بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحقيقة أنني ترددت كثيراً في هذا البحث وذلك لسببين ، أولهما أن الأمر يحتاج إلى نفس عميق وبحث متأن حتى لا تزل القدم بعد ثبوتها ، والسبب الآخر أن هذه المسألة قد وقع فيها التخبط الكثير من الناس ، وأحياناً من الخواص فضلاً عن العوام ، فاستعنت بالله على خوض غمار هذه المسألة ونسأل الله الهداية والرشاد
وقد صنفت المصنفات في لعن يزيد بن معاوية والتبريء منه ، فقد صنف القاضي أبو يعلى كتاباً بيّن فيه من يستحق اللعن وذكر منهم يزيد بن معاوية ، وألف ابن الجوزي كتاباً سمّاه " الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد " ، وقد اتهم الذهبي - رحمه الله- يزيد بن معاوية فقال : " كان ناصبياً، فظاً ، غليظاً ، جلفاً ، يتناول المسكر ويفعل المنكر "[1] ، وكذلك الحال بالنسبة لابن كثير – رحمه الله – حينما قال : " وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم ، والحلم ، والفصاحة ، والشعر ، والشجاعة ، وحسن الرأي في الملك ، وكان ذا جمال وحسن معاشرة ، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات ، وترك الصلوات في بعض أوقاتها ، وإماتتها في غالب الأوقات "[2]
قلت : الذي يجوز لعن يزيد وأمثاله ، يحتاج إلى شيئين يثبت بهما أنه كان من الفاسقين الظالمين الذين تباح لعنتهم ، وأنه مات مصرّاً على ذلك ، والثاني : أن لعنة المعيّن من هؤلاء جائزة .
وسوف نورد فيما يلي أهم الشبهات التي تعلق بها من استدل على لعن يزيد والرد عليها:
أولا: استدلوا بجواز لعن يزيد على أنه ظالم ، فباعتباره داخلاً في قوله تعالى {ألا لعنة الله على الظالمين}
الرد على هذه الشبهة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " هذه آية عامة كآيات الوعيد ، بمنـزلة قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً }وهذا يقتضي أن هذا الذنب سبب للعن والعذاب ، لكن قد يرتفع موجبه لمعارض راجح ، إما توبة ، وإما حسنات ماحية ، وإما مصائب مكفّرة ، وإما شفاعة شفيع مطاع ، ومنها رحمة أرحم الراحمين "[3]ا.هـ .
فمن أين يعلم أن يزيد لم يتب من هذا ولم يستغفر الله منه ؟ أو لم تكن له حسنات ماحية للسيئات ؟ أو لم يبتلى بمصائب وبلاء من الدنيا تكفر عنه ؟ وأن الله لا يغفر له ذلك مع قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إن لعن الموصوف لا يستلزم إصابة كل واحد من أفراده إلا إذا وجدت الشروط ، وارتفعت الموانع ، وليس الأمر كذلك "[4]
ثانياً: استدلوا بلعنه بأنه كان سبباً في قتل الحسين – رضي الله عنه -:
الرد على هذه الشبهة:
الصواب أنه لم يكن ليزيد بن معاوية يد في قتل الحسين – رضي الله عنه - ، وهذا ليس دفاعاً عن شخص يزيد لكنه قول الحقيقة ، فقد أرسل يزيد عبيد الله بن زياد ليمنع وصول الحسين إلى الكوفة ، ولم يأمر بقتله ، بل الحسين نَفسُه كان حسن الظن بيزيد حتى قال دعوني أذهب إلى يزيد فأضع يدي في يده . قال ابن الصلاح – رحمه الله - : " لم يصح عندنا أنه أمر بقتله – أي الحسين رضي الله عنه - ، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله – كرمه الله – إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك "[5]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " إن يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق ، ولما بلغ يزيد قتل الحسين أظهر التوجع على ذلك وظهر البكاء في داره ، ولم يَسبِ لهم حريماً بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتى ردّهم إلى بلادهم ، أما الروايات التي في كتب الشيعة أنه أُهين نساء آل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنهن أُخذن إلى الشام مَسبيَّات ، وأُهِنّ هناك هذا كله كلام باطل ، بل كان بنو أمية يعظِّمون بني هاشم ، ولذلك لماّ تزوج الحجاج بن يوسف فاطمة بنت عبد الله بن جعفر لم يقبل عبد الملك بن مروان هذا الأمر ، وأمر الحجاج أن يعتزلها وأن يطلقها ، فهم كانوا يعظّمون بني هاشم ، بل لم تُسبَ هاشميّة قط " ا.هـ .[6]
قال ابن كثير – رحمه الله -: "وليس كل ذلك الجيش كان راضياً بما وقع من قتله – أي قتل الحسين – بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم ولا كرهه ، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه ، كما أوصاه أبوه ، وكما صرح هو به مخبراً عن نفسه بذلك ، وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو"ا.هـ.[7]
وقال الغزالي – رحمه الله -: "فإن قيل هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به ؟ قلنا : هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت ، فضلاً عن اللعنة ، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق" [8]
قلت : ولو سلّمنا أنه قتل الحسين ، أو أمر بقتله وأنه سُرَّ بقتله ، فإن هذا الفعل لم يكن باستحلال منه، لكن بتأويل باطل ، وذلك فسق لا محالة وليس كفراً ، فكيف إذا لم يثبت أنه قتل الحسين ولم يثبت سروره بقتله من وجه صحيح، بل حُكِي عنه خلاف ذلك.
قال الغزالي : "فإن قيل : فهل يجوز أن يقال : قاتل الحسين لعنه الله ؟ أو الآمر بقتله لعنه الله ؟ قلنا : الصواب أن يقال : قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله ، لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة ، لأن وحشياً قتل حمزة عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعاً ولا يجوز أن يلعن، والقتل كبيرة ولا تنتهي به إلى رتبة الكفر، فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر، وليس في السكوت خطر، فهو أولى"[9]
ثالثا: استدلوا بلعنه بما صنعه جيش يزيد بأهل المدينة، وأنه أباح المدينة ثلاثاً حيث استدلوا بحديث "من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله من صرفاً ولا عدلاً"
الرد على هذه الشبهة:
إن الذين خرجوا على يزيد بن معاوية من أهل المدينة كانوا قد بايعوه بالخلافة ، وقد حذّر النبي – صلى الله عليه وسلم – من أن يبايع الرجل الرجل ثم يخالف إليه ويقاتله ، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر"[10]، وإن الخروج على الإمام لا يأتي بخير ، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة التي تحذّر من الإقدام على مثل هذه الأمور ، لذلك قال الفضيل بن عياض– رحمه الله -: "لو أنّ لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في إمام ، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد" [11]، وهذا الذي استقرت عليه عقيدة أهل السنة والجماعة، ومعركة الحرة تعتبر فتنة عظيمة، والفتنة يكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير ، فالفتنة كما قال شيخ الإسلام "إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت فأما إذا أقبلت فإنها تُزين ، ويُظن أن فيها خيراً"[12].
وسبب خروج أهل المدينة على يزيد ما يلي:
- غلبة الظن بأن بالخروج تحصل المصلحة المطلوبة، وترجع الشورى إلى حياة المسلمين، ويتولى المسلمين أفضلهم.
- عدم علم البعض منهم بالنصوص النبوية الخاصة بالنهي عن الخروج على الأئمة.
قال القاضي عياض بشأن خروج الحسين وأهل الحرة وابن الأشعث وغيرهم من السلف: "على أن الخلاف وهو جواز الخروج أو عدمه كان أولاً ، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم"[13]، ومن المعلوم أن أهل الحرّة متأولون، والمتأول المخطئ مغفور له بالكتاب والسنة، لأنهم لا يريدون إلا الخير لأمتهم، فقد قال العلماء: "إنه لم تكن خارجة خير من أصحاب الجماجم والحرّة"[14]، وأهل الحرة ليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدراً عند الله، وأحسن نية من غيرهم[15].
فخروج أهل الحرة كان بتأويل، ويزيد إنما يقاتلهم لأنه يرى أنه الإمام، وأن من أراد أن يفرق جمع المسلمين فواجب مقاتلته وقتله، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح[16].وكان علي – رضي الله عنه – يقول: "لو أن رجلاً ممّن بايع أبا بكر خلعه لقاتلناه، ولو أن رجلاً ممّن بايع عمر خلعه لقاتلناه"[17].
أما إباحة المدينة ثلاثاً لجند يزيد يعبثون بها يقتلون الرجال ويسبون الذرية وينتهكون الأعراض، فهذه كلها أكاذيب وروايات لا تصح، فلا يوجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي أُلِّفت في الفتن خاصّة، كالفتن لنعيم بن حمّاد أو الفتن لأبي عمرو الداني أي إشارة لوقوع شيء من انتهاك الأعراض، وكذلك لا يوجد في أهم المصدرين التاريخيين المهمين عن تلك الفترة ( الطبري والبلاذري ) أي إشارة لوقوع شيء من ذلك، وحتى تاريخ خليفة على دقته واختصاره لم يذكر شيئاً بهذه الصدد، وكذلك إن أهم كتاب للطبقات وهو طبقات ابن سعد لم يشر إلى شيء من ذلك في طبقاته.
نعم قد ثبت أن يزيد قاتل أهل المدينة، فقد سأل مهنّا بن يحيى الشامي الإمام أحمد عن يزيد فقال: "هو فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها" وإسنادها صحيح[18]، أما القول بأنه استباحها فإنه يحتاج إلى إثبات، و إلا فالأمر مجرد دعوى، لذلك ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك، من أمثال الدكتور نبيه عاقل، والدكتور العرينان، والدكتور العقيلي [19]. قال الدكتور حمد العرينان بشأن إيراد الطبري لهذه الرواية في تاريخه "ذكر أسماء الرواة متخلياً عن مسئولية ما رواه، محملاً إيانا مسئولية إصدار الحكم، يقول الطبري في مقدمة تاريخه[20]: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً من الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت من قبلنا وإنما أُتي من بعض ناقليه إلينا[21] "ا.هـ.
قلت: ولا يصح في إباحة المدينة شيء، وسوف نورد فيما يلي هذه الروايات التي حصرها الدكتور عبد العزيز نور – جزاه الله خيراً – في كتابه المفيد" أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري – والتي نقلها من كتب التاريخ المعتمدة التي عنيت بهذه الوقعة[22].
نقل ابن سعد خبر الحرة عن الواقدي[23]. ونقل البلاذري عن هشام الكلبي عن أبي مخنف نصاً واحداً [24]، وعن الواقدي ثلاثة نصوص [25]. ونقل الطبري عن هشام الكلبي أربعة عشر مرة [26]، وهشام الكلبي الشيعي ينقل أحياناً من مصدر شيعي آخر وهو أبو مخنف حيث نقل عنه في خمسة مواضع[27] .ونقل الطبري عن أبي مخنف مباشرة مرة واحدة [28]. وعن الواقدي مرتين [29]. واعتمد أبو العرب على الواقدي فقط، فقد نقل عنه أربعاً وعشرين مرة[30]. ونقل الذهبي نصين عن الواقدي[31]. وذكرها البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر عن يعقوب بن سفيان الفسوي[32]. وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض هو المدائني المتوفى سنة 225هـ [33] ويعتبر ابن الجوزي أول من أورد هذا الخبر في تاريخه[34].
قلت: ممّا سبق بيانه يتضح أن الاعتماد في نقل هذه الروايات تكمن في الواقدي، وهشام الكلبي، وأبي مخنف، بالإضافة إلى رواية البيهقي التي من طريق عبد الله بن جعفر.
أما الروايات التي جاءت من طريق الواقدي فهي تالفة ، فالواقدي قال عنه ابن معين: "ليس بشيء" [35]. وقال البخاري: "سكتوا عنه ، تركه أحمد وابن نمير"[36]. وقال أبو حاتم و النسائي: "متروك الحديث" [37].وقال أبو زرعة :"ضعيف"[38].
أما الروايات التي من طريق أبي مخنف، فقد قال عنه ابن معين: "ليس بثقة"، وقال أبو حاتم: "متروك الحديث"[39]. وقال النسائي: "إخباري ضعيف"[40]. وقال ابن عدي: "حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين، ولا يبعد أن يتناولهم، وهو شيعي محترق، صاحب أخبارهم، وإنما وصفته لأستغني عن ذكر حديثه، فإني لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره، وإنما له من الأخبار المكروهة الذي لا أستحب ذكره" [41]. وأورده الذهبي في "ديوان الضعفاء" و "المغني في الضعفاء" [42]. وقال الحافظ: "إخباري تالف"[43].
مناقشة الروايات التي جاء فيها هتك الأعراض:
أما الروايات التي جاء فيها هتك الأعراض، وهي التي أخرجها ابن الجوزي من طريق المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد الحرة من غير زوج ، والرواية الأخرى التي أخرجها البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب بن سفيان: قال: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام. فزعم المغيرة أنه افتض ألف عذراء، فالروايتان لا تصحان للعلل التالية:
- أما رواية المدائني فقد قال الشيباني: "ذكر ابن الجوزي حين نقل الخبر أنه نقله من كتاب الحرّة للمدائني[44]، وهنا يبرز سؤال ملح: وهو لماذا الطبري والبلاذري، وخليفة وابن سعد وغيرهم، لم يوردوا هذا الخبر في كتبهم، وهم قد نقلوا عن المدائني في كثير من المواضع من تآليفهم؟ قد يكون هذا الخبر أُقحم في تآليف المدائني، وخاصة أن كتب المدائني منتشرة في بلاد العراق، وفيها نسبة لا يستهان بها من الرافضة، وقد كانت لهم دول سيطرت على بلاد العراق، وبلاد الشام، ومصر في آن واحد، وذلك في القرن الرابع الهجري، أي قبل ولادة ابن الجوزي رحمه الله، ثم إن كتب المدائني ينقل منها وجادة بدون إسناد" ا.هـ. [45]
- في إسناد البيهقي عبد الله بن جعفر ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ( 2/400) وقال: "قال الخطيب سمعت اللالكائي ذكره وضعفه. وسألت البرقاني عنه فقال: ضعّفوه لأنه روى التاريخ عن يعقوب أنكروا ذلك، وقالوا: إنما حديث يعقوب بالكتاب قديماً فمتى سمع منه؟ "ا.هـ.
- راوي الخبر هو: المغيرة بن مقسم، من الطبقة التي عاصرت صغار التابعين، ولم يكتب لهم سماع من الصحابة، وتوفي سنة 136هـ، فهو لم يشهد الحادثة فروايته للخبر مرسلة.
- كذلك المغيرة بن مقسم مدلس، ذكره ابن حجر في الطبقة الثالثة من المدلسين الذين لا يحتج بهم إلا إذا صرحوا بالسماع.
- الراوي عن المغيرة هو عبد الحميد بن قرط، اختلط قبل موته، ولا نعلم متى نقل الخبر هل هو قبل الاختلاط أم بعد الاختلاط[46]، فالدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
- الرواية السالفة روِيَت بصيغة التضعيف، والتشكيك بمدى مصداقيتها: "زعم المغيرة – راوي الخبر – أنه افتض فيها ألف عذراء.
- أمّا الرواية الأخرى التي جاء فيها وقوع الاغتصاب، هي ما ذكرها ابن الجوزي أن محمد بن ناصر ساق بإسناده عن المدائني عن أبي عبد الرحمن القرشي عن خالد الكندي عن عمّته أم الهيثم بنت يزيد قالت: "رأيت امرأة من قريش تطوف، فعرض لها أسود فعانقته وقبّلته، فقلت: يا أمة الله أتفعلين بهذا الأسود؟ فقالت: هو ابني وقع عليّ أبوه يوم الحرة [47]" ا.هـ.
- خالد الكندي وعمّته لم أعثر لهما على ترجمة.
- أمّا الرواية التي ذكرها ابن حجر في الإصابة [48]أن الزبير بن بكار قال: حدثني عمّي قال: كان ابن مطيع من رجال قريش شجاعة ونجدة، وجلداً فلما انهزم أهل الحرة وقتل ابن حنظلة وفرّ ابن مطيع ونجا، توارى في بيت امرأة، فلما هجم أهل الشام على المدينة في بيوتهم ونهبوهم، دخل رجل من أهل الشام دار المرأة التي توارى فيه ابن مطيع ، فرأى المرأة فأعجبته فواثبها، فامتنعت منه، فصرعها، فاطلع ابن مطيع على ذلك فخلّصها منه وقتله"
- وهذه الرواية منقطعة، فرواوي القصة هو مصعب الزبيري المتوفى سنة 236هـ، والحرة كانت في سنة 63هـ، فيكون بينه وبين الحرة زمن طويل ومفاوز بعيدة.
قلت: فلم نجد لهم رواية ثابتة جاءت من طريق صحيح لإثبات إباحة المدينة، بالرغم من أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية [49]، والحافظ ابن حجر[50] - رحمهما الله – قد أقراّ بوقوع الاغتصاب، ومع ذلك لم يوردا مصادرهم التي استقيا منها معلوماتهما تلك، ولا يمكننا التعويل على قول هذين الإمامين دون ذكر الإسناد ، فمن أراد أن يحتج بأي خبر كان فلا بد من ذكر إسناده ، وهو ما أكده شيخ الإسلام ابن تيميّه حينما قال في المنهاج: "لا بد من ذكر ( الإسناد ) أولاً، فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده في جُرزَةِ [51]بقل لم يقبل منه، فكيف يحتج به في مسائل الأصول.
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد