عظيم من عظماء حضارتنا خالد بن الوليد بطولة فذة وقيادة ملهمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

في تاريخ العرب قمم شوامخ من البطولات بلغها أسلافنا بشجاعتهم الفذة وبسالتهم النادرة وتدبيرهم الحازم الحكيم. وبطلنا خالد بن الوليد أحد هذه القمم الشوامخ، بل هو أضخمها وأعلاها، لما آتاه الله من شجاعة، ونشاط، وجلد، ويقظة، وحضور بديهة، وسرعة ملاحظة، وقوة تأثير.

ولست أبغي في هذه السطور أن أكتب سيرة كاملة لهذا البطل الكبير، وإنما غرضي أن أكشف بإيجاز عن بعض الجوانب في هذه البطولة العظيمة، وأعرض طرفاً من السمات في هذه القيادة المظفرة الحكيمة التي عرف بها خالد، وتبوأ بها مكان الصدارة في تاريخنا العسكري وبطولاتنا الخالدة.

عرف خالد البطولة وعرفته منذ صباه، فلقد نشأ في أعرق بيوتات بني مخزوم. وبنو مخزوم من أكبر بطون قريش. كان لهم في الجاهلية أمر القبة والأعنة. أما القبة فهي خيمة عظيمة يضربونها ليجمعوا فيها عدة القتال. وأما الأعنّة فهي الخيل وفرسانها.

وكان طبيعياً أن تبدو ملامح الفروسية على الشاب الناشئ في هذه البيئة المكافحة المجاهدة فيرشحه أبوه لقيادة الخيل، لنراه على قيادة فرسان قريش في وقعة أحد.

ولا ريب أن ولاية خالد في هذه السن المبكرة- القيادة الموكولة إلى قبيلته بين بطون قريش جميعاً هي آية استعداده للرئاسة والقيادة منذ صباه.

ولا غرو، فقد غشي خالد البادية وإنه لشاب يافع، وراضَ نفسه على الخشونة فيها ليتعود الصبر على مضانك الحرب وشدائد الجوع والظمأ، ووعورة الطرق ولفحات الرمضاء. فكان له من ذلك كله قوة وضخامة في الجسم، ودراية وخبرة بفنون الصراع والكفاح.

ومن هنا استطاع أن يقلب هزيمة قومه في أحد إلى نصر. فلقد تجلى في ذلك اليوم ما يتمتع به خالد من يقظة وثبات، فلم تذهله الهزيمة المطبقة بقومه، بل اهتبل الغرة التي بدرت من الرماة المسلمين حين خالفوا وصية النبي - عليه السلام - وتركوا أماكنهم سعياً وراء الغنيمة، فكرّ عليهم من الوراء بما بقي معه من خيل، فأخذهم أخذة قاضية وإنهم لفي سدرتهم يغنمون، فشتت منهم الصفوف، وزلزل بهم الأقدام، فاستدارت رحاهم وهزموا دهشين مروعين.

واشترك خالد في جاهليته في وقعة أخرى هي وقعة الأحزاب أو الخندق، فكانت هي أيضاً من أهول الغزوات على المسلمين، وأوشكت أن تحيق بهم دوائرها لولا يقظة علي بن أبي طالب ووقيعة بعض الدهاة بين أحزاب قريش وهبوب الريح التي عصفت ببيوتهم وقدورهم وزادتهم يأساً من اقتحام الخندق على المسلمين.

في هذه الوقعة طوف خالد بخيله حول الخندق يلتمس مضيقاً يقحم من الخيل فأعياه وكان هو الموكل بالنبي - عليه السلام - في كتيبة غليظة من خيل قريش والأحزاب، فاندفع يقاتل سحابة النهار وهزيعاً من الليل إلى أن تحاجز الفريقان وعادا إلى مواقعهما، فارتد خالد بعد هنيهة يطلب الغرة وإنه بالفوز لطامع، وكاد أن يظفر لولا يقظة حرس المسلمين.

وانقطع القتال وهو لا يزال على الطلب والطواف، وكان آخر من ترك الحومة بعد يأس الأحزاب من عبور الخندق ودخول المدينة، فلبث هو وعمرو بن العاص ردءاً للجيش كله مخافة أن يتعقبه المسلمون.

وظل خالد على لدده للإسلام ومعاندة نبيه سنوات. كانت خصومته فيها للإسلام ونبيه خصومة شريفة نبيلة، هي أقرب إلى المبارزة والمناجزة منها إلى المقت والضغينة، فهي تأبى عليه أن يغدر بالنبي يوم الحديبية وهو يصلي بأصحابه صلاة الخوف، وإنه لقادر على الإغارة عليه لولا نخوة من الفروسية أبت عليه العدوان على المسالمين. ولما صالح النبي [- صلى الله عليه وسلم -] قريشاً ودخل وأصحابُه مكة معتمرين، كره خالد أن يشهد دخول المسلمين دون أن يخلى بينه وبين حربهم، فتغيب من جوار البيت ريثما يعتمر المسلمون ويرجعون من حيث أتوا.

ولكن الدعوة الإسلامية التي وقف في وجهها فترة من زمان سرعان ما ملكت عليه شعوره، ولامست كوامن الإيمان في نفسه، فإذا هو يمشي إلى النبي - عليه السلام -، يعلن إسلامه، وإذا به اليوم يرمي مع المسلمين عن قوس واحدة مَن كانوا أنصاره بالأمس.

وتنظر عينُ الرسول الخبيرة بالنفوس والطاقات النفاذة، إلى أغوار الطبائع والمواهب، تنظر إلى خالد فترى فيه العبقرية العسكرية النادرة، والقيادة الحكيمة الملهمة، والشجاعة العنيدة الحسور، فيلقبه بسيف الله قبل أن يشرع هذا السيف ليدحر المرتدين، وقبل أن يصون للإسلام جزيرة العرب ويضم إليها العراق والشام...وهي الأعمال الجسام التي من أجلها يدعى اليوم سيف الإسلام.

وإنما هي النظرة النافذة، والبصر العلوي الخبير السابر، الذي يلمح القدرة في معدنها حيث لا يراها الآخرون.

وتبدأ أعمال خالد التي اشترك فيها متطوعاً بعد إسلامه بشهرين أو ثلاثة أشهر بغزوة مؤتة التي التقى فيها المسلمون وعددهم ثلاثة آلاف بطل يصاولون في ميدان مكشوف فيالق الروم التي تربو عليهم سبعين ضعفاً.

في هذه الغزوة قاتل زيد بن حارثة رافعاً راية رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] حتى شاط في رماح القوم. وتلقف الراية جعفر بن أبي طالب، وأقبل على الروم يجالدهم بعنف وصبر شديدين، فأنحوا عليه بالضرب الدراك حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فقطعت، فاحتضن الراية بعضديه ولبث ينافح عنها حتى قتل.

وتقدم ابن رواحة إلى حمل الراية في الساحة المضطرمة وهو يهدر بالشعر، وطفق يصول بين الصفوف حتى قتل، وإن المعركة لفي أشدها.

في هذه اللحظة الرهيبة المزلزلة، تطلعت العيون إلى قيادة جديدة تنقذ الموقف وتحفظ للمسلمين هيبتهم وتنقذ سمعتهم في أول معركة لهم مع الدولة الرومانية الكبرى.

وما هي إلا لحظة حتى اهتدى المسلمون بوحي البديهة ونور العقيدة وهداية الفداء إلى القائد الفذ، وإذا بثابت بن أقرم يأخذ الراية ويصيح: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت، قال: لا، ما أنا بفاعل. واتفقت الكلمة على خالد بن الوليد، فإذا هو يصنع لساعته خير ما يصنع في ذلك الحين، وهو الارتداد المأمون.

والارتداد المأمون أصعب من النصر في هذا المأزق الرهيب، خصوصاً وخالد لا يريد إشعار الروم بالانسحاب. بل كان يريد أن يوقع في روع عدوه أنه ينوي الهجوم أو يقصد إلى الحيلة.

صمد خالد في الميدان حتى المساء صمود الجبال الراسيات، وأبلى في هذا اليوم بلاء لم يبله قط في غزواته الكبرى على كثرتها، حتى إنه ليروى عنه أنه قال: اندقّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، ما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.

حتى إذا دخل الليل، وتوقف الطرفان عن القتال، أعاد تنظيم قواته القليلة، فنقل الميمنة إلى الميسرة، ونقل الميسرة إلى الميمنة، وجعل الساقة في موضع المقدمة، والمقدمة في موضع الساقة، ورصد من خلف الجيش طائفة يثيرون الغبار، ويكثرون الجلبة عند طلوع الصباح.

فلما طلع الصباح توهم الروم أن مدداً جديداً أقبل على جيش المسلمين، وكانوا قد ذاقوا منهم أمرّ المذاق بغير مدد وهم مفاجأون، فلما ذهب خالد يدافع القوم ويناوشهم ملحقاً بهم أفدح الخسائر دون أن يعرض قواته لالتحام عام لم يتبعوه حذراً من الكمين أن يحيط بهم من ورائهم فيضربهم ضربة لا تنفع معها عدة ولا عدد.

قفل خالد راجعاً بجيشه إلى المدينة بسلام، ليتلقى تكريم النبي له بإضفاء أكبر لقب في الإسلام عليه. إنه منذ اليوم يسمى \"سيف الله\" لأنه بتراجعه هذا قد حقق نصراً لا يقل عن تقدمه وانتصاره. ولو أن خالداً ملكته فطرة المجازفة ولم تملكه فطرة القيادة البصيرة لساءت العقبى أيما سوء، وتعرضت الدعوة الإسلامية لمحنة لا يعرف مداها إلا الله. وأي محنة أقسى وأشد من أن يتورط الجيش في زحف غير مأمون، فإذا به يمزّق شر ممزق، ويضيع فلا يعود منه أحد؟ إنها محنة لو وقعت لضاعت هيبة المسلمين من نفوس العرب المتربصين في البادية، ولاستخفّ الروم والفرس ومن شايعهم من القبائل العربية بقوتهم ولانقضّت هذه القوى جميعاً على المسلمين ولما تقوى شوكتهم بعد.

ولكن الجيش قد عاد، وأبلى في أعدائه البلاء الحسن، وتسامعت الجزيرة بعدد الجحافل الهرقلية التي حسبتها مرصدة له ولم تقدر على تمزيقه، وامتلأت نفوس المسلمين ثقة ببأسهم وبقدرتهم على جهاد أعظم وثبات أطول في مستقبل الأيام.

ومنذ ذلك اليوم أصبح خالد موضع ثقة النبي - عليه السلام -، يندبه في كثير من المهام، صغيرها وكبيرها. وكان خالد في مهامه كلها البطل الذي لا يهزم، والسيف الذي لا يفلّ.

وتدور الأيام ويلاقي الرسول - عليه السلام - وجه ربه وتتمرّد القبائل وتمتنع عن دفع الزكاة، ويهب الخليفة الأول لقمع المرتدين وكسر شوكتهم، فلا يرى كفءاً لهذه المهمة الخطيرة غير خالد.

ويسير خالد إلى قمع المرتدين، فيقوم وحده بأوفر سهم في هذه الحروب، ويقمع أخطر الفتن التي تهددت الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وقد أبدى في قمع هذه الفتن التي تهددت الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وقد أبدى في قمع هذه الفتن من ضروب الشجاعة العنيدة والقيادة البصيرة النيرة، الخبيرة بإدارة المعارك واستثارة النفوس ما يجل عن الوصف والبيان. فكم من مرة أوشك أعداؤه على النصر لولا عزمة من عزمات القيادة الخالدية الجرئية الحكيمة التي تأتي في إبانها، وتدور برحى الحرب من طرف إلى طرف، وتحول الهزيمة إلى نصر في ساعات معدودات.

ولقد أرسل غير مرة فرسه، وترجّل مقاتلاً على قدميه، وهو يهتف بالمجاهدين يستثير كوامن الإيمان والحمية في نفوسهم، فإذا هم يتأججون حماسة ويندفعون كالسيل الهادر لا تخطر لهم الهزيمة على بال، لأنهم صمموا على النصر أو الاستشهاد.

وكان يميز المهاجرين من الأنصار، ويميز الأعراب، كل بني أب على راية، ويصيح بهم: أيها الناس تمايَزوا حتى نعرف من أين نُؤتى، ثم يحمل على القوم في مقدمة المجاهدين.

وكان لهذه الشجاعة الفريدة، ولهذه العبقرية النادرة في استثارة النفوس وإذكاء حماستها أثرها فيمن معه من صناديد الصحابة. فقد تجاوبت الساحة بأصوات الأبطال، يوصي بعضهم بعضاً ويتنادون: يا أنصار الله، النصر أو الشهادة، فكنت لا ترى إلا شهيداً ثبت في موضعه حتى قتل، أو زاحفاً إلى الإمام يبغي إحدى الحسنيين.

وكان طبيعياً أن تتصدع صفوف المرتدين تحت مطارق الإيمان الحي، وأن ينكشفوا منكسرين منهزمين، وإن خيل خالد لتتعقب فلولهم فتصيب منهم ما شاء الله لها أن تصيب.

تم لخالد التوفيق في قمع المرتدين، وهذا نصيب خالد من وقاية الإسلام في أرضه، فإذا بشهرته تطير في الآفاق، ويسبق اسمه المهيب إلى أطراف الدولتين المتربصتين بالعرب ودعوتهم الجديدة، ليخط في سجل القدر نصيبه في دفع الخطر الخارجي عن الإسلام، وإن لأوفى النصيبين.

اتفقت كلمة الصحابة على حرب فارس والروم، وسيف الله بوداي الوبر في اليمامة لم يطل استقراره في غمده بعد. وكأنما قدر لهذا السيف ألا يغمد في تلك الفترة الخطيرة في حياة العرب. فهاهو ذا الخليفة الصديق يندب خالداً لضرب فارس، ويمده ببطل من أعظم أبطال المسلمين هو القعقاع بن عمرو أرسله أبو بكر إلى خالد وهو يقول للصحابة: لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع.

وتولى البطلان العظيمان مصاولة الفرس، فأتمّا في سنة واحدة ما أعيى الرومان أن يتموه في أجيال.

لقي خالد الفرس في خمس عشرة وقعة لم يهزم ولم يخطئ ولم يفشل قط في واحدة منها. فما كان لخالد أن يخطئ عن خدعة أو عجلة أو قلة أهبة، ودستوره في القتال أن يسير بجيشه دائماً على تعبئة كاملة لينقض على عدوه حيث لقيه. كان أبداً كما وصفه عمرو بن العاص: في أناة القطاة ووثبة الأسد.

لقد حباه الله شجاعة ويقظة وخبرة وسرعة ومعرفة بما هو لازم في وقت لزومه، ولم تخذله خصلة من هذه الخصال قط في ساحات فارس ولا في ساحات الشام، مع اختلاف الميادين، واختلاف الأحوال، واختلاف الأعداء.

وترامت الأنباء يوماً بعد يوم إلى المدينة بأخبار النصر وغنائم القتال، فما يكاد يفرغ الناس من الابتهاج بنصر حتى يوافيهم البريد بنصر جديد.

وسبقت الضربات الخالدية كل آمال الآملين في سرعة الظفر بدولة الأكاسرة. فقال أبو بكر وهو يبلغ الناس أنباء الظفر ليزفوا بشراها إلى الجزيرة العربية: يا معشر قريش! عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله... أعقمت النساء أن يلدن مثل خالد؟

لقد دوّخ خالد الفرسَ، وخضد شوكتهم، فليكمل إذن ما أناط به القدر من مهام، وليتم دوره التاريخي المرسوم. ها هو ذا الخليفة الصديق يندبه لحرب الروم وهو يقول: لأنسينّ الرومَ وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.

ويسير خالد إلى الشام ليدير رحى معركة اليرموك، المعركة الخطيرة الفاصلة في حياة العرب والرومان على السواء.

واستعد الفريقان غاية ما في الوسع من استعداد. ووحد خالد القيادة، وعبأ قواده وجنوده تعبئة ملائمة للتعبئة الرومانية. ثم عمد إلى القوة المعنوية يوليها حقها من عنايته الكبرى، فأخرج المقداد يقرأ على الجيش آيات من كتاب الله، ودعا كل رئيس أن يخطب جهده ويبصرهم بمرماه في حركاته.

ثم اشتبك الجيشان، وانكشف في الهجمة الأولى قلة المسلمين أمام كثرة الروم، ثم ثاب المسلمون إلى عزماتهم بنخوة الإيمان، ونخوة العزة، وحب الاستشهاد، فصمدوا صمود الجبابرة غير حافلين بما مسهم من قرح، وما أحاط بهم من نصب ولغوب.

وأفلحت الكرة الثانية، وتقهقر الروم، وعلت أصوات المسلمين مكبرة هازجة بالنصر المبين.

في معركة اليرموك بلغ خالد قمته العليا التي لا مرتقى بعدها لراق، لقد قمع فتنة الردة، وضرب دولة الأكاسرة ضربته الدامغة، ووحد قيادة المسلمين في حرب الرومان، فصدهم إلى ما وراء حدودهم مدحورين.

في هذه الفترة التي ارتقى فيها خالد إلى الأوج، جاءه الأمر بعزله عن القيادة من الخليفة الجديد عمر بن الخطاب، وتولية أبي عبيدة بن الجراح مكانه، لأنه كان يعتقد أن أبا عبيدة بعد معركة اليرموك- أحق بالموقف الجديد من خالد، لأنه موقف التسليم والمسالمة، واستلال الحقود وضمد الجراح وتقريب القلوب، وفي جميع أولئك يتسع المجال لهوادة أبي عبيدة ويضيق بضربات خالد، ولأن عمر أخذ عليه إسرافه في بعض الأعطيات. فكيف تلقى خالد هذا النبأ؟

تلقاه بروح الجندي المؤمن بالواجب، والواجب يحتم عليه السمع والطاعة لقائده فيما أحب أو كره. لم تثر في نفسه ثائرة، ولم تحدثه نفسه بهجسة من عصيان وهو القائد المظفر، الذي طبقت شهرته الأفاق، وملك على الجنود قلوبهم، فهم يحبونه حباً عظيماً ولا يعصون له أمراً. وإنما وقف في علياء عظمته، وعلى ربوة إيمانه وانتصاراته، يلقي في سمع الإنسانية أبلغ درس في الإخلاص للواجب، ونكران الذات، وإيثار المصلحة العامة قائلاً لأبي عبيدة وهو ينفذ فيه أمر الخليفة بمقاسمته ما له: أجل ما أنا بالذي يعصي أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك.

لكأن القدر أراد له هذه النهاية، ليرقى به إلى أفق عال وضيء، فضلاً عما وصل إليه من مكانة سامقة ومقام كريم.

لقد أضاف خالد إلى قممه الشامخات في ميادين البطولة والقيادة قمة أخرى من نوع آخر، تلك هي قمة الاستعلاء والتسامي الإنساني، والإخلاد إلى الواجب الأليم يوم عزله. فجمع بذلك بين قمم العظيم الظافر الجسور... وقمة العظيم الصابر المطيع.

ولولا عزله لما أبصرنا هذه القمة الجديدة تضاف إلى قممه البواذخ، فتكشف عن جانب أخلاقي جديد في شخصية هذا القائد المظفر، وإنه لجانب كريم يسمو بصاحبه إلى مرتبة الإنسان المثالي العظيم.

لقد كانت حياة خالد البطولية، معجزة الأزمان وعجيبة التاريخ، لم تعوزه صفة من صفات القائد الكبير، المفطور على المجالدة والكفاح. ولم يفته ابتكار فنون الحرب المختلفة، التي يجمعها الخبراء العسكريون في عصورنا هذه، بعد مراجعة الحروب، وتحصيل الدروس، واستخراج القواعد من الخطط والمعلومات.

إنها القريحة الملهمة، والذهن الصافي الوقاد، والعزيمة الجبارة الهصور، التي تسعف صاحبها ليلبي الضرورة ولو كانت عفو الساعة- في ترتيب الكتائب، واستعمال السلاح، وخوض المعارك.

ومن ثم كان خالد نمطاً فريداً بين قواد التاريخ. لم تعرف الدنيا قائداً في الزمن القديم حقق من الانتصارات الضخمة بعدد قليل من المحاربين مثل ما حقق خالد. فمكانه في التاريخ العسكري هو مكان الطليعة بين أكبر القواد الذين اشتهروا بالمناقب الشخصية، أو اشتهروا بالفن، أو اشتهروا بالعبقرية.

كان يعيش بكل كيانه للمجالدة والحرب، كأن خلق من طينة لا تعرف الراحة ولا تألف الاستقرار. قعد سنة بالحيرة بين حروب فارس وحروب الروم ينتظر أمر الخليفة بالمسير إلى الجهاد، فكأن أن برم بهذا القعود واجتواه، وسمى هذه السنة سنة نساء، مع أنه خاض فيها ثماني وقائع فيما يليه من البلاد، لم يحسبها وقائع تحصى، وإن له في كل وقعة منها لنصراً يعتز به قائد فخور.

لقد رزقه الله هذه الطبيعة الجندية المكافحة، فإذا بها تحيط بكل ما رزق من طبيعة حية وتظهر عليها. قال في أخريات عمره: ما ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، أو أبشَّر فيها بغلام، أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح بهم العدو، فعليكم بالجهاد...

إن الجهاد الذي يهواه، فقلبه معلق به وحياته كلها وقف عليه. وإن غدوة أو روحة في ميدان جهاد أشهى إلى نفسه من لذائذ الدنيا ومتع الحياة.

لا جرم أن يحزّ في هذه النفس الكبيرة الجلود أن تموت على الفراش، فينطلق لسانها معبراً عن هذا الأسى الذي يغمرها قائلاً: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدّر لي إلا أن أموت على فراشي.. ولقيت الزحوف وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.

لقد ذوى هذا البطل الكبير على فراشه، بعد أن شهد نيفاً وخمسين زحفاً في نجد والحجاز والعراق والشام، ولم يبق في جسمه مصح من كثرة الجراح، ولم يوجد في بيته عند موته غير فرسه وغلامه وسلاحه وقفه للجهاد في سبيل الله.

وترامى نبأ وفاة القائد البطل إلى المدينة، فخيم الحزن على أهلها وفي مقدمتهم عمر. واجتمعت بنات عمر يبكين، فقيل لعمر: أرسل إليهن فانههن، فقال: دعهن يبكين على أبي سليمان... على مثل أبي سليمان تبكي البواكي.

ولما سئل عمر أن يعهد بعد موته بالخلافة، قال: لو أدركتُ أبا عبيدة بن الجراح ثم وليتُه ثم قدمت على ربي فقال لي: لمَ استخلفتَه على أمة محمد؟ لقلتُ: سمعت عبدك وخليلك يقول: لكل أمة أمين وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. ولو أدركتُ خالداً ثم وليتُه ثم قدمتُ على ربي فقال لي لمَ استخلفتَه على أمة محمد؟ لقلت: سمعتُ عبدك وخليلك يقول: لخالد سيف من سيوف الله، سلّه الله على المشركين.

ولعمري إن \"سيف الله\" قد استحق هذه التزكية وهو في الغمد، كما استحقها وهو مشهور.

وبعد، فهذا هو خالد بن الوليد، آتاه الله البطولة الفذة، والقيادة الملهمة، والنفس الزكية السامية، وهيأ على يديه من النصر المبين الخالد في تاريخ العروبة والإسلام ما أولاه شرف التلقيب بسيف الله المسلول، الذي كان له بحق شرف التمكين للإسلام في أرض العرب، ونشر لوائه على عروش الأكاسرة وقلاع الرومان، فكان بذلك الفاتح الأكبر في الإسلام والقائد الفذ في التاريخ.

لكأنه قدر مقدور، أن يسمى هذا البطل العظيم خالداً، لأنه الحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي الخلود.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply