خالد بن الوليد وجرجه بن بوديها


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كان ذلك لخمس مضين من رجب الفرد في السنة الخامسة عشرة من الهجرة النبوية· وقد تلاقت جيوش الروم وجيوش المسلمين على اليرموك من أرض الشام.

وبينما القتال على أشده - والجند يحطم بعضها بعضاً- إذ بالقائد جرجه بن بوديها الأرمني - وهو أحد قادة جيش الروم الكبار تحت قيادته خمسون أو ستون ألفاً، وكان نازلاً بإزاء يزيد بن أبي سفيان - يخرج من الصف، ويستدعي خالد بن الوليد قائد الجيش المسلم.

لبى خالد طلبه، وتقدم نحوه حتى اختلفت عنقا فرسيهما، وخالد مصغ بحذر، يرقب ما وراء طلب هذا القائد.

لم يطل تفكر خالد بهذا الأمر، فقد بادره القائد جرجه بما يدور في نفسه:

جرجه: يا خالد، أخبرني، فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل باللّه.

يا خالد، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه، فلا تسله على أحد إلا هزمتهم.

خالد: لا ما ثمة شيء من هذا

جرجه: فبم سميت سيف اللّه إذن؟

خالد: إن اللّه بعث فينا نبيه، فدعانا فنفرنا منه، ونأينا عنه جميعاً· ثم إن بعضنا صدَّقه وتبعه، وبعضنا كذَّبه وباعده، وكنت فيمن كذَّبه وباعده، ثم إن اللّه أخذ بقلوبنا ونواصينا، فهدانا به، وبايعناه· فقال لي : يا خالد، أنت سيف من سيوف اللّه، سله الله على المشركين· ودعا لي بالنصر، فسميت سيف اللّه، لتسمية رسول اللّه لي، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

جرجه: يا خالد، إلام تدعون؟

خالد: إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند اللّه - عز وجل -.

جرجه: فمن لم يجبكم؟

خالد: يؤدون الجزية، ونحميهم مما نحمي منه أنفسنا وذرارينا وأموالنا.

جرجه: فإن لم يعطوها؟

خالد: نؤذنهم بالحرب، ثم نقاتلهم

جرجه: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم؟

خالد: منزلتنا واحدة فيما افترض اللّه علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.

جرجه: هل لمن دخل في دينكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟

خالد: نعم وأفضل.

جرجه: كيف يساويكم وقد سبقتموه؟!

خالد: إنا قبلنا هذا الأمر، وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا·

جرجه: باللّه يا خالد، لقد صدقتني ولم تخادعني؟

خالد: تا للّه لقد صدقتك، وإن اللّه وليَّ ما سألت عنه؟

وهنا شعر جرجه أن نوراً خفياً بدأ يتسرب إلى قلبه، وأن حجباً كثيفة قد أزيحت عن صدره· وأن ما ذكره له خالد من موعود الله للمؤمنين المصدقين بهذا الدين قد أحاط به، ودنا منه كثيراً، فما عليه لينعم به إلا أن يمسك بمفتاح الإسلام ليلج من بابه إلى سعة رحمة الله - عز وجل -، وما أعده لعباده المؤمنين، فقلب ترسه، ومال مع خالد يناشده أن يعلمه الإسلام.

لم يتوان سيف اللّه عن تلبية طلبه، ولا شغله عن مطلب جرجه حرج المعركة، ولا ضراوتها، بل أخذ بيده وأدخله خيمة، وصب عليه قربة ماء، وعلَّمه نطق الشهادتين، ثم صلى به ركعتين، وخرجا لمتابعة سير المعركة. فوجدا القتال على أشده، والدولة للروم حيث أزاحوا المسلمين عن مواقعهم، فنادى خالد بالناس ومعه جرجه، فثاب المسلمون إليهما واشتد القتال حتى لم يستطع المسلمون أداء صلاة الظهر والعصر إلا إيماء.

وانتهت المعركة بنصر مؤزر للإسلام وأهله وتفقد خالد رجاله، فوجد جرجه مع الشهداء، ولم يصل للّه - تعالى -إلا تلكما الركعتين اللتين ركعهما في الخيمة، فكانتا نور قلبه، ودليل دربه إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

 

درس وعبرة:

متى صفا القلب، وصدقت النية، تفتحت أبواب السماء، فلا تحجب دعوة، ولا يرد مطلب، وتدلت حبال الرجاء لانتشال الغارقين من حمأة الذنوب والمعاصي، فمن أخذ بطرف منها كان سبيله إلى النجاة.

وإذا لحظت العناية عبداً تبدد خوفه، وسهل أمره، وذل له كل باغ وعات، وكل جامح ونفور.

ومتى وصل العبد حباله بخالقه، ونقَّى القلب من شوائب الآفات وجعل الهموم هماً واحداً، محصوراً في دائرة مرضاة اللّه - عز وجل -، وانخلع من المثبطات - وما أكثرها - فاز بعز الدنيا، وسعادة الآخرة.

وإن في موقف القائد جرجه لعظة وعبرة لأولى الألباب· (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) - ق - 37

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply