح الدين، وبهذه السيرة التي عرفها المسلمون والصليبيون ، أصبحت شخصية جذابة استطاعت أن تؤثر في الخلقين الشرقي والأوربي . فأما الخلق الشرقي فقد شاع فيه الميل إلى التضحية وإنكار الذات ، وساده نوع من الزهد واستصغار شأن الدنيا . وأما الخلق الأوربي فقد تلخص عندهم في -نظام الفروسية - . وهو نظام أخذه الأوربيون باعترافهم عن المسلمين في أثناء الحروب الصليبية.
وفي وفاة هذا السلطان العظيم يقول ابن شداد : -غاب ذهن السلطان في تلك الليلة وإلى جانبه الشيخ أبو جعفر يتلو القرآن ، فلما انتهى إلى قوله تعالى - هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة- سمعه يقول : صحيح. صحيح . ثم لما أتى قوله تعالى : -لا إله إلا هو عليه توكلت- تهلل وجهه بالبشر وسلم روحه إلى بارئها ! وتجهز الناس لدفن السلطان ، فدفنوه بقلعة دمشق ، ووقفوا يبكونه بكاء مرّا .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد