سبتة ومليلية تجددان المواجهة بين المغرب وإسبانيا


 
 
 
عادت العلاقات المغربية - الإسبانية لتشهد أسوأ فصولها على الإطلاق في هذا الأسبوع بمناسبة زيارة الملك الإسباني خوان كارلوس وعقيلته لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين منذ ما قبل خمسة قرون، ما أثار استياء مغربياً واسعاً، وأعاد إلى الأذهان أزمة جزيرة المعدنوس في صيف عام 2002م، عندما أقدمت الحكومة اليمينية آنذاك برئاسة خوصي ماريا أثنار على احتلال تلك الجزيرة الصغيرة في شمال المغرب، مما كاد يضع البلدين في مواجهة عسكرية لولا التدخل الأمريكي آنذاك، وتدخل وزير الخارجية الأمريكي وقتها كولن باول.

فقد سارعت الحكومة المغربية إلى التنديد بالزيارة فور الإعلان عنها قبل ثلاثة أيام من موعدها، وعقدت غرفتا البرلمان المغربي يوم الإثنين - اليوم الأول في الزيارة التي دامت يومين - جلسة عامة طارئة مشتركة بين المجلسين للاحتجاج على الزيارة، وسلم أعضاء الغرفتين رسالة احتجاج إلى السفير الإسباني بالرباط، ونظمت أمام القنصليات الإسبانية والسفارة وعلى الحدود مع مليلية وسبتة وقفات احتجاجية للأحزاب السياسية، وهيئات المجتمع المدني المغربي، وبدا أن هناك مناخاً واسعاً من التعبئة الداخلية ضد تلك الزيارة التي استفزت مشاعر المغاربة، وفتحت أعينهم على وجود جيوب لا تزال محتلة في غالب الأحيان يتم تناسيها بسبب مضي الزمن.

لقد حركت الزيارة ملفاً كان شبه مسكوت عنه في شبه اتفاق غير مكتوب بين البلدين منذ عقود عدة، وذلك بسبب رغبة المغرب في عدم تحريكه في الوقت الذي يعمل على حل معضلة الصحراء الغربية التي دامت أكثر من ثلاثة عقود، أي منذ خروجها من الاحتلال الإسباني عام 1975م، وقتها وقع البلدان وموريتانيا اتفاقية مدريد الثلاثية عام 1956م التي قضت بتقاسم المناطق الصحراوية بين المغرب وموريتانيا، وانسحاب إسبانيا من النزاع، وكان المقابل الذي دفعه المغرب مقابل تلك الاتفاقية هو توقيع اتفاقية سرية مع مدريد تنص على عدم طرحه لقضية سبتة ومليلية قبل مضي عشر سنوات، وعندما بدأت إسبانيا تطالب باستعادة صخرة جبل طارق من بريطانيا في بداية الثمانينات من القرن الماضي أعلن المغرب بأن حل الخلاف بين مدريد ولندن سيقود منطقياً إلى حل الخلاف الحاصل حول المدينتين بين الرباط ومدريد، وصرح الحسن الثاني عام1981م قائلاً: بأن\"إسبانيا حينما تطالب بجبل طارق فإنها تعمل أيضاً لصالحنا\".

غير أن إيبانيا ولكي تغلق الباب أمام أي احتمال بمطالبة المغرب بالسيادة على المدينتين أقدمت عام 1985م - قبيل انتهاء المدة المتضمنة في الاتفاق السري المشار إليه - على منح المدينتين المحتلتين الحكم الذاتي إسوة بالمناطق المستقلة الأخرى داخل التراب الإسباني، وترافق ذلك مع إقدام الحكومة الإسبانية في السنة نفسها على طرد مئات المغاربة من المدينتين، ومنعهم من العودة إليها، الأمر الذي فجر الوضع بالداخل، وأدى إلى مواجهات بين المغاربة المقيمين بهما وبين قوات الأمن الإسبانية خلفت سقوط قتلى وجرحى، وفي عام 1987م اقترح الملك الراحل الحسن الثاني على إسبانيا تشكيل \"خلية تفكير\" مشتركة بين البلدين للتفكير في مستقبل الثغرين المحتلين، وإيجاد صيغة متوافق عليها لإعادتهما إلى المغرب، وهو الاقتراح الذي لم تتم الاستجابة له حتى اليوم.

وبالرغم من كون إسبانيا تتعامل مع المدينتين باعتبارهما إسبانيتينº إلا أن الملك الحالي خوان كارلوس لم يقم بأي زيارة لهما منذ توليه الحكم عام 1975م بعد وفاة الجنرال فرانكو، واستتباب الديمقراطية في إسبانيا، حتى في الظروف السياسية الصعبة التي كانت تستدعي ذلك، فيما يبدو أنه نوع من المراعاة للجانب المغربي، ورغبة في الابتعاد عن الحرائق، وطيلة القرن الماضي لم يزر المدينتين سوى الملك ألفونسو الثالث عشر الذي زارها عام 1927م في ظل الاحتلال الإسباني للشمال المغربي والفرنسي للوسط والجنوبº وذلك إثر هزيمة معركة أنوال الشهيرة في نفس السنة التي قادها البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي.

وحتى رؤساء الحكومات الإسبانية ظلوا ملتزمين بهذا العرف الديبلوماسي غير المكتوب بين البلدين حفاظاً على العلاقات البينية، والمصالح المتبادلة بما في ذلك خلال فترة الغليان بين 1996م و2004م التي قاد السلطة فيها الحزب الشعبي اليميني المتشدد حيال المغرب، والذي وقعت في عهده أزمة جزيرة المعدنوس، ورغم أن رئيس الحكومة آنذاك ماريا أثنار زار المدينتين عام 2004م إلا أنه فعل ذلك بوصفه رئيساً للحزب وليس كرئيس للحكومة، في ظروف الحملة الانتخابية لحزبه.

ومنذ وصول الحزب الاشتراكي العمالي إلى السلطة في مدريد في مارس 2004م تغير وجه العلاقات الإسبانية - المغربية، وبات من الممكن التعويل على طي صفحة الماضي، وبدء علاقات أكثر إيجابية وتفاعلاً، فقد زار رئيس الحكومة خوصي لويس رودريغيث زباثيرو المغرب بعد أسبوع من انتخابه رئيساً، كما زاره ثلاث مرات في مناسبات أخرى بعد ذلك، وحصل تقدم ملحوظ في علاقات التعاون بين البلدين خصوصاً في قضايا الصيد البحري والهجرة، والتنسيق في محاربة الإرهاب الدولي، والجريمة المنظمة، وتحفيز الاستثمارات الإسبانية في المغرب، غير أن أبرز تطور شهدته علاقات البلدين هو المتعلق بنزاع الصحراء، إذ أيدت مدريد - في سابقة هي الأولى من نوعها - مشروع المغرب لمنح الصحراء الحكم الذاتي، إلى جانب باريس وواشنطن، وهو تحول نوعي كبير في الديبلوماسية الإسبانية اتجاه المغرب جعلت المعارضة تنتقد الحزب الاشتراكي، وتعتبر تلك الخطوة تنازلاً كبيراً غير مبرر للجار المغرب، وتخلياً عن تقليد سياسي راسخ سارت عليه جميع الحكومات، ويقضي بالتأييد غير المشروط لجبهة البوليساريو، ولخيار استقلال الصحراء.

لكن الظاهر أن مدريد تفهم الديبلوماسية على غير الطريقة التي يفهمها بها المغرب، لقد أرادت أن تحصل أيضاً على المقابل لقاء تلك الخطوة التي كانت في صالح المغرب، وهذا المقابل هو السكوت عن الوضع في سبتة ومليلية، وهو ما حصل بالفعل عندما زار رئيس الحكومة زباثيرو المدينتين المحتلتين في شهر فبراير الماضي دون أن يصدر عن المغرب أي موقف تصعيدي كما حصل اليوم مع زيارة ملك إسبانيا، ومن المؤكد أن زيارة رئيس الوزراء الإسباني للمدنتيين المحتلتين كانت من منطلق انتخابي في مواجهة الحزب الشعبي الذي سيتقابل معه في انتخابات شهر مارس 2008م في الانتخابات العامة، وهي رسالة سياسية قصد منها القول بأنه يمكن الحصول من المغرب باللين ما لا يمكن الحصول عليه بالشدة التي ينهجها اليمين، ويبدو أن البرود الذي قابل به المغرب تلك الزيارة هي التي شجعت الحكومة الإسبانية على السماح بزيارة الملك خوان كارلوس للمدينتين، علماً بأن زيارة العاهل الإسباني لا تتم من الناحية الدستورية بعيداً عن الترخيص الذي تمنحه الحكومة، مثلما حصل في يوليوز من عام 1999م في حفل زفاف الملك محمد السادس الذي تغيب عنه الملك الإسباني بسبب رفض حكومة اليمين آنذاك السماح له بالسفر إلى المغرب.

لكن زيارة زباثيرو لسبتة ومليلية في فبراير الماضي ليست بحجم زيارة الملك خوان كارلوس لهما اليوم، وهذا أحد أسباب الغضب المغربي، إن زيارة زباثيرو مهما كانت تظل ذات طابع سياسي صرف، أما زيارة العاهل الإسباني فهي ذات طابع سيادي يرمز إلى السيادة الإسبانية على المدينتين، وهذا ما أوضحته جميع الصحف الإسبانية خاصة تلك الصادرة في مليلية وسبتة، والتي قالت: إن الزيارة ترمز إلى \"وحدة\" التراب الإسباني، وشمول الشرعية الملكية للمدينتين كما لسائر المناطق المستقلة داخل إسبانيا.

ويرى العديد من المراقبين أن ما حصل ربما لن يسيء كثيراً إلى العلاقات الديبلوماسية القائمة بين البلدين، غير أنه يمكن أن يعيد ملف احتلال سبتة ومليلية إلى الواجهة في حال ما إذا عرف المغرب كيف يستغل هذه الفرصة لطرح الموضوع على الأمم المتحدة، لكن الواضح أن الرباط غير راغبة في مزيد من التصعيد مع إسبانيا، خصوصاً وأنها - كما سبقت الإشارة - تواجه تحدياً معقولاً في قضية الصحراء الغربية التي تحظى بالأولوية، وهو يدرك بأن إسبانيا التي كانت مفتاح الأزمة في الماضي هي اليوم مفتاح الحل، لذا فإن جميع المؤشرات تشير إلى أن البلدين سيحاولان لملمة الأزمة الراهنة لتعود الأجواء إلى طبيعتها، لكن بعد أن تخرج إسبانيا بدرس قوي من المغاربة وهو أن ملف المدينتين السليبتين سيبقى معلقاً باستمرار، ولن يمكن طيه بالطريقة التي تريدها مدريد، وأن الاستعمار مهما طال أمده يبقى استعماراً لا بد من تصفيته، وأن الحديث عن البناء المتوسطي، وحوار الحضاراتº ينطلق أولاً من نزع فتيل المواجهة الكامنة، والاعتراف بالاحتلال، والجلوس على الطاولة لمناقشة ملف المدينتين مثلما تفعل مع بريطانيا في قضية صخرة جبل طارق.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply