هذا وإن في التاريخ لعبرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

التأثير الأخلاقي والاجتماعي للإسلام على المجتمع في روسيا القيصرية  

منذ سنوات الوحي الأولى كان للقرآن الكريم دور كبير في صياغة وتشكيل شخصية الفرد المسلم، ليس ذلك فحسب بل كان له الدور الأكبر في تشكيل وتكوين وصياغة قيم المجتمع الذي يدين بالإسلام.

وعلى مدى الزمان كانت القيم الإسلامية مثار إعجاب وتقدير من كل من تعامل مع المسلمين، سواء كدول أو أفراد أو جماعات. تدلنا العديد من الشواهد التاريخية على أن الدولة القيصيرية الروسية قد تأثرث إيجاباً بالقيم الإسلامية، وأنها استفادت من القوانين الإسلامية في بسط الأمن والعدل في أراضيها.

كتب الرحالة الروسي أفاناسي نيكيتين الذي جاب الشرق واختلط بالمسلمين ورأى عدلهم، وتواضعهم، وعدم جورهم على الضعيف والمسكين، الأمر الذي أثار شجونه، ونكأ جراحه وحرك مكامن الأسى في نفسه، فكتب في مذكراته مخاطباً بلده روسيا، والذي كان شديد الحب له: \"بلادي الحبيبة روسيا، حفظك الرب وباركك، ما أجملك وما أروعك، لا أرى في هذه الدنيا جنة تعدلك روعة وجمالاً، ولكن مع الأسف يا حبيبتي فالعدل غائب عنك يا بلادي، كل أملي أن تحل فيك البركة والعدل\"!

ومن الجدير بالذكر أنه كتب ذلك باللغة التركية القديمة حتى لا يطلع عليه أحد فيفشي ما كتبه للأمراء الروس الظلمة.

العالم الروسي المعاصر ليف جوميليف، الذي توفي قبل 3 أعوام والذي يعد من العلماء المرموقين في روسيا، كان قد تخصص في دراسة العادات والقيم الاجتماعية للقبيلة الذهبية للتتار التي حكمت الأراضي الروسية لأربعة قرون بيّن في العديد من كتاباته أن الشعب الروسي ودولته لاحقاًً تأثرا كثيراً بالمفاهيم الإسلامية السائدة لدى التتار، وأنه لولا ذلك التفاعل مع المسلمين لم تكن الدولة الروسية القيصرية لتتشكل. وكان أهم المتأثرين بالقيم الإسلامية القيصر إيفان الروسي الثالث (1440 - 1505) الذي يعتبر من المجددين في التاريخ الروسي، ولكن فيم كانت تجديداته؟

يحدثنا التاريخ أن هذا القيصر اهتم بإصلاح أمور القضاء في بلاده، وأكثر ما ركز عليه في إصلاحاته.. المساواة أمام القضاء، فقوانين عام 1497م التي سنّها تضع الجميع أمام القاضي في مرتبة واحدة، ولا تعطي أي امتيازات للنبلاء أو الأمراء، الجميع أمام القاضي سواء، الأمر الذي لم يكن نظير له في أي دولة أوروبية في ذلك الزمن، سوى الدولة العثمانية المزدهرة في تلك الفترة. ومن الجدير بالذكر أن هذه الحقيقة الإسلامية المستقرة في الوجدان والأذهان، وهي أن الجميع أمام القضاء سواء، لم تعرفها أوروبا إلا بعد الثورة الفرنسية فقط.

كان من قوانين القيصر إيفان الثالث التي استعارها من نظام القضاء العثماني في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، أن يسمح للعامة بحضور المحاكمات، وكي يشجع الناس على التوجه في فض نزاعاتهم إلى القضاءº فقد خفض الرسوم القضائية خمسة أمثال، كما تم استعارة العديد من الأنظمة العثمانية الخاصة بالقضاء مثل نظام الكتابة والتوثيق، وإلزامية قرارات القضاة.. إلخ والقوانين التي سنّها إيفان الثالث والتي سعت إلى تكريس القضية الرئيسة في النظام الإسلامي العثماني، وهي قضية ترسيخ وتحقيق العدل في المجتمع، ولم يكتف بذلك فحسب، بل طبق أيضاً نظام العقوبات الإسلامية، هذا النظام الكفيل بتحقيق العدل، بما فيه من تطبيق للحدود وعقوبة الإعدام للقاتل وقاطع الطريق، وغير ذلك من العقوبات الجسدية، طبقها رغم ما يقال حول شدتها، لأنه رأى فيها صلاح بلده ومجتمعه، وبعد نصف قرن من ذلك علق على ذلك إيفان بيريسفيتوف كاتب القصر الروسي، قائلاً: \"من غير هذه الشدة، لا يمكن إقامة العدل في المملكة\". ويمكننا من غير مبالغة أن نقول إنه جرت محاولة إصلاح روسيا القيصيرية وإعادة تشكيلها حسب النموذج الإسلامي العثماني.

إصلاحات القيصر إيفان الثالث، تقارن في التاريخ بإصلاحات القيصر بيتر الأول الذي يعتبره الروس رائد النهضة الحديثة، ومؤسس الإمبراطورية الروسية. في كلتا الحالتين كان نموذج الإصلاح المقلََّد هو دولة خارجية قوية، مع الفارق الكبير بين الاثنينº حيث دعا بيتر الأول في إصلاحاته إلى تقليد أوروبا في كل شيء، وأصدر أوامر بإلزام الشعب ارتداء الملابس الأوروبية وشرب الخمر والتدخين، بينما كان من بين ما أصدره القيصر إيفان الثالث من أوامر ضمن إصلاحاته منع شرب النبيذ..الأمر الذي لم يدع مجالاًً للشك بأن نموذجه المختار لم يكن أوروبياً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply