بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ وبعدُº
فإن قبةَ مسجدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها مكانةٌ عند الصوفيةِ أربابَ القبابِ والقبورِ، ويصورنها على أنها مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بقبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف يكونُ ذلك يا أمةَ محمدٍ, - وهو - صلى الله عليه وسلم - أرسل بالتوحيدِ، وإزالةِ الشركِ، وهدمِ القبابِ على القبورِ، وحذر الأمةَ من سلوكِ سَننِ اليهودِ والنصارى في اتخاذِ القبورِ مساجد؟!
عَن عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَينَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : \" إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوا عَلَى قَبرِهِ مَسجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلكِ الصٌّوَرَ أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلقِ عِندَ اللَّهِ يَومَ القِيَامَةِ \". أخرجهُ البخاري (427)، ومسلم (528).
عَن عَائِشَةَ ، وَعَبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ, رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم قَالَا: \" لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يَطرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجهِهِ، فَإِذَا اغتَمَّ كَشَفَهَا عَن وَجهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : \" لَعنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. أخرجهُ البخاري (435)، ومسلم (531).
والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ جداً.
والقبةُ التي في مسجدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن موجودةً في الثلاثةِ القرونِ المفضلةِ، وإنما أُحدثت بعد ذلك، وقد حقق الشيخُ مقبلٌ الوادعي - رحمه الله - في بحثٍ, له ضمن كتابِ \" رياضِ الجنةِ \" (ص 225 255) هذه المسألةَ تحقيقاً لا مزيد عليه، سأنقلُ منه كلامَ الذين أرخوا لبناءِ القبةِ، وإنكارَ أهلِ العلمِ لهذه القبةِ المحدثةِ، لكي يكونَ المؤمنُ الموحدُ على بينةٍ, من أمرهِ، وأن لا يغتر بما يتناقلهُ الصوفيةُ وغيرهم من تعظيمٍ, لها.
قال الشيخُ مقبلٌ الوادعي (ص 240): \" قال الشيخُ أحمدُ بنُ عبدِ الحميدِ العباسي - رحمه الله - المتوفى في القرنِ العاشرِ الهجري في كتابهِ \" عمدة الأخبارِ في مدينةِ المختارِ \" (ص 124): \" ومن ذلك أنهُ لما كان عام ثمانٍ, وسبعين وست مئة هجرية أمر السلطانُ الملكُ المنصورُ قلاوون الصالحي والد السلطانِ الملك الناصر محمد بن قلاوون ببناءِ قبةٍ, على الحجرةِ الشريفةِ، ولم يكن قبل هذا التاريخِ عليها قبةٌ، ولها بناءٌ مرتفعٌ، وإنما كان حظيرٌ حول الحجرةِ الشريفةِ فوق سطحِ المسجدِ، وكان مبنياً بالآجرِ مقدار نصفِ قامةٍ, بحيث يميزُ سطحُ المسجدِ، وكان منبياً بالآجرِ فعملت هذه القبةُ الموجودةُ اليوم...\".ا. هـ.
وقال زينُ الدينِ المراغي المتوفى سنة عشرة وثمان مئة في كتابهِ \" تحقيق النصرةِ بتلخيصِ معالمِ دارِ الهجرةِ \" (ص81): \" اعلم أنهُ لم يكن قبل حريقِ المسجد ولا بعدهُ على الحجرةِ الشريفةِ قبةٌ، بل كان ما حول حجرةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السطحِ مقدار نصفِ قامةٍ, مبني بالآجرِ تميز الحجرةَ الشريفةَ على بقيةِ السطحِ إلى سنةِ ثمانٍ, وسبعين وست مئة في أيامِ الملكِ المنصورِ قلاوون الصالحي... \". ا. هـ.
ونحو ما تقدم عما في \" وفاءِ الوفاءِ \" للسمهودي المتوفى سنة إحدى وعشر وتسع مئة (2/609) فقد ذكر نحو ما تقدم ثم قال: \" رأيتُ في \" الطالعِ السعيدِ الجامعِ أسماء الفضلاءِ والرواةِ بأعلى الصعيد \" في ترجمةِ الكمالِ أحمدَ بنِ البرهانِ غبد القوي الربعي ناظرِقوص أنه بنى على الضريحِ النبوي هذه القبةِ المذكورةِ، قال: \" وقصد خيراً وتحصيل ثوابٍ, علق الشيخُ مقبل في الحاشيةِ: \" هكذا يتخبطُ ذوو الأموالِ الذين ليس لديهم علم، فينفقونها فيما ليس من الشرعِ في شيءٍ,، بل ربما كان مخالفاً للشرعِ ووبالاً على صاحبهِ. فانظر إلى هذا الذي قصد الخيرَ فأصبح فتنةً لكثيرٍ, من القبوريين \" -، وقال بعضهم: \" أساء الأدب بعلو النجارين ودق الحطب \"، قال: \" وفي تلك السنةِ وقع بينه وبين بعضِ الولاةِ كلامٌ، فوصل مرسومٌ بضربِ الكمالِ، فضرب، فكان من يقولُ إنه أساء الأدب يقولُ: \" إن هذا مجازةً له، وصادره الأميرُ علمُ الدين الشجاعي، وخرب دارهُ، وأخذ رخامها وخزائنها... \". ا. هـ.
إنكارُ أهلِ العلمِ لهذهِ القبةِ:
أنكر العلماءُ بناء القبةِ على قبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهُ أمرٌ حرمهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذر الأمةَ منه.
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في \" اقتضاءِ الصراطِ المستقمِ (2/685) \": \" ولهذا لما بُنيت حجرتُهُ على عهدِ التابعين - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، تركوا في أعلاها كوةً إلى السماءِ، وهي إلى الآن باقيةٌ فيها، موضوعٌ عليها مشمعٌ على أطرافه حجارةٌ تمسكه، وكان السقفُ بارزاً إلى السماءِ، وبنى كذلك لما احترق المسجدُ والمنبرُ سنةَ بضعٍ, وخمسين وست مئة، وظهرت النارُ بأرضِ الحجازِ التي أضاءت لها أعناقُ الإبلِ ببصرى، وجرت بعدها فتنةُ التترِ ببغداد وغيرها، ثم عُمر المسجدُ والسقفُ كما كان، وأُحدث حول الحجرةِ الحائطُ الخشب، ثم بعد ذلك بسنين متعددةٍ, بنيت القبةُ على السقفِ، وأنكرهُ من كرهه \". ا. هـ.
وقال الصنعاني - رحمه الله - في \" تطهير الاعتقادِ \": \" فإن قلت: \" هذا قبرُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - قد عُمرت عليه قبةٌ عظيمةٌ انفقت فيها الأموالُ \".
قلتُ: \" هذا جهلٌ عظيمٌ بحقيقةِ الحالِ فإن هذه القبةَ ليس بناؤها منهُ - صلى الله عليه وسلم -، ولا من أصحابهِ، ولا من تابعيهم، ولا من تابعِ التابعين، ولا علماء الأمةِ وأئمة ملتهِ، بل هذه القبةُ المعمولةُ على قبرهِ - صلى الله عليه وسلم - من أبنيةِ بعضِ ملوكِ مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملكِ المنصورِ في سنةِ ثمانٍ, وسبعين وست مئة، ذكرهُ في تحقيقِ النصرةِ بتلخيصِ معالمِ دارِ الهجرةِº فهذه أمورٌ دولية لا دليليةٌ \". ا. هـ.
وقال الشيخُ حسينُ بنُ مهدي النعمي في كتابهِ \" معارج الألبابِ بعد قولِ بعضِ المفتين محتجاً بقبةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - على جوازِ بناءِ سائرِ القبابِ \": \" فقال ذلك المفتي: \" ومن المعلومِ أنه - صلى الله عليه وسلم - له قبةٌ، وأولياءُ المدينةِ، وأولياءُ سائرِ البلدانِ، وأنها تزارُ كل وقتٍ,، ويعتقدُ بها حلولُ البركةِ \". ا. هـ. كلام ذلك المفتي.
فتعقبهُ النعمي - رحمه الله - فقال: \" أقولُ: \" الأمرُ كذلك فكان ماذا بعد أن حذر - صلى الله عليه وسلم -، وأنذر، وبرأ جانبهُ المقدس الأطهر - صلى الله عليه وسلم -، فصنعتم له عين ما تقدم بالنهي عنه، أفلا كان هذا كافياً لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم لأمرهِ حجة ً عليه وتقدماً بين يديهِ، فهل أشار بسيءٍ, من هذا، أو رضيهُ، أو لم ينه. وأما اعتقادكم حلول البركةِ فمن عندكم لا من عند اللهِ فهو ردٌ عليكم \". ا. هـ.
قال الشيخ مقبلٌ في ختام بحثه: \" هذا وقد هم الإخوان - رحمهم الله - في زمنِ عبدِ العزيز - رحمه الله - عند دخولهم المدينة أن يزيلوا هذه القبةَ، وليتهم فعلوا، ولكنهم خشوا - رحمهم الله - من قيامِ فتنةٍ, من القبوريين أعظم من إزالةِ القبةِ، فيؤدي إزالةُ المنكرِ إلى ما هو أنكرُ منهُ \". ا. هـ.
فتوى رقم (5576):
س: أرجو التكرم بإعلامي عن حكم الدين في إنتاج مجسمات فنية للحرمين الشريفين بما في ذلك الكعبة المشرفة بغرض بيعها على الحجاج وغيرهم من المسلمين الذين يرغبون في اقتنائها على سبيل التذكار.
ج : لا يجوز إنتاج المجسمات الفنية للحرمين الشريفينº لما قد تشتمل عليه من صور لمن بالحرم المكي من الطائفين والمصلين ولمن بالمسجد النبوي والقراء وغيرهم، ولخروج صورة القبة الخضراء مع صورة المسجد النبوي مما يدفع بعض الناس إلى الاعتقاد في القباب وأهلها، وهذا يفضي إلى الشرك الأكبر، ولما يفضي إليه ذلك من مفاسد أخرى أعاذنا الله منها .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نائب رئيس اللجنة عبد الرزاق عفيفي
عضو عبد الله بن غديان
عضو عبد الله بن قعود
عمارةُ القبةِ
في عام 678هـ أمر السلطان المملوكي المنصور قلاوون الصالحي بعمارة قبة فوق الحجرة النبوية الشريفة، فجاءت مربعة من أسفلها، مثمنة من أعلاها، مصنوعة من أخشاب كسيت بألواح بالرصاص. وفي الفترة من عام 755 762هـ جدَّد الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ألواح الرصاص التي على القبة الشريفة. وفي عام 765هـ عمل السلطان شعبان بن حسين بعض الإصلاحات في القبة الشريفة. وفي عام 881هـ أبدل السلطان قايتباي سقف الحجرة الخشبي بقبة لطيفة، جاءت تحت القبة الكبيرة.
وفي عام 886 هـ احترقت القبة الكبيرة باحتراق المسجد النبوي الشريف، فأعاد السلطان قايتباي بناءها بالآجر عام 892 هـ، ثم ظهرت بعض الشقوق في أعاليها فعمل لها بعض الترميمات، وجعلها في غاية الإحكام.
وفي عام 974هـ أصلح السلطان سليمان القانوني العثماني رصاص القبة الشريفة ووضع عليها هلالاً جديدًا.
وفي عام 1228هـ جدَّد السلطان محمود الثاني العثماني القبة الشريفة، ودهنها باللون الأخضر، فاشتهرت بالقبة الخضراء، بعد أن كانت تعرف بالبيضاء أو الزرقاء أو الفيحاء.
ومنذ بداية العهد السعودي وإلى تاريخ إعداد هذه المعلومة 1419 هـ أعيد صبغ القبة باللون الأخضر عدة مرات، مع بعض الإصلاحات والترميمات اللازمة لها.
وبهذا يتبينُ أن القبةَ محدثةٌ ولم تكن موجودةً في العصورِ الثلاثةِ المفضلةِ.
قال أبو عبدِ الإلهِ صالحٌ العصيمي في \" بدعِ القبورِ. أنواعها وأحكامها \" (ص 253): \" رابعاً: إن استمرارَ هذه القبةِ على مدى ثمانيةِ قرونٍ, لا يعني أنها أصبحت جائزة، ولا يعني أن السكوتَ عنها إقرارٌ لها أو دليلٌ على جوازها، بل يجبُ على ولاةِ المسلمين إزالتها، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه في عهدِ النبوةِ، وإزالة القبةِ والزخارفِ والنقوشِ التي في المساجدِ، وعلى رأسها المسجدُ النبوي، ما لم يترتب على ذلك فتنةٌ أكبر منه، فإن ترتبَ عليه فتنةٌ أكبر، فلولي الأمرِ التريث مع العزمِ على استغلالِ الفرصة متى سنحت، ومما يستأنسُ به قولهُ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ - رضي الله عنها -: \" يَا عَائِشَةُº لَولَا أَنَّ قَومَكِ حَدِيثُ عَهدٍ, بِجَاهِلِيَّةٍ, لَأَمَرتُ بِالبَيتِ فَهُدِمَ فَأَدخَلتُ فِيهِ مَا أُخرِجَ مِنهُ وَأَلزَقتُهُ بِالأَرضِ، وَجَعَلتُ لَهُ بَابَينِ بَابًا شَرقِيًّا وَبَابًا غَربِيًّا فَبَلَغتُ بِهِ أَسَاسَ إِبرَاهِيمَ \" [أخرجهُ البخاري (1586)، ومسلم (1333)].
قال النووي - رحمه الله - في \" شرحِ مسلم \" (9/94): \" وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِن الأَحكَام مِنهَا: إِذَا تَعَارَضَت المَصَالِح أَو تَعَارَضَت مَصلَحَة وَمَفسَدَة وَتَعَذَّرَ الجَمع بَين فِعل المَصلَحَة وَتَرك المَفسَدَة بُدِئَ بِالأَهَمِّ ; لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَخبَرَ أَنَّ نَقضَ الكَعبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَت عَلَيهِ مِن قَوَاعِد إِبرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - مَصلَحَة، وَلَكِن تُعَارِضهُ مَفسَدَة أَعظَم مِنهُ، وَهِيَ خَوف فِتنَة بَعض مَن أَسلَمَ قَرِيبًا، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعتَقِدُونَهُ مِن فَضل الكَعبَة، فَيَرَونَ تَغيِيرهَا عَظِيمًا، فَتَرَكَهَا - صلى الله عليه وسلم -.
وَمِنهَا فِكر وَلِي الأَمر فِي مَصَالِح رَعِيَّته، وَاجتِنَابه مَا يَخَاف مِنهُ تَوَلٌّد ضَرَر عَلَيهِم فِي دِينَ أَو دُنيَا إِلَّا الأُمُور الشَّرعِيَّة كَأَخذِ الزَّكَاة وَإِقَامَة الحُدُود وَنَحو ذَلِكَ.
وَمِنهَا: تَأَلٌّف قُلُوب الرَّعِيَّة وَحُسن حِيَاطَتهم وَأَلَّا يَنفِرُوا وَلَا يَتَعَرَّض لِمَا يَخَاف تَنفِيرهم بِسَبَبِهِ مَا لَم يَكُن فِيهِ تَرك أَمر شَرعِيّ كَمَا سَبَقَ \". ا. هـ.
وقال العصيمي قبل ذلك: \" وظلت القبةُ تحملُ اللونَ الأزرقَ حتى جاء السلطانُ محمودُ بنُ السلطانِ عبدِ الحميدِ فأمر بتجديدها فهدم أعاليها، وأعيد بناؤها متقنا وذلك سنة 1233 هـ، ثم أمر بصبغها فصبغت باللونِ الأخضرِ، وكان لونها قبل أزرق لون الرصاص الذي عليها، ثم صارت تصبغُ باللونِ نفسه كلما خسف سابقه من تأثيرِ الشمسِ \". ا. هـ.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد