بسم الله الرحمن الرحيم
(اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب في سبيلك، فبعزتك لا تدخلني النار).
قلت: ويرحم الله عبداً قال آمينا.
هذا ما أورده الأستاذ النواوي في مقدمة كتابه (رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي).
كم كان مؤثراً في نفسي ذلك الدعاء، وكم استوقفتني تلك الكلمات، فالدعاء توفيق من الله الذي تتم بنعمته الصالحات، يا رب لا تعذب لساناً يخبر عنك...
ولا يداً تكتب في سبيلك..
وإن من بين الأيادي التي كتبت في سبيل الله أحد الأفراد القلائل من الدعاة الذين باعوا نفوسهم لله ولم يسترخصوها لغير دين الله - عز وجل -، ذلك الداعية الذي صنف كتاب (الإسلام بين العلماء والحكام) ثم كان مصيره عليه رحمة الله مصير القلة الذين كان موضوع كتابه عنهم حيث كان معجباً بموقفهم وقد عمل بما علم، وما ذكره نظرياً عاشه عملياً فهنيئاً لمن شرح صدره للإسلام.
فقد كتب عليه رحمة الله عن محنة كثير من العلماء العاملين وبين مواقفهم من الحكام عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وجعفر الصادق، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، والعزبن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ولقد هممت بوضع ملخص لذلك الكتاب في بضع صفحات ولكني وجدت أن الملخص يخل بالموضوع فلا بد لمن أراد أن يعرف الحقيقة بعين اليقين، لا بد له من الرجوع إلى الكتاب فالخلاصة لا تغني عن الأصل.
وأحببت إذ فاتني ذلك في البيان - أي ذكر الملخص - ألا أدع الفرصة تفوتني لأتحدث عن بعض المواقف التي ذكرها - رحمه الله تعالى -وأضيف إليها ما شاء الله لي أن أضيفه من ذلك.
ومن بين الذين كتب عن محنتهم ومواقفهم من الحكام، الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث، الذي نذر حياته لجمع حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وتمييز صحيحه من ضعيفه، وطاف البلاد الإسلامية لهذا الغرض.
كانت محنة الإمام البخاري على يد أمير خراسان (خالد بن أحمد الذهلي) الذي طلب منه وهو في بلده بخارى أن يحضر إليه ليسمع أولاده منه، فأبى أن يذهب، وقال: في بيتي يؤتى العلم.
وأراد الأمير أن ينفر الناس عن السماع منه فلم يستجيبوا لذلك، ثم أمر بنفيه من بلده إلى (خرتنك) وهناك مرض ومات على أثر ذلك في ليلة عيد الفطر، - رحمه الله تعالى -.
ولكن الخير لا ينقطع من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب المروءة والنخوة لم ينتهوا في هذه الأمة إلى يوم القيامة بحول الله وقوته.
فعندما وصل خبر محنة البخاري إلى بغداد تضجر الناس واهتزت ضمائرهم وغضبوا لما نزل بالعالم الورع التقي الزاهد، وبقي الأمر في نفس الموفق بن المتوكل أخي الخليفة المعتمد، يتحين الفرصة المناسبة للانتقام لأمير المؤمنين في الحديث من ذلك الظالم.
ولما دخل موسم الحج وصل أمير خراسان خالد بن أحمد الذهلي إلى بغداد وما إن بلغ الموفق خبر وصوله حتى أمر باعتقاله مخفوراً ثم طرح في السجن حتى مات.
وأما سلطان العلماء العز بن عبد السلام - رحمه الله تعالى -فله مواقف سجلها تاريخ الإسلام ولا تزال موضع فخر واعتزاز لكل من شهد لله بالوحدانية ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة والرسالة.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فلم تكن محنته بأيسر من غيرها وما جرى له من محن وابتلاءات يطول الحديث عنها، وقد سارت بذكره الركبان - رحمه الله تعالى -، وما وجدت عالماً من العلماء المنصفين يكتب عن المجددين إلا وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يكتب أحد عن الأعلام إلا وكتب عنه - رحمه الله -، وقد أفردت في سيرته مصنفات عظيمة، ولا حاجة بنا إلى ذكر شيء من سيرته أو محنته في هذا المقال، ولكني أحيل على بعض ما كتبه عنه العلماء مثل: سير أعلام النبلاء للذهبي، والبيطار في كتابه (حياة شيخ الإسلام) والندوي.. والمودودي، وابن حجر..
وغيرهم كثير.
هذا ما ذكره مصنف كتاب (الإسلام بين العلماء والحكام) - رحمه الله تعالى - رحمة واسعة.
وأضيف إلى تلك السير محنة الإمام النووي - رحمه الله تعالى -وخلاصتها أن الظاهر بيبرس أراد أن يجمع المال من الناس لصد خطر التتار الزاحف على بلاد الشام، وكان يحتاج إلى المال والعتاد لمقابلة الغزاة وصدهم، وأخذ السلطان فتوى العلماء بتأييد عمله فكتبوا له وأفتوه بما أراد ما عدا الإمام النووي بقي متمسكاً برأيه ممتنعاً عن فتواه بهذا الأمر، وقد كان كثير النصح للسلطان، ولكن السلطان رد النصيحة في هذا الموضوع أي بجمع المال، فالخطر الداهم شديد وفساد التتار وتخريبهم لبغداد وغيرها لم يكن خافياً عليهم، وعندما وجده مصراً على عدم فتواه استدعاه، وهنا كان جواب النووي، ورده على السلطان عنيفاً وقال له: (أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بند قدار وليس لك مال ثم مَنَّ الله عليك وجعلك ملكاً وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائة جارية لكل جارية حق من الحلي فإن أنفقت ذلك كله وبقيت مماليك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن، دون الحلي أفتيتك بأخذ المال من الرعية).
فغضب الظاهر من جواب النووي وقال له: اخرج من بلدي -أي دمشق - فخرج إلى بلده نوى بحوران التي هي مسقط رأسه، فقال الفقهاء: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا.
وممن يقتدى به فأعده إلى دمشق، فرسم برجوعه، ولكن الشيخ امتنع، وقال: والله لا أدخلها والظاهر بها فمات الظاهر بعد شهر.
ومنذ بضعة عشر عاماً كان للشيخ محمد حسين الذهبي - رحمه الله تعالى -موقفاً شبيهاً بهذه المواقف، من حيث الرجولة والصدع بكلمة الحق وقد كلفه ذلك الموقف حياته، وأمثال الذهبي الذين قدموا أرواحهم في سبيل الله كثر نسأل الله أن يجعل أعمالهم خالصة لوجهه الكريم، ولكن لم تكن الشعوب التي شهدت موقف الذهبي وغيره في عصرنا، لم تكن مواقفها هي مواقف الشعوب التي عاصرت محنة النووي والعز بن عبد السلام وابن تيمية.
فلم تهتز ضمائرهم لإهانة هؤلاء العلماء وإيذائهم مثلما اهتزت ضمائر أولئك الناس في عهد النووي وغيره.
هذه أمثلة من تاريخنا الإسلامي العريق، (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَو أَلقَى السَّمعَ وهُوَ شَهِيدٌ).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد