العلاقات العربية البيزنطية خلال الحكم العباسي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

مع مجيء العباسيين إلى الحكم، اتخذت العلاقة العربية البيزنطية صفة المواجهة العسكرية، ففي عهد الخليفة المنصور كان الطابع الذي غلب على علاقته بالدولة البيزنطية هو عسكري، فلقد تركزت سياسته الخارجية أولا في الخطر المجاور لبلاده، وهو الخطر البيزنطي، وكان البيزنطيون قد انتهزوا فرصة انشغال العباسيين بمشاكلهم وثوراتهم الداخلية، وأخذوا يغيرون بقيادة الإمبراطور قسطنطين الخامس على ثغور المسلمين الممتدة من أعالي الفرات شرقا إلى البحر الأبيض المتوسط غربا فدمر حصونها وعاث فيها فسادا وتخريبا، لهذا كان أول عمل اهتم به المنصور هو إعادة تحصين تلك الثغور وتنظيم وسائل الدفاع فيها، وكانت هذه الثغور تنقسم إلى منطقتين رئيسيتين:

 

منطقة الثغور الشامية وتقع غرب الثغور الجزرية وقد خصصت للدفاع عن الشام ومن أهم حصونها ملطية والمصيصة ومرعش.

منطقة الثغور الجزرية وهي التي خصصت للدفاع عن الجزيرة أو شمال العراق ومن أهم حصونها طرسوس وأطنة.

 واعتبرت سياسة الخليفة المهدي امتدادا لسياسة أبيه العدائية نحو البيزنطيين، فلقد واصل تحصين ثغوره المتاخمة لهم وراح يوجه إليهم الحملات المتتابعة، ولم يكتف بذلك بل قرر أن يقود إحدى هذه الحملات بنفسه سنة 165 هـ مصطحبا معه ابنه هارون. وعندما بلغ بلة أبلستين في أسيا الصغرى، اضطر المهدي للعودة إلى بغداد تاركا قيادة الجيش في يد ولده هارون، وواصل هارون زحفه مخترقا آسيا الصغرى مدمرا حصون البيزنطيين فيها حتى بلغ مضيق البوسفور.

واضطرت الإمبراطورة Irene التي كانت تحكم كوصية على ابنها قسطنطين السادس إلى طلب الصلح وعقده هدنة بين الطرفين سنة 165/782 لمدة ثلاث سنوات تعهدت فيها بدفع جزية سنوية، وقد أظهر هارون في هذه الغزوة من الشجاعة والبسالة ما أهله حمل لقب الرشيد. وهكذا بقيت علاقة الرشيد بالبيزنطيين علاقة حرب وعداء، فالرشيد واصل استكمال تحصينات ثغوره المتاخمة للبيزنطيين وأقام منطقة جديدة بين شمال الجزيرة وشمال الشام أطلق عليها اسم منطقة العواصم أي التي يعتصم فيها الجند وجعل قاعدتها مدينة منبج في شمال شرق حلب ورتب فيها جيشا دائما، كذلك اهتم بمنطقة الثغور الشامية التي على الحدود بين آسيا الصغرى وسوريا، فعمر فيها طرسوس وأطنة أو أدنة وعين زربه. كما أقام فيها حصونا جديدة مثل الهارونية بين مرعش وعين زربه، وبلغ من اهتمام الرشيد بمناطق الثغور أن ولى عليها ابنه الثالث أبا القاسم الملقب بالمؤتمن. وسبق الإشارة إلى الحملة الضخمة التي قادها الرشيد وهو أمير ضد الإمبراطورة \"ايرين\" انتصر عليها وقد ظلت ايرين بعد ذلك تدفع الجزية السنوية إلى أن ماتت، ثم خلفها الإمبراطور نقفور الأول سنة 802 الذي نقض الهدنة وطلب من الرشيد أن يرد إليه الجزية التي دفعتها ايرين من قبل معللا ذلك بقوله في خطاب له إلى الرشيد:

\"من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قلبي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها، واقتد نفسك بما يقع به المبادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك\".

 

وقد غضب الرشيد من هذه الرسالة غضبا شديدا ورد عليها برسالة مماثلة قال فيها \"بسم الله الرحمن الرحيم: من هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام\".

 

ثم خرج الرشيد على رأس جيش كبير بلغ تعداده 135 ألفا سوى الأتباع والمطوعة، وتوغل في آسيا الصغرى حتى بلغ مدينة هرقلة عاصمة كورة بيثينيا فحاصرها واستولى عليها عنوة سنة 806 م وأعقب ذلك توجيه حملات متلاحقة بقيادة كبار قواده أمثال داود بن عيسى، وشراحيل بن معن بن زائدة ويزيد بن مخلد، هزمت جيوش البيزنطيين ودمرت حصونهم واضطر الإمبراطور نقفور أن يتناسى خطابه ويعترف بهزيمته ويتعهد بدفع الجزية من جديد

أما عن علاقة المأمون بجيرانه الروم أو البيزنطيين، فكانت سياسة عدائية على غرار آبائه من قبل، ويستفاد من كلام المؤرخين أن المأمون استغل فرصة الفتنة الداخلية التي تزعمها توماس الصقلي ضد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني سنة 821 م، وأخذ يمده بالمال والسلاح كي يعينه على فتح القسطنطينية والاستيلاء على الحكم، كما أوعز إلى بطريق القسطنطينية أن يتوج هذا الثائر امبراطوراً ليصبغ حركته بصبغة شرعية، ولكن الدولة البيزنطية كشفت أخبار هذه الاتصالات وانتهى الأمر بهزيمة توماس الصقلبي وقتله على أبواب القسطنطينية سنة 823 م. ولم يتردد المأمون في السنوات الأخيرة من حياته من قيادة جيوشه بنفسه والتوغل في الأراضي البيزنطية بآسيا الصغرى. وكان في بعض الأحيان يسند قيادة تلك الحملات إلى ابنه العباس، وقد كانت وفاة المأمون في آخر غزوة من غزواته في الأراضي البيزنطية شمالي مدينة طرسوس نتيجة لإصابته بالحمى هناك.

 

وفي فترة حكم المعتصم الذي خلف أخاه المأمون استمرت المواجهة العسكرية بين العباسيين والبيزنطيين، ولعل أبرز الأحداث العسكرية التي اشتهرت في عهد المعتصم، هي انتصاره الحاسم على البيزنطيين في عمورية بآسيا الصغرى بسنة 223/838 ومن أخبار هذا الحدث العسكري الهام أن الإمبراطور تيوفيل البيزنطي انتهز فرصة انشغال المعتصم في مطاردة الخرميين وأغار على الحدود الإسلامية وهاجم مدينة \"زبطة\" وهي أقرب الثغور الإسلامية إلى بلاد الروم، فأحرقها وخربها وقتل رجالها وسبى نساءها وأطفالها. وغضب المعتصم لهذا الحادث خصوصا وأنه كان يعتز بهذه المدينة لأنها كانت مسقط رأس والدته ويضيف ابن الأثير أن امرأة هاشمية أخذت تصيح عندما وقعت في أسر الروم: \"وامعتصماه\" فلما بلغ ذلك المعتصم أقسم بأن ينتقم من الروم وأن يخرب مدينة عمورية مسقط رأس والد الإمبراطور البيزنطي وأهم مدينة في الأناضول.

 

ثم جمع المعتصم جيشا كبيرا تولى قيادته بنفسه، ويقال أن اسم عموريه كان منقوشا على درع كل جندي من جنود المسلمين وتقدم المعتصم بجيوشه حتى التقى بجيش \"تيوفيل\" فهزمه وخرب مدينة أنقره، ثم حاصر مدينة عمورية التي تقع بجوار أنقرة، وبعد حصار شديد تمكن المعتصم من اقتحام المدينة عنوة وتخريبها وأسر من فيها، وهكذا انتقم المعتصم من الروم على ما فعلوه في زبطرة وكان انتقاما رائعا وصفه الشاعر أبو تمام بالقصيدة التي مطلعها:

 

السيف أصدق أنباء من الكتب * * *  في حده الحد بين الجد واللعب

وهكذا بقيت العلاقات العربية البيزنطية مضطربة ويشوبها الحذر ويغلب عليها طابع العداء، ذلك لأن الدولة البيزنطية وبالرغم من خسارتها للعديد من المناطق، كانت تنتهز الفرصة وتهاجم الثغور الإسلامية، مما نتج عنه معارك وحروب بين الطرفين استمرت فترة طويلة من الزمن.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply