مسيرة الخط العربي في ظل الخلافة الإسلامية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

اعتنى الإسلام منذ ظهوره بالكتابة وقد سجل القرآن الكريم هذا الاعتناء في آية الدين بأمر صريح. {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}. وأطول آية في القرآن تبين بعد ذلك صفة الكاتب والكتابة والمملي والشهداء على الكتابة وكتابة الكبير والصغير من الديون. وفي السيرة النبوية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل فداء الأسرى القرشيين الكاتبين في بدر أن يعلم الأسير منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة. كما أنه - صلى الله عليه وسلم - قد خصص جماعة من صحابته لكتابة ما ينزل عليه من القرآن الكريم وغيرهم. وكان هناك كتاب للرسائل وكتاب للمعاملات المدنية وكتاب لأموال الصدقات وكتاب للمغانم وكتاب يكتبون بين يديه - عليه السلام - ما يعرض من أموره وشؤونه. فقد أصبحت الكتابة أمراً ضرورياً تعتمد عليه الدولة الناشئة في كثير من أمورها السياسية والإدارية والدينية. هذا يوضح مقدار الصعوبة التي صادفها مفهوم التدوين الكتابي في شبه جزيرة العرب في القرن السابع للميلاد. فلم يتم نسخ المصاحف إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلام وبعد مشاورة الصحابة. في حين ظل الحديث معتمداً على الرواية الشفوية حتى دون في نهاية القرن الأول الهجري حين بدأ الموقف في التحرك التدريجي ثم أخذت الكتابة تتحول إلى ظاهرة حضارية ويأتي الناس يؤمنون أن الكتاب قيد العلم كما كان يردد الشعبي ومن ثم أصبح مستساغاً أن ينصحهم عبد الله بن المبارك بعد ذلك بقوله: فخذ العلم بحلم ثم قيده بقيد. والحق أن يد الإصلاح والتحسين والتجميل امتدت إلى الخط العربي، فوضع أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو بتكليف من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ووضع الضوابط الشكلية وحسنها الخليل بن أحمد الفراهيدي من بعده. كما وضع يحيى بن عمير ونصر بن عاصم. تلميذا أبي الأسود ـ النقط في زمن عبد الملك بن مروان منعاً من التصحيف وتطور الحرف الجميل بسرعة وأخذ أشكالاً فنية بل أساليب بعضها قاعدي ابتدأ مزيجاً من الكوفي والحجازي. والآخر تزيين صرف استهلها الخط الكوفي الذي كان أحد خطين عرفهما العرب القدماء. أما الخط الآخر فهو خط التحرير. وقد ذكره صاحب الفهرست وأسماء الخط المدني كما أطلق عليه فيما بعد الدارج وأقدم وثيقة كتبت بهذا لخط هي البردية المحفوظة في مجموعة الأرشيدوق رينر والمؤرخة سنة 22هـ، وهي إيصال مكتوب باللغتين اليونانية والعربية بشراء أغنام. لقد كفلت الليونة والاستدارة اللتين تمتع بهما خط التحرير -أن يكون خط العقود والمراسلات وانتشر الخط الكوفي بجلاله وكثرة زواياه انتشاراً واسعاً لأسباب منها مميزات الخط نفسه وأهمها اضطلاع العرب في العصر الوسيط بالعلوم الرياضية والهندسية التي أفادهما من المدنية الإغريقية القديمة لكن سرعان ما انسحب الخط الكوفي وقنع بسكنى المساجد والمحاريب وزخرفة المصاحف وذلك بعد ظهور خط النسخ على يد ابن مقلة الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها وعنه انتشر الخط في مشارق الأرض ومغاربها. وابن مقلة هو أبو علي بن الحسين بن عبدالله بن مقلة وزير وشاعر وخطاط ولد في بغداد سنة 272هـ ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء، المقتدر والقاهر والراضي. وفي وزارته الأخيرة استوزر معه ابن رائق الذي أصبح له النفوذ في كل شيء. ولم يكن للخليفة معه كلمة تطاع كما يقول ابن كثير وقد رضي ابن رائق والناس بابن مقلة أستاذاً في فنه ولكنهم لم يقبلوه وزيراً فقطعت يده ولسانه وحبس فكان كثير البكاء على يده يقول: كتبت بها القرآن مرتين وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تقطع كما أيدي اللصوص وكان ينشد:

ليس بعد اليمين لذة عيش  *** يا حياتي بانت يميني فبيني

فصدق ظـنه عـلى نفـسه إذ ظل في محبسه حتى قتل صـبراً سـنة 328هـ. ولابن مقلة رسالتان في الخط هما (ميزان الخط لابن مقلة) وهي بمكتبة العطارين بتونس والأخرى رسالة الوزير ابن مقلة في علم الخط والقلم وهي منسوخة في دار الكتب المصرية وإن يكن ابن مقلة هو الفنان المبتكر فإن ابن البواب -علي بن هلال أبو الحسن ألمت وفي سنة 422هـ. هو الفنان الذي هذب طريقة ابن مقلة ونقحها وكساها حلاوة وبهجة فقد أكمل ابن البواب وتمم قلم التوقيع وأحكم قلم النسخ وحرر قلم الذهب وأتقنه ووشى الحواشي وزينه وبرع في الثلث وخفيفه وأبدع في الرقاع والريحان وميز قلم المتن والمصاحف وكتب بالكوفي فأنسى القرن السالف.

 

الأقلام الستة:

ثم أخذت مسيرة الخط العربي تتكامل بظهور الخط تلو الخط فكانت الأقلام الستة الرئيسية (الكوفي ـ النسخ ـ الثلث ـ الديواني ـ الفارسي ـ الرقعة) وتفرعت أنواع عديدة من هذه الخطوط حتى إن خط النسخ وحده تفرع عنه أكثر من خمسة عشر خطاً منه (المحقق ـ المرسل ـ المقور ـ الديباج ـ الحلية المقترن ـ الطومار ـ المسلسل) ولكن لا تعني كثرة الأسماء وجود اختلافات كبيرة بين الأنواع. فقد يؤدي الاختلاف في رسم حرف واحد أو الاختلاف في سن القلم إلي إطلاق تسمية جديدة. فالفرق بين خط طومار وخط الثلثين الأول من سن قلمه 34 شعرة من ذنب البرذون (ثمانية مليمترات تقريباً) أما الآخر فسن قلمه 16 شعرة (خمسة مليمترات) وما يزال الفنانون من الخطاطين يبتكرون من أشكال الخط وأساليبه جيداً كل يوم.

 

الخط العربي في البلاد المسلمة:

انطلق الخط العربي الذي كتب به القرآن غازياً ومعلماً مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة والبعيدة. فكتب الفرس لغتهم بالحروف العربية وابتكروا الخط الفارس بيد مير علي التبريزي المتوفي سنة 919هـ كما حوروا الخط الكوفي فأصبحت المدات فيه أكثر وضوحاً، أما الترك فحولوا خط الرقاع وابتكروا الهمايوني (الديواني) بيد الأستاذ إبراهيم منيف كما قعد ممتاز مصطفى بك قواعد الرقعة سنة 1270هـ وقد ورد في مصور الخط العربي أن للسلطان عبد الحميد الأول شرحاً بقلمه بأعلى رسالة كتبها ووزيره يوسف باشا، والرسالة والشرح بخط الرقعة وفي حياة ممتاز مصطفى ـ المولود عام 1225هـ في اسطنبول ـ أنه كان يقوم بتعليم الخط للسلطان عبد الحميد وفي الأندلس رأينا صوراً أخرى من الحفاوة التي لقيها الخط العربي بعيداً عن موطنه فقد اهتم الحكام بالخط العربي وتعلموا ونسخوا به الكتب لا سيما المصاحف كما اهتم سواد الناس بالمخطوطات ذات الخط الميل ويذكر المقري قصة عن الحضرمي قال أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح، ففرحت به أشد الفرح فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إلى المنادي بالزيادة علي إلى أن بلغ فوق حده فقلت له يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى أبلغه إلى ما يساوي قال: فأراني شخصاً عليه لباس رياسة فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حدها. فقال لست بفقيه ولا أدري ما فيه ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بين أعيان البلد وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply