الدولة العثمانية (22) : سليم الثاني (974- 982هـ) [2]


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عاشراً: قلج علي واستعداداته الحربية:

اهتم قلج علي بتسليح البحارة وتدريبهم على الأسلحة النارية الحديثة، وقد لفت هذا النشاط البحري أنظار كل المقيمين الأجانب وازدادت مكانة قلج علي حتى أن البابا نصح فيليب الثاني ملك أسبانيا أن يسعى لإغرائه وذلك بمنحه راتباً من عشرة آلاف وإقطاعية من مملكة نابلس أو غيرها من ممتلكات العرش الأسباني ويتوارثها نسله من بعده، مع لقب كومت أو ماركيز أو دوق، كما شمل المشروع أيضاً منح امتيازات مماثلة لاثنين من مساعديه.

 

وكان البابا يدرك أن مثل هذه المحاولة إن لم تنجح فإنها على الأقل ستثير شكوك السلطان على قلج علي وهو الشخص الوحيد القادر على دعم أمور السلطنة ولكن هذه المحاولة فشلت وكانت النتيجة أنها أثارت غضب قلج علي بدلاً من أن تقربه، وأنه لا يمكن شراء أمانة المسلم المجاهد إذ أن وجوده في خدمة الدولة، إنما كان يعني أنه وهب نفسه لسبيل الله، وهذا ما سارت عليه الدولة في سياستها في جميع فتوحاتها، ولعل ذلك كان سبباً مباشراً في سرعة الفتح ونجاحه، في كل الأقاليم والميادين التي طرقتها الدولة وكان العثماني في أي موقع يخدم الدولة بكل إخلاص وما خدمته تلك إلا خدمة للإسلام.

 

الحادي عشر: السلطان سليم يصدر أوامره لإعادة تونس:

أصدر السلطان سليم الثاني أوامره إلى وزيره سنان باشا وقبودانه قلج علي بالاستعداد للتوجه إلى تونس، لفتحها نهائياً، وإعادة نفوذ الدولة العثمانية إليها، كما صدرت نفس الأوامر والتوجيهات لبقية الأقاليم بتحضير الجنود والذخيرة، والمؤن والجنود مع مائتين وثلاث وثمانين سفينة مختلفة الأحجام، كما أكد على المكلفين بالخدمة في الأناضولي والروم يلي بالاشتراك في السفر بحراً، كما أحضر المجدفين اللازمين للأسطول، وأنذر من لا يحضر من المجدفين بالفصل من مناصبهم على أن لا يسند إليهم في المستقبل أي عمل، وبينما كما الأسطول يتأهب، أخذ حيدر باشا الحاكم العثماني في تونس والذي انسحب للقيروان في حشد المجاهدين من الأهالي الذي التفوا حوله.

 

أبحر الأسطول العثماني بقيادة سنان باشا وقلج علي في 23 محرم 982هـ/14 مايو 1574م، فخرج من المضائق ونشر أشرعته في البحر الأبيض، فقاموا بضرب ساحل كالابريا، مسينا، واستطاع العثمانيون أن يستولوا على سفينة مسيحية ومن هناك قطعوا عرض البحر في خمسة أيام، في هذا الوقت وصل الحاكم العثماني في تونس حيدر باشا، كما وصلت قوة من الجزائريين بقيادة رمضان باشا، وقوة طرابلس بقيادة مصطفى باشا، كما وصل ثمة متطوعين من مصر.

 

بدأ القتال في ربيع سنة 981هـ/1574م، ونجح العثمانيون في الاسيتلاء على حلق الواد، بعد أن حوصروا حصاراً محكماً، وقامت قوات أخرى بمحاصرة مدينة تونس، ففر الأسبان الموجودون فيها ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسين إلى البستيون قلعة بناها الأسبان بجانب تونس - التي بالغ الأسبان في تحصينها وجعلوه من أمنع الحصون في الشمال الأفريقي.

 

توجه العثمانيون بعد تجمع قواتهم إلى حصار البستيون، وضيق العثمانيون الخناق على أهلها من كل ناحية، وباشر الوزير سنان الحرب بنفسه كواحد من الجند حتى أنه أمر بعمل متراس يشرف منه على قتال من في البستيون، كما كان ينقل الحجارة والتراب على ظهره مثل الجنود، فعرفه أحد أمراء الجنود فقال له: ما هذا أيها الوزير؟ نحن إلى رأيك أحوج منا إلى جسمك، فقال له سنان: لا تحرمني من الثواب.

 

وشدد سنان باشا في حصاره على البستيون حتى استطاع فتحه.

لجأ الحفصيون إلى صقلية حيث ظلوا يوالون الدسائس والمؤمرات والتضرعات لملوك أسبانيا سعياً لاسترداد ملكهم، واتخذهم الأسبان آلات طيعة تخدم بها مآربهم السياسية حسبما تمليه الظروف عليهم، وقضى سقوط تونس على الآمال الأسبانية في أفريقيا وضعفت سيطرتها تدريجياً حتى اقتصرت على بعض الموانئ مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير، وتبدد حلم الأسبان نحو إقامة دولة أسبانية في شمال أفريقيا وضاع بين الرمال.

 

الثاني عشر: السلطان سليم الثاني يرسل حملة كبرى إلى اليمن:

اضطربت الأحوال في اليمن مع ظهور الزعيم الزيدي المطهر الذي كاتب أهل اليمن ودعاهم للخروج عن طاعة السلطان العثماني فاجتمعت القبائل لدى المطهر الذي دخل صنعاء بعد أن ألقى بالعثمانيين هزيمة ساحقة، وشعرت الحكومة العثمانية بخطورة الموقف وقررت إرسال حملة كبرى إلى اليمن بقيادة سنان باشا، وقد اهتم السلطان العثماني سليم الثاني اهتماماً كبيراً بإرسال تلك الحملة، لأن اليمن كان يمثل جزءاً هاماً من استراتيجية العثمانيين في البحر الأحمر وهي غلق هذا البحر أمام الخطر البرتغالي، علاوة على ذلك يكون درعاً قوياً للحجاز وقاعدة للتقدم في المحيط الهندي.

 

وصل الوزير العثماني سنان باشا إلى مصر تنفيذاً لأوامر السلطان، وهناك اجتمعت لديه الجنود في كافة الأنحاء، حتى أنه لم يبق في مصر إلا المشايخ والضعفاء.

 

تحركت الحملة ووصلت إلى ينبع واستقبله هناك قاضي القضاة في مكة وعند وصوله إلى مكة المكرمة استقبله أهلها ودخلت الجيوش العثمانية معه، وكأن جنود مصر انتقلت إلى مكة بالإضافة إلى جنود الشام وحلب وفرمان ومرعش، وضبط سنان باشا الجنود، وأجرى الصدقات وأحسن على العلماء والفقهاء، ومكث عدة أيام في مكة وغادرها إلى جازان، وعندما اقترب منها، هرب حاكمها من قبل الإمام الزيدي المطهر، وأقام سنان باشا في جازان، فأقبلت عليه العربان يطلبون الطاعة وكان منهم أهل صبيا فأكرمهم سنان باشا وخلع عليهم وكساهم، كما أقبلت عليه وفود عربان اليمن وبذلوا الطاعة طالبين الأمان.

 

أسرع سنان باشا إلى تعز، بعد أن ضبط جازان إذ بلغه أن الوالي العثماني في تعز ومن معه من الجنود في ضيق من أمرهم بسبب قطع عرب الجبال عليهم الميرة، وحصل عليهم المجاعة، فقطع الوزير سنان باشا المسافة في غاية السرعة، ونزل خارج تعز، وانتشر جنوده في جبالها، ولما شاهد الزيديون كثافة ذلك الجيش، اعتصموا بأحد الجبال المسمى الأغبر.

 

قام سنان باشا وجزء من جيشه بمتابعة الزيود في جبل الأغبر، وتمكنوا منه عند ذلك خرج الزيود من مخابئهم لمواجهة العثمانيين، فانهزم الزيود وولوا هاربين فأنعم سنان باشا على جميع الجنود العثمانيين.

 

الثالث عشر: الاستيلاء على عدن:

جهز سنان باشا حملتان وذلك للاستيلاء على عدن، الأولى عن طريق البحر بقيادة خير الدين القبطان المعروف بقورت أوغلي، وأخو سنان باشا، والثانية عن طريق البر بقيادة الأمير حامي وبرفقته عدد من الفرسان.

 

وكان حاكم عدن قاسم بن شويع من قبل الإمام الزيدي المطهر، قد أظهر شعار الزيدية، فكرهه أهالي عدن لأنهم شافعيون ثابتون على الكتاب والسنة، وبنى مدرسة باسم مطهر يدرس فيها بعض من مذهب الزيدية، كما استدعى البرتغاليين الذين أرسلوا سفينة وعليها عشرين جندياً، فأطلعهم قاسم إلى القلعة وأراهم ما فيها من العدد والآلات وأعطاهم المدافع ليدفعوا عن عدن من جهة البحر ويكون البر للزيدية وأشياعهم، إلا أن خير الدين القبطان سبق إلى عدن ورأى من وسط البحر عشرين شراعاً للمسيحيين قاصدة عدن، ولما تحقق خير الدين من ذلك توجه بسفنه إليهم فولوا هاربين، وتتبعهم خير الدين حتى اطمأن على ذلك.

 

لما عاد خير الدين إلى الساحل وأنزل مدافعه فوجهها نحو قلعة عدن منتظراً القوة البرية لتتم محاصرة عدن ففاجأهم الزيود، وإذا بالأمير ماحي قد وصل وأحاطوا بعدن من كل جوانب، فهجموا عليها هجمة واحدة ودخلوا عليها من كل جانب، وأعطى خير الدين الأمان للأهالي الذين جاءوا بقاسم بن شويع وولده وذويه، وإذا بشخص منهم تقدم ليقبل يد خير الدين، فضربه بخنجر في بطنه وجرح خير الدين على أثرها، وتقدم الأمير ماحي، وقطع رأس بن شويع لاتهامه بهذه الخيانة وأراد قتل ولده وجميع أتباعه فمنعه الأمير خير الدين عند ذلك، فرح لذلك الفتح الوزير سنان باشا وشاركه في ذلك الجنود وزينوا زبيد وتعز وسائر الممالك السلطانية في اليمن، ثم عين الوزير سنان باشا ابن أخته الأمير حسين، وأرسل معه مائتين من الجنود، ورقى جميع الجنود الذين فتحوا عدن.

 

الرابع عشر: دخول صنعاء:

فرغ سنان باشا في هذا الوقت من جنوب اليمن، فاتجه نحو ذمار وأمر بسحب المدافع لحصار صنعاء، فجهز المطهر نفسه للانسحاب منها، ونقل ما فيها من الخزائن، وتقدم سنان باشا نحو صنعاء بعد أن وعد أهلها بالأمان فاطمأنت قلوبهم واختاروا عدداً منهم لمقابلته، فأكرمهم سنان ودخل صنعاء بعد ذلك إلا أنه لم يستقر فيها بل نهض بجيوشه الجرارة لحرب كوكبان وثلاº لأن سنان باشا رأى أنه لن يتمكن من السيطرة على اليمن بأكمله إلا بالقضاء على مقاومة المطهر وأتباعه فأخذ يوالي حشد قواته وتبعه في ذلك الوالي العثماني ودامت الحرب سجالاً ما يقرب من عامين، انتهت بموت الإمام الزيدي المطهر في مدينة ثلا سنة 980هـ/1573م، وقد أتاح موت المطهر للعثمانيين مزيداً من السيطرة وبسط النفوذ حتى تمكن الوالي العثماني حسن باشا من الاستيلاء على ثلا ومدع وعفار وذي مرمر والشرفين الأعلى والأسفل وصعدة مركز الإمامة الزيدية فقضى بذلك على حركة المقاومة اليمنية فترة من الوقت، واستطاع حسن باشا أن يأسر الإمام الحسن بن داود الذي استحوذ على الإمامة بعد وفاة المطهر.

 

لقد تحولت سياسة الدولة العثمانية بعد معركة ليبانتو 979هـ/1571م إلى أن تكون الأولوية للمحافظة على الأماكن المقدسة الإسلامية أولاً ثم البحر الأحمر والخليج العربي كحزام أمني حول هذه الأماكن وتطلب ذلك منها أسطولاً قادراً على أن يقاوم البرتغاليين.

 

استطاعت الدولة العثمانية أن تبني درعاً قوياً، حمى الأماكن المقدسة الإسلامية من الهجمات المسيحية، ومع ذلك الدرع فقد احتفظ السلطان بحرس عثماني خاص في مكة المكرمة والمدينة المنورة وينبع، كما أقامت الدولة العثمانية محطات حراسة بجوار آبار المياه على طول الطريق بين مصر وسوريا ومكة المكرمة لحماية القوافل، كما قررت الدولة أن يكون الوالي في جدة ممثلاً للباب العالي في الحجاز، عرف الحجاز في العصر العثماني بثنائية السلطة، وقررت الدولة أن تقسم حصيلة الرسوم الجمركية التي تجمع من السفن في ميناء جدة بين الوالي العثماني وشريف مكة المكرمة.

 

الخامس عشر: دفاع عن السلطان سليم ووفاته - رحمه الله -:

وصف المستشرق \"كارل بروكلمان\" السلطان سليم الثاني بأنه اشتهر باسم السكير، وبارتكابه المعاصي والذنوب والكبائر، وبمصاحبته صحبة السوء والفسق والعصيان، وتأثر بهذه التهم الدكتور عبد العزيز الشناوي - رحمه الله -، ورد الدكتور جمال عبد الهادي على هذه الاتهامات فقال:

 

1- شهادة الكافر على المسلم مردودة، فكيف يسمح الكتاب من أبناء المسلمين لأنفسهم بترديد مثل هذه الشهادات والافتراءات على الحكام المسلمين بدون دليل، ألم يتعلموا في مدرسة الإسلام قال - تعالى -: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) (سور النور: آية: 12) ويقول - سبحانه -: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (سورة الحجر، آية: 6).

 

2- إن المستشرقين ومن سار على نهجهم، دأبوا على تصوير الحكام المسلمين المجاهدين بصورة السكارى الذين لا يتورعون عن ارتكاب المحرمات، بل دأبوا على النيل من دين الله، والأنبياء والرسل - عليهم السلام - فكيف نأخذ عنهم مع علمنا بأنهم غير أمناء.

 

ثم ذكر أهم أعمال السلطان سليم الثاني التي تدل على نفي التهم التي ألصقت به وتقدم بنصيحة إلى أساتذة التاريخ الذين لا يتحرون الصدق والأمانة العلمية فقال: \"نصيحة إلى أولئك الذين لا يتحرون الحقيقة، ويرمون الناس في دينهم وخلقهم دون بينة أو دليل، أن يتبينوا وليضعوا في الاعتبار أن القذف جريمة، وعليه تقام الحدود، آمل أن ينتبه أساتذة التاريخ ويتورعوا على إيراد أي شبهة أو تهمة تتصل بأي شخص دون دليل أو بينة.

 

وليضعوا في الاعتبار أن الله يزن الحسنات، ويزن السيئات، ولا يزن السيئات فقط دون الحسنات، والمؤرخ يجب أن يستشعر هذا، ويدرك أن الكلمة أمانة وهي شهادة أمام الله - عز وجل -، ومن هنا يلزمه التأكد من الخير قبل أن يورده في كتابه).

 

إن الدارس لتاريخ الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم الثاني يدرك مدى القوة والهيمنة التي كانت عليها الدولة \"طلب نائب البندقية الصليبية في\" استانبول\" في أعقاب معركة ليبانتو، وتحطم الأسطول العثماني مقابلة الصدر الأعظم، \"محمد صوقلو باشا\" ليسبر غوره ويقف على اتجاهات السياسة العليا للدولة العثمانية تجاه البندقية، وقد بادره الصدر الأعظم قائلاً: إنك جئت بلا شك تتحسس شجاعتنا وترى أين هي، ولكن هناك فرق كبير بين خسارتكم وخسارتنا، إن استيلاءنا على جزيرة \"قبرص\" كان بمثابة ذراع قمنا بكسره وبنزه، وبإيقاعكم الهزيمة بأسطولنا لم تفعلوا شيئاً أكثر من حلق لحانا، وإن اللحية لتنمو بسرعة وكثافة تفوقان السرعة والكثافة اللتين تنبت بهما في الوجه لأول مرة. وقد قرن الصدر الاعظم قوله بالعمل الفوري الجاد.

 

وإنصافاً للسلطان سليم الثاني فإنه قد أبدى تحمساً شديداً لإعادة بناء الأسطول العثماني، فقد تبرع بسخاء من ماله الخاص لهذا الغرض، كما تنازل عن جزء من حدائق القصر السلطاني لتبني فيه أحواض السفن للتعجيل بإنشاء وحدات بحرية جديدة، واستطاع الأسطول الجديد أن يعاود جولاته في البحر المتوسط.

 

إن هذا الموقف يؤكد أن الإدارة القوية ليست مجرد حماس، وإنما لا بد وأن يقترن ذلك بالعمل الجاد الذي أثمر إعادة بناء الأسطول في فترة وجيزة، وفي هذا دليل أيضاً على الرخاء الذي كانت تعيش فيه الأمة، ما فرضت الضرائب وما صودرت أموال، ولا قالوا موتوا جوعاً لأنه صوت لا يعلو على صوت المعركة، لقد أنفق السلطان سليم من ماله ومال أسرته لأنه تعلم من مدرسة الإسلام، قال - تعالى -: (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (سورة الأنفال: آية: 60).

 

وفاته:

إن مؤرخي الغرب ذكروا أن سبب وفاة السلطان سليم الثاني الإفراط الشديد في تناول الخمر، إلا أن المؤرخين المسلمين يذكرون أن سبب وفاته انزلاق قدمه في الحمام فسقط سقطة عظيمة مرض منها أيام، ثم توفي عام 982هـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply