محاكم التفتيش..من ينصف المسلمين من جرائمها ؟


  

بسم الله الرحمن الرحيم

تمثل محاكم التفتيش أحد أسوأ فصول التاريخ الغربي دموية تجاه المسلمين، وقد امتدت وحشيتها المفرطة لتطال النصارى أيضاً فيما بعدº ولذلك كان من الطبيعي ألا يتوقف المؤرخون والمستشرقون الغربيون عندها إلا نادراً في محاولة منهم لتجاوز وقائعها السوداء، بل نجدهم في حالات أخرى كثيرة يحاولون وضع التبريرات لها بادعاء أنها كانت أخطاء غير مقصودة ارتكبها القساوسة في محاولتهم للحفاظ على المسيحية بعد خروج المسلمين من الأندلس، فنجد مثلاً المستشرق البريطاني (وول سميث) يعلن أن الكنيسة ليست مسؤولة مباشرة عن الجرائم التي ارتكبت عبر محاكم التفتيش، ولكن كان على رجال الدين المسيحي في إسبانيا أن يخوضوا معركة ضد الوجود الإسلامي بعد خروج العرب من أسبانيا فاضطروا إلى محاكم التفتيش التي تمادى القائمون عليها في تصرفاتهم فيما بعد(1).

وهكذا عند (سميث) وغيره من المؤرخين والمستشرقين النصارى تتحول محاكم التفتيش إلى (خطأ) غير مقصود له تبريراته، بل يصير الإسلام عندهم هو المسؤول عن تلك المحاكمº لأنه دفع بالمسيحيين إلى استنباط محاكم التفتيش ليصدوا تمدده في الغرب!!

على أي حال، فإن السواد الذي غطى تاريخ محاكم التفتيش لم تستطع السنوات أن تزيله من ذاكرة التاريخ العالمي، وحتى الكنيسة عينها لم تعد قادرة على تجاهل مسؤوليتها المباشرة عن الفظائع التي ارتكبت بحق المسلمين من خلال تلك المحاكمº ولهذا نجد أنه مثلاً في أواسط العام 2002م قدمت مجموعة مكونة من 30 مؤرخاً من مختلف أنحاء العالم مشروع قرار إلى البابا بولس الثاني حول إمكان اعتذار الكنيسة الكاثوليكية عن محاكم التفتيش وجرائمها بحق المسلمين، وجاء مشروع المؤرخين الغربيين من بين التحضيرات النصرانية لاستقبال الألفية الثالثة للميلاد(2).

وفي هذه المقالة المختصرة نقف عند محاكم التفتيش مستعرضين بعض فصولها، وسنجد أنها بدأت عندما حانت نهاية الحكم الإسلامي في الأندلس، وسقوط آخر مدينة إسلامية بيد الاسبان وهي غرناطة.

لقد استمر حكم المسلمين (800عام) للأندلس من دون انقطاع، إلا أن الافتتان بالدنيا ونعيمها الزائل، والتحالف مع الأعداء وموالاتهم ضد الإخوة، والثقة في الواشين، وتقريب الأعداء، والاستعانة بهم في القضاء على الإخوة كل هذه الأسباب عجَّلت بانهيار الدولة الإسلامية في الأندلس، وأضاعت أرضاً إسلامية فتحت من قبل على جثث وجماجم المقاتلين الشهداء من المسلمين العظام، الذين أرادوا إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، دون ملل أو كلل، حتى سطع نور الإسلام ثمانية قرون على هذه الأرض، ولم يبق من هذه الدولة إلا (غرناطة) التي حاصرها الاسبان.

كانت غرناطة مدينة جميلة في جنوب إسبانيا عاصمة بني زيري من ملوك الطوائف، وعاصمة بني الأحمر، وقد استطاع الأسبان أن يوقعوا الفتنة بين خلفاء علي بن الحسن، ولما تم لهم ذلك حاصرواغرناطة، وأرسل فرديناند ملك إسبانيا رسله إلى قادة غرناطة المسلمة يطلب منهم الاستسلام فرفضوا، فنزل جيش إسباني مكوَّن من (25) ألف جندي، واتجهوا صوب المزارع والحدائق وخرّبوها عن آخرهاº حتى لا يجد المسلمون ما يأكلونه أو يقتاتون عليه، ثم جهزت ملكة إسبانيا جيشاً آخر من (500) ألف مقاتل لقتال المسلمين في القلاع والحصون الباقية، وبعد قتال طويل اجتمع العلماء والفقهاء في قصر الحمراء واتفقوا على الاستسلام، واختاروا الوزير أبا القاسم عبد الملك لمفاوضة ملك اسبانيا فرديناند(3).

 

اتفاقية التسليم:

تم إبرام معاهدة تنص على أن يسلم حكام غرناطة المدينة للأسبان لقاء ضمان خروج الحكام بأموالهم إلى إفريقيا، كما تضمنت المعاهدة ثمانية وستين بنداً منها: تأمين الصغير والكبير على النفس والمال والأهل، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم وعقارهم، وأن تبقى لهم شريعتهم يتقاضون فيها، وأن تبقى لهم مساجدهم وأوقافهم، وألا يدخل الكاثوليك دار مسلم، وألا يغصبوا أحداً، وألا يولى على المسلمين إلا مسلم، وأن يُطلق سراح جميع الأسرى المسلمين، وألا يؤخذ أحد بذنب غيرهº وألا يُرغم من أسلم من الكاثوليك على العودة إلى دينه، وألا يعاقب أحد على ما وقع ضد الكاثوليكية في زمن الحرب، وألا يدخل الجنود الأسبان إلى المساجد، ولا يلزم المسلم بوضع علامة مميزة، ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم من أمور دينه... وقد وقع على المعاهدة الملك الإسباني والبابا في روما، وكان التوقيعان كافيين لكي تكون المعاهدة ضمانة للمسلمين في إسبانيا، وبناء على هذه المعاهدة خرج أبوعبدالله ابن أبي الحسن ملك غرناطة صباح يوم (211492م)، من قصر الحمراء وهو يبكي كالنساء حاملاً مفاتيح مدينته وملكه الزائل فاعطاها الملكة ايزابيلا وزوجها فرديناند.

 

فصول الاضطهاد بعد نقض العهد:

الذي حدث أنه فور دخول الإسبان إلى غرناطة نقضوا المعاهدة التي أبرموها مع حكامها المسلمينº إذ كان أول عمل قام به الكاردينال مندوسي عند دخول الحمراء هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها، وترتيل صلاة الحمد الكاثوليكية، وبعد أيام عدة أرسل أسقف غرناطة رسالة عاجلة للملك الإسباني يعلمه فيها أنه قد أخذ على عاتقه حمل المسلمين في غرناطة وغيرها من مدن إسبانيا على أن يصبحوا كاثوليكاًº وذلك تنفيذاً لرغبة السيد المسيح عليه السلام الذي ظهر له، وأمره بذلك كما ادَّعى، فأقره الملك على أن يفعل ما يشاء لتنفيذ رغبة السيد المسيح عليه السلام، عندها بادر الأسقف إلى احتلال المساجد ومصادرة أوقافها، وأمر بتحويل المسجد الجامع في غرناطة إلى كنيسة، فثار المسلمون هناك دفاعاً عن مساجدهم، لكن ثورتهم قمعت بوحشية مطلقة، وتم إعدام مئتين من العلماء المسلمين حرقاً في الساحة الرئيسة بتهمة مقاومة المسيحية (4).

وظهرت محاكم التفتيش تبحث عن كل مسلم لتحاكمه على عدم تنصره، فهام المسلمون على وجوههم في الجبال، وأصدرت محاكم التفتيش الإسبانية تعليماتها للكاردينال (سيسزوس) لتنصير بقية المسلمين في أسبانيا، والعمل السريع على إجبارهم على أن يكونوا نصارى، وأحرقت المصاحف، وكتب التفسير، والحديث، والفقه، والعقيدة، وكانت محاكم التفتيش تصدر أحكاماً بحرق المسلمين على أعواد الحطب وهم أحياء في ساحة من ساحات مدينة غرناطة، أمام الناس، وقد استمرت هذه الحملة الظالمة على المسلمين حتى عام(1577م)، وراح ضحيتها حسب بعض المؤرخين الغربيين أكثر من نصف مليون مسلم، وتم تنصير البقية الباقية من المسلمين بالقوة، ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس، وفي يوم (12101501)، صدر مرسوم آخر بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع المدن والقرى، ثم جاءت الخطوة التالية، عندما بدأ الأسقف يقدم الإغراءات الكثيرة للأسر المسلمة الغنية حتى يعتنقوا الكاثوليكية، ومن تلك الإغراءات: تسليم أفرادها مناصب عالية في السلطة، وقد استجاب له عدد محدود جداً من الأسر الغنية المسلمة، وهو ما أثار غضب العامة من المسلمين فهاجموا أسر الذين اعتنقوا الكاثوليكية وأحرقوا بعضها، عندها أعلن الكاردينال (خيمينيث) أن المعاهدة التي تم توقيعها مع حكام غرناطة لم تعدصالحة أو موجودة، وأعطى أوامره بتنصير جميع المسلمين في غرناطة دون الأخذ برأيهم، أو حتى تتاح لهم فرصة التعرف إلى الدين الجديد الذي يساقون إليه، ومن يرفض منهم عليه أن يختار أحد أمرين:

1 - إما أن يغادر غرناطة إلى أفريقيا دون أن يحمل معه أي شيء من أمواله، ودون راحلة يركبها هو أو أحد أفراد أسرته من النساء والأطفال، وبعد أن يشهد مصادرة أمواله.

2 - وإما أن يُعدم علناً في ساحات غرناطة باعتباره رافضاً للنصرانية.

كان من الطبيعي أن يختار عدد كبير من أهالي غرناطة الهجرة بدينهم وعقائدهم، فخرج قسم منهم تاركين أموالهم سيراً على الأقدام، غير عابئين بمشاق الطرقات، ومجاهل وأخطار السفر إلى أفريقيا من دون مال أو راحلة، وبعد خروجهم من غرناطة كانت تنتظرهم عصابات الرعاع الإسبانية والجنود الأسبان، فهاجموهم وقتلوا معظمهم، وعندما سمع الآخرون في غرناطة بذلك آثروا البقاء بعد أن أدركوا أن خروجهم من إسبانيا يعني قتلهم، وبالتالي سيقوا في قوافل للتنصير والتعميد كرهاً، ومن كان يكتشفه الأسبان أنه قد تهرب من التعميد تتم مصادرة أمواله وإعدامه علناً، وقد فرَّ عدد كبير من المسلمين الذين رفضوا التعميد إلى الجبال المحيطة في غرناطة محتمين في مغاورها وشعابها الوعرة، وأقاموا فيها لفترات، وأنشأوا قرى عربية مسلمة، لكن الملك الإسباني بنفسه كان يشرف على الحملات العسكرية الكبيرة التي كان يوجهها إلى الجبال، حيث كانت تلك القرى تُهدم ويُساق أهلها إلى الحرق أو التمثيل بهم وهم أحياء في الساحات العامة في غرناطة(5).

 

انتشار الاضطهاد في كل الأندلس:

على المنوال نفسه، سارت حملات كاثوليكية في بقية المدن الإسبانية، وقد عُرف المسلمون المتنصرون باسم المسيحيين الجدد تمييزاً لهم عن المسيحيين القُدامى، وعرفوا أيضاً باسم (الموريسكوس) أي المسلمين الصغار، وعوملوا باحتقار من قبل المسيحيين القدامى، وتوالت قرارات وقوانين جديدة بحق (الموريسكيين)º فعلى سبيل المثال صدر في العام (1507م) أمر بمنع استعمال اللغة العربية، ومصادرة أسلحة الأندلسيين، ويعاقب المخالف للمرة الأولى بالحبس والمصادرة، وفي المرة الثانية بالإعدام، وفي العام (1508م) جددت لائحة ملكية بمنع اللباس الإسلامي، وفي سنة (1510م) طُبِّقت على الموريسكيين ضرائب اسمها (الفارضة)º وفي سنة (1511م) جددت الحكومة قرارات بمنع اللباس وحرق المتبقي من الكتب الإسلامية، ومنع ذبح الحيوانات على الطريقة الإسلامية.

 

محاكم التفتيش:

في حمأة تلك الحملة الظالمة على المسلمين، كما رأينا، تم تشكيل محاكم التفتيش التي مهمتها التأكد من (كثلكة) المسلمين، وقد تبين للمحاكم أن كل أعمال (الكثلكة) لم تؤت نفعاً، فقد تكثلك المسلمون ظاهراً، ولكنهم فعلياً يمارسون الشعائر الإسلامية فيما بينهم سراً، ويتزوجون على الطريقة الإسلامية، ويرفضون شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ويتلون القرآن في مجالسهم الخاصة، ويقومون بنسخه وتداوله فيما بينهم، بل إنهم في منطقة بلنسية أدخلوا عدداً من الكاثوليك الإسبان في الإسلام، وعلموهم اللغة العربية، والشعائر الإسلامية.

لقد جاءت تقارير محاكم التفتيش صاعقة على رأس الكاردينال والملك الإسباني والبابا، في أحد التقارير التي رفعها أسقف غرناطة الموكل بتنصير مسلمي غرناطة للكاردينال، ورد أن (الموريسكوس) لم يتراجعوا خطوة واحدة عن الإسلام، وأنه لم يتم إيجاد طرق فاعلة لوقفهم، وإن لم يتم إيجاد تلك الوسائل فإنهم سيدخلون مسيحيي غرناطة وبلنسية ومداً أخرى في الإسلام بشكل جماعي.

وبناء على هذه التقارير تقرر إخضاع جميع (الموريسكوس) في إسبانيا إلى محاكم التفتيش من دون استثناء، وكذلك جميع المسيحيين الذين يُشك بأنهم قد دخلوا الإسلام، أو تأثروا به بشكل يخالف معتقدات الكنيسة الكاثوليكية، ولتبدأ أكثر الفصول وحشية ودموية في التاريخ الكنسي الغربيº إذ بدأت هذه المحاكم تبحث بشكل مهووس عن كل مسلم لتحاكمه، ومحاكم التفتيش في الواقع نمط عجيب غريب من المحاكم، فقد مُنحت سلطات غير محدودة، ومارست أساليب في التعذيب لم يعرفها أو يمارسها أكثر الطغاة وحشية عبر التاريخ، وقد بدأت تلك المحاكم أعمالها بهدم الحمامات العربية، ومنع الاغتسال على الطريقة العربية، ومنع ارتداء الملابس العربية، أو التحدث باللغة العربية، ومنع الزواج على الطريقة العربية أو الشريعة الإسلامية، ووضعت عقوبات صارمة جداً بحق كل من يثبت أنه يرفض شرب الخمر، أو تناو ل لحم الخنزير، وكل مخالفة لهذه الممنوعات والأوامر تعد خروجاً على الكاثوليكية، ويحال صاحبها إلى محاكم التفتيش.

 

الوقوف في محكمة التفتيش:

كان المتهم الذي يمثل أمام المحكمة يخضع لاختبار أولي، وهو أن يشرب كؤوساً من الخمر يحددها المحاكمون له، ثم يُعرض عليه لحم الخنزير ويطلب منه أن يأكله، وبذلك يتم التأكد من المتهم أنه غير متمسك بالدين الإسلامي وأوامره، ولكن هذا الامتحان لا يكون عادة إلا خطوة أولى يسيرة جداً إزاء ما ينتظر المتهم من رحلة طويلة جداً من التعذيبº إذ يُعاد بعد تناوله الخمر وأكل لحم الخنزير إلى الزنزانة في سجن سري، ودون أن يعرف التهمة الموجهة إليه، وهو مكان من أسوأ الأمكنة، مظلم، ترتع فيه الأفاعي والجرذان والحشرات، وتنتشر فيه الأوبئة، وفي هذا المكان على المتهم أن يبقى أشهراً طويلة دون أن يرى ضوء الشمس أو أي ضوء آخر، فإن مات، فهذا ما تعتبره محاكم التفتيش رحمة من الله وعقوبة مناسبة له، وإن عاش، فهو مازال معرضاً للمحاكمة، وما عليه إلا أن يقاوم الموت لمدة لا يعرف أحد متى تنتهي، وقد يُستدعى خلالها للمحكمة لسؤاله وللتعذيب.

وعادة كان يسأل المحقق في المرة الأولى إن كان يعرف لماذا ألقي القبض عليه وألقي في السجن؟ وما التهم التي يمكن أن توجه إليه؟ ثم يطلب منه أن يعود إلى نفسه، وأن يتأمل واقعه، وأن يعترف بجميع الخطايا التي يمليها عليه ضميره، ويسأله عن أسرته وأصدقائه ومعارفه وجميع الأماكن التي عاش فيها، أو كان يتردد عليها، وخلال إجابة المتهم لا يُقاطع، يُترك ليتحدث كما يشاء، ويسجل عليه الكاتب كل ما يقول، ويُطلب منه أن يؤدي بعض الصلوات المسيحيةº ليعرف المحققون ان كان بالفعل أصبح مسيحياً أو ما زال مسلماًº ودرجة إيمانه بالمسيحية.

وبعد هذه المقابلات البطيئة الروتينية، يقرأ أخيراً المدَّعي العام على المتهم قائمة الاتهامات الموجهة إليه، وهي اتهامات تم وضعها بناء على ما استنتجته هيئة المحكمة من استنطاق المتهم، ولا تستند إلى أدلة من نوع ما، ولا يهم دفاع المتهم عن نفسهº إذ إن قانون المحكمة الأساسي أن الاعتراف سيد الأدلة، وما على المتهم إلا أن يعترف بالتهم الموجهة إليه، ولا تهم الأساليب التي يؤخذ بها الاعتراف، فإن اعترف المتهم تهرباً من التعذيب الذي سينتظره، أضاف المدعي العام إليه تهماً أخرى.

وفي النهاية يرى المحقق أن المتهم يجب أن يخضع للتعذيبº لأنه إنما يعترف تهرباً من قول الحقيقة، أي: أن التعذيب لابد منه، سواء اعترف المتهم أم لم يعترف(6).

 

من أساليب التعذيب في محاكم التفتيش:

يشتمل التعذيب على كل ما يخطر على البال من أساليب وما لا يخطر منها، وتبدأ بمنع الطعام والشراب عن المتهم حتى يصبح نحيلاً غير قادر على الحركة، ثم تأتي عمليات الجلد ونزع الأظفار، والكي بالحديد المحمي، ونزع الشعر، ومواجهة الحيوانات الضارية، والإخصاء، ووضع الملح على الجروح، والتعليق من الأصابع... وخلال كل عمليات التعذيب يسجل الكاتب كل ما يقوله المتهم من صراخ وكلمات وبكاء، ولا يستثنى من هذا التعذيب شيخ أو امرأة أو طفل، وبعد كل حفلة تعذيب، يترك المتهم يوماً واحداً ثم يُعرض عليه ما قاله في أثناء التعذيب من تفسيرات القضاة، فإذا كان قد بكى وصرخ: يا الله، يفسر القاضي أن الله التي لفظها يقصد بها رب المسلمين، وعلى المتهم أن ينفي هذا الاتهام أويؤكدهº وعلى أي حال يجب ان يتعرض لتعذيب من جديدº وهكذا يستمر في سلسلة لا تنتهي من التعذيب.

أخيراً، وقبل أربع وعشرين ساعة من تنفيذ الحكم يتم إخطار المتهم بالحكم الصادر بحقه، وكانت الأحكام على أنواع ثلاثة:

الأول: البراءة: وهو حكم نادراً ما حكمت به محاكم التفتيش، وعندها يخرج المتهم بريئاً، لكنه يعيش بقية حياته معاقاً محطماً بسبب التعذيب الذي تعرض له، وعندما يخرج يجد أن أمواله قد صودرت، ويعيش منبوذاًº لأن الآخرين يخافون التعامل معه، أو التحدث إليهº خوفاً من أن يكون مراقباً من محاكم التفتيش، فتلصق بهم نفس التهم التي ألصقت به.

ثانياً: الجلد: وقد كان المتهم يساق إلى مكان عام عارياً تماماً وينفذ فيه الجلد، وغالباً ما كان يموت تحت وطأة الجلد، فإن نفذ وكتبت له الحياة يعيش كوضع المحكوم بالبراءة من حيث الإعاقة ونبذ المجتمع له.

ثالثاً: الإعدام: وهو الحكم الأكثر صدوراً عن محاكم التفتيشº ويتم الإعدام حرقاً وسط ساحة المدينة.

وفي بعض المراحل صارت المحاكم تصدر أحكاماً بالسجن، وبسبب ازدحام السجون صارت تطلق سراح بعضهم وتعدم آخرين من دون أي محاكمات، وفي بعض الحالات تصدر أحكاماً بارتداء المتهم لباساً معيناً طوال حياته، مع إلزام الناس بسبه كلما سار في الشارع أو خرج من بيته، وفي هذه الأحكام كما قلنا لا يُستثنى أحد بسبب العمر، فهناك وثائق تشير إلى جلد طفلة عمرها أحد عشر عاماً مئتي جلدة، وجلد شيخ في التسعين من عمره ثلاثمائة جلدة، وحتى الموتى كانوا يخضعون للمحاكمة فيتم نبش قبورهم(7).

 

ثبات المسلمين رغم ما نالهم:

كل هذه المحاكم والأساليب لم تنجح في إجبار المسلمين على ترك دينهم كما تريد الكنيسة التي أدركت مدى عمق الإيمان بالعقيدة الإسلامية في نفوس (الموريسكيين) فقررت إخراجهم من إسبانيا، فأصدر مجلس الدولة بالإجماع في (3011608م) قراراً بطرد جميع (الموريسكيين) من إسبانيا، ولم يحل شهر أكتوبر عام (1609م) حتى عمَّت موانئ المملكة وبلنسية من لقنت جنوباً إلى بني عروس شمالاً حركة كبيرة، فرحل بين (91606م) إلى (11610م) نحو (120) ألف مسلم من موانيء لقنت ودانية والجابية ورصافة وبلنسية وبني عروس وغيرها.

وفي (51611م) صدر قرار إجرامي للقضاء على المتخلفين من المسلمين في بلنسية، يقضي بإعطاء جائزة ستين ليرة لكل من يأتي بمسلم حي، وله الحق في استعباده، وثلاثين ليرة لمن يأتي برأس مسلم قتل، وقد بلغ عدد من طُرِد من إسبانيا في الحقبة بين سنتي (1609 1614م) نحو (327. 000) ألف شخص، مات منهم (65. 000) ألف غرقاً في البحر، أو قتلوا في الطرقات، أوضحية المرض، والجوع، والفاقة، وقد استطاع (32. 000) ألف شخص من المطرودين العودة إلى ديارهم في الأندلس، بينما بقي بعضهم متستراً في بلاده بعد الطرد العام لهم، وقد استمر الوجود الإسلامي بشكل سري ومحدود في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

وهكذا حكمت محاكم التفتيش في غرناطة سنة (1726م) على ما لا يقل عن (1800) شخص، بتهمة اتباع الدين الإسلامي، وفي (951728م)، احتفلت غرناطة ب(أوتوداف) ضخم، حيث حكمت محاكم التفتيش على 64 غرناطياً بتهمة الانتماء للإسلام، وفي (10101728)، حكمت محكمة غرناطة مرة أخرى على ثمانية وعشرين شخصاً بتهمة الانتماء إلى الإسلام، وتابعت محاكم غرناطة القبض على المتهمين بالإسلام إلى أن طلبت بلدية المدينة من الملك سنة (1729م) طرد كل الموريسكيين حتى تبقى المملكة نقية من الدم الفاسد.

وفي سنة (1769م) تلقى ديوان التفتيش معلومات عن وجود مسجد سري في مدينة قرطاجنة مقاطعة مرسي، فتم إلقاء القبض على أكثر من مائة (مورسكي) حوكموا وأعدم معظمهم علناً(8).

 

تعذيب النصارى أيضاً:

إننا مهما أسهبنا في استعراض محاكم التفتيش فإننا لن نلم إلا بجزء يسير جداً من صفحاتها السوداء الوحشية، ولن نستطيع استعراض إلا جزء يسير جداً من جرائمها التي طالت مسلمي إسبانيا، وقد بلغ الرعب الذي سببته تلك المحاكم حداً لا يوصف بين سكان إسبانيا، فقد كان جرٌّ أيِّ إنسان إلى محاكم التفتيش عملية سهلة، وقد يكون الاتهام مجرد إشاعة، أو يذهب الإنسان بنفسه ليعترف رعباً، أو دليلاً على حسن نيته، بلفظ تفوه به عرضاً ودون أن يعني له شيئاً، ويخشى أن يكون قد سمعه أحد، وفتح الباب على مصراعيه أمام الضغائن الشخصية، كمن يطمع في زوجة جاره، فيشي به، والمالك الذي يريد أن يهرب من أجر عامله يشي به، والتاجر الذي يخشى من منافسة زميل له يشي به، حتى الأطفال في أثناء لعبهم مع بعضهم بعضاً كانوا معرضين للاتهام، كأن يذهب طفل ويشي بطفل آخر متهماً إيّاه أنه قال كذا وكذا في أثناء اللعب، فيلقى القبض على الطفل المتهم ويحاكم، وغالباً يموتº لأنه لا يتحمل أهوال التحقيق والتعذيب والسجن... وهكذا صار الطريق واسعاً وعريضاً لكل من يريد أن يتخلص من أي إنسان، وأيٌّ تهمة صالحة لأن تدفع بمسلم سابق إلى أعماق السجونº سواء أكان هذا المسلم السابق رجلاً أم طفلاً أم شيخاً مسناً.

ومن الإنصاف أن نذكر أن ضحايا التفتيش لم يكونوا فقط من المسلمين السابقين، بل كانوا من المسيحيين أيضاً، فقد انتهجت الكنيسة السلوك الإرهابي عينه تجاه بعض المسيحيين عن طريق محاكم التفتيش التي أوكلت إليها مهمة فرض آرائها على الناس باسم الدين والبطش بجميع من يتجرأ على المعارضة والانتقاد، فنصبت المزيد من المشانق، وأعدمت عدداً من النصارى المعارضين لسياساتها القمعية عن طريق حرقهم بالنار، ويقدر بعض المؤرخين الغربيين عدد الضحايا المسيحيين ممن جرت عملية إعدامهم من قبل محاكم التفتيش (300. 000) ألف شخص، أُحرق منهم (32000) ألفاً أحياء، وقد كان من بينهم العالم الطبيعي المعروف (برونو) الذي نقمت عليه الكنيسة نتيجة آرائه المتشددة التي منها قوله بتعدد العوالم وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعالم الطبيعي الشهير(غاليليو) الذي نفذ به القتلº لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس(9).

 

ماذا نريد؟

بعد الذي عرضناه عن محاكم التفتيش نطرح السؤال التالي: لماذا نعود إلى محاكم التفتيش ونستعرضها هكذا؟ هل لنتباكى على مآس مضت أم لنستذكر أحزاناً انقضت.

الإجابة نستشفها مما فعله ويفعله الصهاينة بسبب ما زعموه من محارق الهولوكوست، وما ادَّعوه من حرق النازية لآلاف اليهود في المحارق، فما زالت الصهيونية تضع الغرب بشكل خاص، والعالم بشكل عام أمام تلك المحارق التي كانت أحد تبريراتها لاحتلال فلسطين، بينما ما زال العالم يجهل الكثير عن محاكم التفتيش التي ذهب ضحيتها آلاف وآلاف المسلمين، وإذا كانت محارق النازية قد استمرت أعواماً، فقتل وإحراق وتعذيب المسلمين عبر محاكم التفتيش استمر مئات من الأعوام، وفي الوقت الذي تفتح فيه دول الغرب النصراني أرشيفها، ووثائقها للصهيونيةº لتؤلف منه ما تدَّعي أنه وثائق عن محارق اليهود في عهدالنازية، مازال الفاتيكان والكنائس ترفض فتح أرشيفها وكشفه أمام المسلمين وغير المسلمينº كي لا تظهر وثائق جديدة عن فظائع محاكم التفتيش.

إن المسلمين بحاجة الآن لدراسة متمعنة لتاريخ محاكم التفتيش وفظائعها وضحاياها من المسلمين، وأن تُعتمد وثائق أرشيف الفاتيكان والكنائس الكاثوليكية في إسبانيا وغيرها من الدول النصرانية لوضع تاريخ حقيقي لتلك المحاكم، وإبراز هذا التاريخ للعالم، مع مقارنة موضوعية بين التعسف الكنسي والجرائم التي ارتكبت ضد المسلمين باسم المسيحية، وبين التسامح الإسلامي وكيف عاش المسيحيون بأمان وسلام في الدولة الإسلامية بحماية الإسلام الحنيف، مع ملاحظة أن معظم ما كُتب عن محاكم التفتيش حتى الآن يعتمد على رؤية نصرانية من قِبَلِ مستشرقين ومؤرخين غير مسلمينº وبما تسمح به السلطات النصرانية.

 

--------------------------------------------------

الهوامش:

1 - وول سميث تاريخ أوروبا في العصور الوسطى دار الحقائق بيروت 1980م.

2 - جريدة الجماهير: 222001م حلب.

3 - الدكتور طاهر أحمد مكي مسلم إسباني أمام محاكم التفتيش مجلة الدوحة قطر 1981م.

4 - وائل علي حسين محاكم التفتيش والمسؤولية الغربية مجلة الراية العدد 186 بيروت 1982م.

5 - نفس المصدر.

6 - عبدالرحمن حمادي نحو منهج جديد لإعادة كتابة التاريخ العربي ندوة إعادة كتابة التاريخ العربي الرباط 1991م مجلة الوحدة عدد خاص عن الندوة الرباط 1991م.

7 - طاهر أحمد مكي مصدر سبق ذكره.

8 - وائل علي حسين مصدر سبق ذكره.

9 - وول سميث ويلاحظ أن تركيز المؤرخين النصارى على عدد المسيحيين الذين كانوا ضحية لمحاكم التفتيش يأتي من باب تقليل أعداد الضحايا من المسلمين والإيحاء بأن المسيحيين كانوا هم الضحايا الأكثر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply