السنن الإلهية في تفسير الأحداث التاريخية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

سادساً: أمثلة ونماذج على السنن الربانية:

أ- أن التوحيد والعقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة هي سبيل نهوض المجتمعات: وهي الطريقة المثلى لجمع الشمل ووحدة الصف، والتاريخ شاهد على ذلك، فإن الدول التي قامت على السنة هي التي جمعت شمل المسلمين، وقام بها الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعزّ بها الإسلام قديماً وحديثاً، منذ عهد الخلفاء الراشدين، والدولة الأموية، والدولة العباسية في أول عهدها، والدولة العثمانية في أول عهدها، وعهد صلاح الدين الأيوبي، والدولة الإسلامية في الأندلس، وكذا الدولة السعودية حين ناصر الإمام محمد بن سعود الإمام محمد بن عبد الوهاب على محاربة الشرك والبدع والدعوة إلى التوحيد(1)، وعلى العكس من ذلك فإن الدول التي قامت على غير السنة والعقيدة الصحيحة قد أشاعت الفوضى والفرقة والبدع والمحدثات، وفرقت الشمل، وعطلت الجهاد، وأشاعت المنكرات، وصارت على يدها الهزائم، وانتشر في عهدها الجهل بالدين، واندثرت السنة مثل دول: الرافضة، والباطنية، والقرامطة، والصوفية، وكذلك بني بوية، والفاطميين (العبيديين) التي مزقت المسلمين، وأشاعت بينهم البدع والشركيات، ولما صار للمعتزلة وزارة ومراكز في عهد بعض الخلفاء العباسيين ظهرت عندهم البدع الكلامية، وحوصر أئمة أهل السنة وافتتن الناس - بل العلماء- في دينهم، ولا غرابة في ذلك كله، فإن قضية التوحيد والعقيدة الصحيحة في ميزان الله - عز وجل - وهو الميزان الحق- هي قضية القضايا، ومحور الارتكاز في الوجود البشري كله، من أجلها أرسل الله - تعالى - الرسل وأنزل الكتب، (2) قال - تعالى -: \"ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (36) \"{النحل: 36}.

 

ب - سوء عاقبة المكذبين: فالذين يكذبون بآيات الله ورسله، ويظلمون ويعيثون في الأرض فساداً، وعدهم الله بسوء العاقبة (3)، قال الله - تعالى -: \" وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما 37 وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا 38 وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا 39 \"{الفرقان: 37 - 39}.

وعاد - قوم هود - أصابتهم الريح العقيم حتى صاروا موتى \"كأنهم أعجاز نخل خاوية، لأنهم: جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد 59 \"{هود: 59}.

وثمود - قوم صالح - أرسل الله عليهم الصيحة بسبب عصيانهم أمر نبيهم وعقرهم الناقة خلافاً لأمره \" فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب 65 \"{هود: 65}.

فما جرى من تحقق هذه السنة في الماضي سيجري مثله في الحاضر والمستقبل، لكل من أعرض عن ذكر الله وشرعه، ومن فضل الله على الناس وعدله فيهم أن يبقي نعمته المادية والمعنوية عليهم، كالأمن والاستقرار والرزق الوفير والصحة، إلى غير ذلك، إذا هم شكروه على ما أعطاهم، ولم يتجبروا ويتسلطوا، ولكنه يسلبهم إياه بعدله وقدرته، إذا هم عصوا وجحدوا وبدلوا نعمة الله كفراً(4)، قال - تعالى -: \"وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد 7 \"{إبراهيم: 7}، وقال - تعالى -: \" ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم 53 \" {الأنفال: 53}.

وهذا بيان لسنة عظيمة من سنن الله - تعالى - في نظام الاجتماع البشري، يُعلم منها بطلان تلك الشبهات التي كانت غالبة على عقول الناس من جميع الأمم، ولا يزال جماهير الناس يخدعون بها، وهي ما يتعلق بسعادة الأمم وقوتها، وغلبتها وسلطانها، بسعة الثروة وكثرتها.. وكان من غرورهم بها أن كانوا يظنون أن من أوتيها لا تسلب منه، وأنه كما فضله الله على غيره بابتدائها، كذلك يفضله بدوامها: \" وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين 35\" {سبأ: 35}. ثم ظهر أقوام آخرون يرون أن الله - تعالى - يحابي بعض الأمم والشعوب على بعضها بنسبها، وفضل بعض أجدادها على غيرهم، بنبوة أو مادونها، فيؤتيهم الملك والسيادة والسعادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إلى ملكهم، ولاسيما إذا كانوا من آبائهم، كما كان شأن بني إسرائيل في غرورهم، وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، فبين الله - تعالى - لكل قوم خطأهم بهذه الآية، وبما سبق في معناها(5)، وذلك في قوله - تعالى -: \"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 11 \"{الرعد: 11} وأثبت لهم أن نعم الله - تعالى - على الأقوام والأمم منوطة، ابتداء ودواماً، بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها، كانت تلك النعم ثابتة بثباتها، ولم يكن الله - عز وجل - لينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال غيّر الله عندئذ ما بأنفسهم، وسلب نعمته منهم.

إذن فكل ما يحل بالمجتمعات من تقدم أو تأخر، وما يحل بالحضارات من تقدم أو نكوص، كل ذلك يقع وفق قواعد وسنن، ذكر القرآن منها الكثير، من أجل أن يعتبر المسلمون، فلا يسقطون في الفخ الذي سقط فيه من سبقهم، لذا كان أكثر من ثلث القرآن يتحدث عن الأمم وما جرى لها، وهو يكرر دائماً(6): \"فاعتبروا يا أولي الأبصار 2 \"{الحشر: 2}.

 

ج- ومن سنن الله الخالدة أن البشر يتحملون مسؤوليتهم، في الرقي والانحطاط، وفي اتباع الخير أو الشر: حيث إنهم قد منحوا قدراً من الحرية والاختيار، ومع ذلك جاءهم رسل الله بالهدى من عنده، فإذا وجدت الأسباب فإن النتائج تتبعها \"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 11\" {الرعد: 11}، فالتغير يبدأ من النفس، سواء بالارتقاء والارتفاع إلى أعلى، أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل، وهذه السنة الربانية في تغيير النفس والمجتمع مهمة جداً، وتحتاج إلى دراسة نفسية واجتماعية، وهي تعطي للباحث التاريخي مشكاة يستضيء بها في دراساته وأبحاثه، وهي سنة اجتماعية يستفيد منها المربي والمصلح، ويلاحظ أن في الآية ترتيباً إذ إن حدوث التغيير من الله مترتب على حدوثه من البشر، سواء في السلب أو الإيجاب، وهذا الترتيب يضع البشر أمام مسؤوليتهم في أحداث التاريخ، وهذه السنة لا يمكن إدراكها إدراكاً صحيحاً إلا باتباع المنهج الرباني، لأن هذا المنهج يجعلك تنال خير السنة، وتدرك العلاقة السليمة بين الأحداث التاريخية، ذلك أن خير السنة لا ينال إلا بالهدى، والهدى لا يكون إلا عن طريق الرسل، وما أنزل إليهم من ربهم (7)، قال الله - تعالى -: \" قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 38 \"{البقرة: 38}.

 

د- ومن السنن الربانية: مداولة الأيام بين الناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، وهذا اختبار وامتحان، لكي يتميز الصابرون في المحن والضراء، والشاكرون في النصر والرخاء، ومن أولئك الذين تطغيهم الشهوات أو لا يصبرون على الضراء، قال - تعالى -: \"إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين 140\" {آل عمران: 140}.

 

ه- كما أن من السنن الإلهية أن زوال الأمم يكون بالترف والفساد: فإذا ما تجبرت أمة من الأمم وعلت في الأرض وأصابها البطر والكبرياء، هيأ الله لها أسباب الانهيار والزوال قال الله - تعالى -: \" ألم تر كيف فعل ربك بعاد 6 إرم ذات العماد 7 التي لم يخلق مثلها في البلاد 8 وثمود الذين جابوا الصخر بالواد 9 وفرعون ذي الأوتاد 10 الذين طغوا في البلاد 11 فأكثروا فيها الفساد 12 فصب عليهم ربك سوط عذاب 13 إن ربك لبالمرصاد 14 {الفجر: 6 - 14}، وقال - تعالى -: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا 16\"{الإسراء: 16}، أي أمرناهم الأمر الشرعي من فعل الطاعات وترك المعاصي، فعصوا وفسقوا، فحق عليهم العذاب والتدمير، جزاء فسقهم وعصيانهم، والترف وإن كان كثرة المال والسلطان من أسبابه إلا أنه حالة نفسية ترفض الاستقامة على منهج الله، وليس كل ثراء ترف (8).

كذلك من السنن الربانية أن انتشار المنكرات والمعاصي وعدم إنكارها من أكبر أسباب سقوط الدول، والمتأمل في عوامل انهيار الدول الإسلامية وسقوطها على امتداد التاريخ يتراء أمام عينيه ضعف الجانب الديني وفشوا المنكرات كسبب مشترك في اندثار تلك الدول وزوال تلك الأمم.

 

و- ومن السنن أن هلاك وسقوط الأمم يكون بفشو الظلم، وعدم إقامة العدل: فلقد أمر الله - سبحانه وتعالى- بالعدل وحرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، كما في الحديث القدسي: \"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا\" (9).

فإذا اختلت الموازين، وانعدمت القيم، وتحكم الأقوياء في الضعفاء، ووزع المجتمع إلى سادة وعبيد، وأخذ الأقوياء يتلاعبون بحدود الله على هواهم فقد آذنهم الله بالهلاك، ووقعت القاصمة، قال الله - تعالى -: \" وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين 11\" {الأنبياء: 11}، وقال - تعالى -: \" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد 102 \" {هود: 102}، وقال - تعالى -: \" ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين 31 \"{العنكبوت: 31} وقال - تعالى -: \" وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون 59 \" {القصص: 59}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"إنما هلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها\" (10).

 

ز- ومن السنن الربانية أيضاً أن انهيار الأمم وزوالها يكون بأجل: فقد يرى الناس موجبات العذاب قد حلت بأمة من الأمم ثم لا يرون زوالها بأنفسهم، ومما هو معلوم أن السنن الإلهية قد تستغرق وقتاً طويلاً لكنها لا تتخلف، فعمرها أطول من عمر الأفراد، ولا تقع إلا بأجل محدد لابد من استيفائه (11)، قال الله - تعالى -: \" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون 34 \"{الأعراف: 34}، وقال الله - تعالى -: \" وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم 4 ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون 5 \"{الحجر: 4، 5}، وقال - تعالى -: \" وتلك القرى\" أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا 59 \"{الكهف: 59}، وقال الله - تعالى -: \" ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون 43 \"{المؤمنون: 43}.

 

ح- ومن سنن الله الجارية استحقاق المؤمنين لنصر الله وأن النصر للحق مهما علا الباطل: فقد قضى الله - سبحانه وتعالى- بأنه ينصر أولياءه المؤمنين إذا قاموا بشرط استحقاق النصر، وهو الاستقامة على منهج الله، وتحكيم شريعته واتباع رسله، قال الله - تعالى -: \" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد 51 \"{غافر: 51}، وقال الله - تعالى -: \" ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين 171 إنهم لهم المنصورون 172وإن جندنا لهم الغالبون 173 \"{الصافات: 171، 173}، وقال - تعالى -: \" يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم 7 \"{محمد: 7}، وقال - تعالى -: \" فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين 47 \"{الروم: 47}، وقال الله - تعالى -: \"كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز 21 \" {المجادلة: 21}، ويقول - سبحانه وتعالى-: \" حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين 110\" {يوسف: 110}، وقال - سبحانه - عن نوح - عليه السلام -: \" ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين 77 \"{الأنبياء: 77}، وقال - تعالى - في شأن موسى وهارون: \" ولقد مننا على موسى وهارون 114 ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم 115 ونصرناهم فكانوا هم الغالبين 116 \"{الصافات: 114 - 116}، وعوامل النصر موضحة في قوله - تعالى -: \" يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 45 وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين 46 ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط 47 \"{الأنفال: 45 - 47}.

وهذا النصر يتحقق للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الباغية الكثيرة، قال - عز وجل -: \" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله249 \"{البقرة: 249}، كما أن النصر يتحقق للمؤمنين متى ما استقاموا، قال الله - تعالى -: \" وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا 16 \" {الجن: 16}، وقد فسّر ابن عباس الاستقامة بالطاعة، وقال قتاده: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا، وقال مجاهد: أي طريقة الحق، وكذا قال الضحاك (12)، يقول البغوي في\" معالم التنزيل\": اختلفوا في تأويلها، فقال قوم: لو استقاموا على طريق الحق والإيمان والهدى فكانوا مؤمنين مطيعين(13).

وإن من يتأمل تاريخ الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه حورب وطورد من قبل الكافرين، وجاءه من الأذى ما الله به عليم، ولكن الله - تعالى - نصره في النهاية، وأظهره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، وكذا من يتأمل المعارك التي دارت بين الإسلام والكفار عبر التاريخ الإسلامي الطويل يجد أن النصر والغلبة كانت للمؤمنين الصادقين(14).

 

ط- ومن السنن المهمة معرفة أن الابتلاء للمؤمنين سنة جارية(15): إن الله أعطى عطاء لجميع البشر المؤمن والكافر ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، قال الله - تعالى -: \" كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا 20 \"{الإسراء: 20}، إن العطاء الشامل من أجل الابتلاء سنة عظيمة، قال - تعالى -: \" إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا 2 \" {الإنسان: 2}، وقال الله - تعالى -: \" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا 7 \" {الكهف: 7}، فالابتلاء سنة جارية عظيمة تبين مدى تحقيق الإنسان لمعنى حياته و غاية وجوده(16).

قال - تعالى -: \" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214 \"{البقرة: 214}، ويقول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: \"أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقه ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة\"(17).

فهكذا جرت سنة الله في تمحيص المؤمنين، وإعدادهم لينالوا بصبرهم وثباتهم المنزلة العالية عند الله، وليرفع درجاتهم بما يصيبهم من الأذى، وبما يحصل لهم من الشهادة في سبيل الله، فقد قال الله - تعالى - للمؤمنين بعد موقعة أُحد وهزيمتهم العسكرية فيها: \" إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين 140 وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين 141 \" {آل عمران: 140، 141}، فوقوع الهزيمة في غزوة أُحد كان سببه مخالفة طائفة من المؤمنين لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الرماة، وحب الدنيا من طائفة أخرى (18).

ولكن كان في ذلك فوائد مهمة للجماعة الإسلامية، مثل تربيتهم على الثبات في المحن، ومثل اتخاذ الشهداء، وكذلك تمحيص الأنفس واختبارها، وتعريفها بسرائرها، والابتلاء من سنن الله الملحوظة عبر التاريخ، فما من نبي إلا وقد أوذي وحورب، فمنهم من قتل، ومنهم من ألقي في النار، ومنهم من أخرج من أرضه، وكذلك أتباعهم نالهم من الأذى والقتل والتشريد صنوف، فلما نجحوا في الابتلاء وثبتوا على الحق تنزل عليهم نصر الله، فأبدلهم من بعد خوفهم أمنا، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم الوارثين، وأشفى صدورهم في الدنيا بهزيمة أعدائهم وهلاكهم، فضلاً عما أعده الله لهم من الدرجات العُلى في الجنة (19).

 

ي- ومن أهم السنن الربانية سنة \"التدافع \" أو الصراع بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر: وهي من السنن التي ينبغي على دارس التاريخ ملاحظتها، قال الله - تعالى -: \" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر104 \"{آل عمران: 104}، وقال - تعالى -: \" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله110 \" {آل عمران: 110}، وقال - تعالى -: \" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور 41 \" {الحج: 41}، وأعظم معروف يؤمر به هو إخلاص العبودية لله وإقامة شريعته، وأول منكر ينهى عنه هو عبادة غير الله من الطواغيت والأهواء والشهوات والإعراض عن شريعته وعدم تحكيمها.

وهكذا الأمر والنهي لا يتحقق إلا بجهد بشري، يتقابل فيه الحق مع الباطل، ويكون بينهما الصراع والتدافع، فإذا ثبت أصحاب الحق وصبروا وصابروا تحقق لهم وعد الله بهزيمة الباطل واندحاره، وهذا الصراع لا تنهيه معركة واحدة، ولا حتى مئات المعارك، إنه يتخذ عدة أشكال، ويمتد في مساحات طويلة ومتعددة، تجعل الإنسان يقضي حياته كلها في صراع، إلا أنه قد يهدأ في بعض الجوانب ويشتد في أخرى، وهكذا تمضي الحياة (20).

واستمراره يأتي من كثرة الأعداء، من الداخل والخارج، من النفس والأقارب، والأموال، والأزواج (21)، ومن الشيطان وجنوده، ومن الكفار.

ويأتي استمراره أيضاً من سنة الله في إرادة تركيب الحياة بهذه الصورة، غير أن الإنسان مع هذا قد وهب من القدرات والإمكانات والقوى ما يستطيع به - مع توفيق الله وهدايته- من السيطرة والانتصار، وإن كان الصراع بين الحق والباطل كما أراد له الخالق - سبحانه - لن ينتهي حتى تنتهي هذه الدنيا، إنه بدأ منذ أن خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له، فأبى الشيطان أن يسجد له.. فاحتال على آدم حتى أوقعه في المعصية.. ولكن تاب إلى الله وقَبل الله توبته، ثم أهبط آدم إلى الأرض، وكذلك الشيطان، ليواصل حركة الصراع والعداوة مع ذريته(22)، قال - تعالى -: \" وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين 36 \" {البقرة: 36}.

ولكن الله - سبحانه - تعالى - لم يكل الإنسان إلى قدراته الذاتية فقط، وإنما زوده بالوحي والهدى الذي يستعين به على تحقيق العبودية لله، والتخلص من كيد الشيطان، الذي يريد صرفه عن هذه العبودية \"قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 38 \"{البقرة: 38}، وقال - تعالى - محذراً بني آدم في غواية الشيطان وفتنته \" يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما 27\" {الأعراف: 27}، وقال الله - تعالى -: \" الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 257 \" {البقرة: 257}، وقال الله - تعالى -: \" بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق 18 \" {الأنبياء: 18}، ويستمر الصراع بين الأنبياء وأتباعهم وبين الشيطان وجنوده، وتنقسم البشرية إلى فريقين اثنين وإلى أمتين اثنتين أمة الحق وأمة الباطل، أتباع الأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده وإلى الحكم بشريعته (23)، وأتباع الشيطان من الزعامات والجماعات الضالة يرفضون ذلك، ويتمسكون بالعادات والتقاليد والأعراف الجاهلية، قال الله - تعالى -: \" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون 50 \" {المائدة: 50}، وقال - تعالى -: \" قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا 70 \"{الأعراف: 70}، \" بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون 22 \"{الزخرف: 22}.

فالتدافع بين الحق والباطل سنة ربانية، ملحوظة من خلال آيات الكتاب الحكيم، ومن خلال الواقع البشري عبر التاريخ (24).

قال - تعالى -: \" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة 48 \"{المائدة: 48} وقال: \" وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون 19 \"{يونس: 19}، وقال - تعالى -: \" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين 118 إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم119 \" {هود: 118، 119}.

إن كثيراً من الفلاسفة قديماً وحديثاً يحلمون بالمدينة الفاضلة، والعالم الذي يسوده السلام، وينتهي منه الصراع، وكل منهم قد تخيل تلك المدينة حسب أفكاره وثقافته، وما وصلت إليه تخيلاته، فحين يراها أفلاطون مدينة الفلاسفة، يراها ماركس مدينة للعمال (البروليتاريا) لكن ذلك لن يكون، كما أراد الفلاسفة ومن نحا نحوهم في هذا العصر من الزعماء والسياسين ممن حرموا نعمة الهداية الربانية، فلم يدركوا أن الصراع والتدافع سنة ربانية، لا سبيل للخلاص من شرورها، ونيل خيرها إلا بتحقيق العبودية الكاملة لله، ويكون الدين كله لله - في الأرض كلها - فإذا كان الدين كله لله في كل الأرض، فإن البشرية حينها تخلص من الشرور ويسودها السلام والأمن، وتاريخ الأمة الإسلامية عندما كان الدين كله لله خير شاهد على ذلك، والصراع أو التدافع الذي يعنيه القرآن ليس هذا الذي يقع بين الناس، من التكالب على أغراض الدنيا وشهواتها التافهة، سواء في المستويات الدنيا بين الأفراد، أو المستويات العليا بين الجماعات والدول والمعسكرات(25).

إن التدافع الذي يعنيه القرآن من خلال هذه السنة هو الذي يكون لخير البشرية، وذلك بتحقيق العبودية لله وحده، وإزالة كل طاغوت يعبد من دون الله، إنه كما قال - تعالى -: \" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله 39 \" {الأنفال: 39}.

فالصراع المحمود هو الذي يطرد الفتنة بكل أشكالها وصورها من الأرض، ويحرر البشرية من عبادة غير الله، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، يقول الله - تعالى -: \" الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا 76 \" {النساء: 76}، فهذا هو التدافع الذي عناه الله - سبحانه وتعالى- بقوله: \" فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين 251 \" {البقرة: 251}، وبقوله - تعالى -: \" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 \"{الحج: 40}، فالله يدفع بأهل الحق أهل الباطل، وقيام المسلمين بهذا الواجب هو الذي ينفي عنهم شرور ذلك الصراع الرخيص، وتركهم له يجلب هذا الصراع، فإنه ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: \"إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم\" (26)، والواقع المعاش دليل لا يحتاج لأكثر من التدبر(27).

والهدف من هذه السنة هو شد العزائم لتحقيق المجتمع المسلم، الذي ينفذ أمر الله وشرعه في الأرض كلها، وفق قاعدة \"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر\"، وهذا الصراع يكون ميداناً للكشف عن مواقف الجماعات البشرية، والتعرف على أصالة المؤمنين، ولتمييز الخبيث من الطيب(28)، كما قال الله - تعالى -: \" ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم 31 \"{محمد: 31}، وكما قال - تعالى -: \" ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم 37 \"{الأنفال: 37}، وقال الله - تعالى -: \" أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون 16 \" {التوبة: 16}.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply