جدي عمر المختار أسد الصحراء


  

بسم الله الرحمن الرحيم

هل تعتقد عندما يلتقي أسد الغابة ورجل من البشر لمن تكون الغلبة؟! ستقول بدون تفكير: سيكون مصير الرجل الموت المحقق.. ولكن اصبر قليلاً، سأحدثك عن قصة التقى فيها جدي عمر المختار مع أسد، وماذا كانت نتيجة ذلك اللقاء..

كان جدي عمر المختار شابًا في بداية الثلاثينيات، حين تقرر سفره مع آخرين إلى السودان في مهمة كلفه بها شيخه، وقد كان عمر هو رأس الوفد، وقد وجدوا قافلة تجارية تتأهب للخروج من الكُفرة البلد التي يعيش فيها في ليبيا - إلى السودان، فقرر الوفد مرافقة القافلة لعلم التجار بطرق الصحراء وخبرتهم بها، وعند وصولهم مع القافلة لمكان في الطريق توقفت، وأشار أحد التجار على أفراد القافلة أن المنفذ الوحيد في هذه المنطقة الوعرة عادة يقف على مشارفه أسد مفترس، وقد استقر عُرف القوافل على أن يشترك أهل القافلة في ثمن بعير هزيل يتركونه للأسد حال خروجه، فرفض عمر المختار الاقتراح بشدة وقال: \'إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أُبطلت، فكيف يصح أن نعيدها لحيوان؟! إنها علامة ذل وهوان، والله لندفعنه بسلاحنا\'.

وأصر على رأيه، وتقدمت القافلة، وخرج الأسد على مطلع الطريق، فتقدم عمر المختار بفرسه وسلاحه إليه، فأصابه في غير مقتل، واستمر في تقدمه إليه رغم خطورة التعرض لأسد مصاب، فقتله في طلقته الثانية، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ويعلقه على مدخل هذا الطريق ليشاهده المارة من القوافل.

وقد منع عمر المختار في أحد المجالس أن تروى هذه القصة قائلاً: {وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.

و لكن قد يتساءل كثيرون: من هو جدك هذا الذي اسمه عمر المختار؟!

إن عمر المختار إنسان ليبي بسيط، تربى في أحضان الإسلام والتدين منذ الطفولةº فهو: عمر بن المختار بن فرحات من عائلة غيث، وقد ولد حسب روايته - في حدود عام 1861م وعام 1862م، وقد كان والده رغم قلة المعلومات عنه - مشهورًا بشجاعته في القتال وإقدامه، بالإضافة إلى مكانته بين قومه، وقد عهد الوالد بولده إلى السيد حسن الغرياني شيخ زاوية جنزور لتربيته وتحفيظه القرآن، وعند وفاة الوالد عام 1878 في رحلة الحج أوصى من حوله بأن يرعى هذا الشيخ أولاده من بعده، وهذه أول بادرة جديرة بالالتفات إلى حياة عمر المختار الذي ذاق مرارة اليتم في صغره، فكان هذا هو أول الخير في قلب البطل، ذلك أنه يتيم منكسر، والقلب المنكسر يشعر بآلام الناس، فإذا صادف مثل هذا القلب الإيمان ودخله حب الله وتغلغل فيه، تحول إلى قلب نوراني رحيم يلجأ إلى الله القوي المتين في كل أمره، ويحنو دائمًا على الضعفاء والمساكين.

قام الشيخ بما عهد إليه خير قيام، فقام بإرسال عمر - وهو ابن 16 عامًا - إلى معهد زاوية الجغبوب مع أولاده ليتعلم في هذا المعهد السنوسي كافة العلوم الشرعية، فتلقى القرآن وعلومه على يد الشيخ الزروالي المغربي.

ودرس على سائر مشايخ المعهد مجموعة من العلوم الشرعية وغيرها، وقد كان نهج التعليم في المعهد أن يقوم الدارس بأداء بعض المهن اليدوية مثل: النجارة والحدادة، وقد تميز عمر المختار في هذه الحرف وفي ركوب الخيل على سائر إخوانه بالمعهد، وتميز أيضًا بشخصيته القيادية واتزان كلامه وجاذبيته، مع تواضعه وبساطته، وقد ساعدت صفاته على توسيع دائرة اتصالاته واكتساب حب وتقدير كل من تعامل معه من خلال المهام الكثيرة التي قام بها.

وقد انقطع عمر المختار عن مواصلة تعليمه حوالي سنة 1886، وذلك بسبب إحساسه بأن وطنه وقومه في حاجة إلى عمله وجهاده.

صقلت الأيام صفات عمر المختار من تواضع وبساطة مع شخصية قيادية متزنة، إن عمر المختار هو أحد الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وثبتوا على الحق الذي آمنوا له.

 

 جاهد - رحمه الله - إعلاءً للحق وأهله وإزراءً للباطل وأتباعه، إن المختار ما كان ينام ليلة حتى الصباح، ما كان ينام إلا ساعتين أو ثلاثًا ثم يقوم فيتوضأ ويبدأ في تلاوة القرآن حتى الصباح، وكان لا يزيد عن سبعٍ, يختم فيهن القرآن.

كلف بأمر الجهاد في واداي، فقارع الاستعمار الفرنسي الذي كان قد بدأ زحفه إلى وسط إفريقيا، فبذل الوسع حتى لفت الأنظار عزمه وحزمه وفراسته، وبقي في واداي يعمل على نشر الإسلام ودعوة الناس وتربيتهم إلى جانب قتال الفرنسيين وحماية بلاد المسلمين.

وكانت المناطق التي يتولى المختار قيادتها وحراستها أمنع من جبهة الأسد، ولا يخفى ما في ذلك من إدراك القيادي المسلم لواجبه تجاه دينه ووطنه.

وفي عام 1906م: رجع إلى الجبل الأخضر ليستأنف عمله في زاوية القصور، ولكن ذلك لم يكن يستمر طويلاً، فقد كانت المعارك قد بدأت بين الحركة السنوسية والبريطانيين في منطقة البردي ومساعد والسلوم على الحدود الليبية المصرية، حتى امتدت يد الفاشست الآثمة إلى التراب الليبي.

وهبّ المختار كعادته ليكون في طليعة من لبى نداء الجهاد، وهبّ ليقود حركة وقفت في مواجهة الغزاة عشرين عامًا، سطّر فيها المختار ومن معه من المجاهدين الأبطال ملاحم أسطورية تحدث عن عظمها وقوتها الأعداء قبل الأصدقاء.

في عام 1923: أُسندت إليه النيابة العامة للحركة السنوسية وقيادة الجهاد في برقة، وعلى الرغم من الشدائد التي عاشتها البلاد قاطبة نتيجة لانتشار الطاعون والأوبئة، وتمكن الإيطاليين من السيطرة على المناطق الغربية من ليبيا، وانقطاع الإمدادات على قلتها والتي كانت تأتي من مصر عن طريق زاوية الجغبوب، وعلى الرغم من أن مناطق المعارك لم تزد مساحتها على بضع عشرات من الأميال، ومن أن المختار جاوز الستين من عمره، على الرغم من هذا كله:

كان على إيطاليا وجنرالاتها أن تخوض حربًا لا هوادة فيها لمدة ثمانية أعوام أخرى، كانت أصعب وأطول سني الحرب كلها، ولقد جردت إيطاليا كل ما لديها.. آلاف الجنود والمدافع والدبابات والطائرات والضباط والقادة الذين تخرجوا من الكليات العسكرية المتقدمة، والتي كانت مصدرًا يفخر به الغرب على المسلمين، لكن الذي لم يدركه الإيطاليون وأدركه المختار: أن المقاييس في مثل هذه الأحوال لا تخضع دائمًا للتقديرات الماديةº فقوة الإيمان وعزائم الرجال وتجرٌّدهم في سبيل الله يرجح الموازين ويخزي الظالمين.

ونستمع إلى كلمات المختار من وراء السنين، تجلو الهمة والعزيمة والإصرار التي يتميز بها عندما دعي إلى التفاوض مع إيطاليا:

\'إنا حاربناكم ثماني عشرة سنة، ولا نزال بعون الله نحاربكم، ولن تنالوا منا بالتهديد\'.

إلى أن يقول: \'لن أبرح الجبل الأخضر مدة حياتي، ولن يستريح الطليان فيه حتى توارى لحيتي في التراب\'.

إن أمة مثل هذه لا سبيل لقهرها إلا بالقضاء عليها، وما أحوج المسلمين اليوم لأن يدركوا مثل هذه العبرة، وأن يتعلموا مثل هذا الدرس.

ولم يبقَ أمام إيطاليا إلا خيار واحد، وهو: أن تقطع عن المجاهدين كل إمكانية للإمداد، فجمعوا كل الليبيين في برقة في معسكرات اعتقال جماعية مع ماشيتهم وأغنامهم، وأحرقوا بعد ذلك الأخضر واليابس، ومدوا الأسلاك الشائكة على طول الحدود الليبية المصرية، لكن ذلك لم يكن ليفت في عضد المجاهدين الذين وطنوا أنفسهم على إحدى الحسنيين، فاستمروا في قتالهم شهورًا عديدة حتى كان يوم الجمعة 28 ربيع الثاني 1351هـ [11سبتمبر 1931م]º إذ فاجأتهم كتيبة من الجيش الإيطالي في جنوب قرية سلنطة، ودارت بين الطرفين معركة سقط فيها أكثر المجاهدين وقتل جواد المختار فوقع به على الأرض جريحًا، وقاتل حتى نفذت ذخيرته، فأسره بعض الجنود، وفي يوم الأربعاء الثاني من جمادى الأولى 1351هـ [16 سبتمبر 1931م]، وفي مدينة سلوق: جيء بالمعتقلين وبجمع غفير من الناس ليشهدوا الإعدام ووضع الجلاد الحبل حول عنقه وصعدت روحه الطيبة إلى ربها.

هذا هو جدي عمر المختار..ألا يحق لي أن أفخر أني أحد أحفاد ذلك الأسد الجسور..أسد الصحراء!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply