بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
إذا كنا دائماً نتغنَّى بأمجاد السابقين فليست مآثرُهم قصصاً خياليةٌ نُسلي بقراءتها أنفسنا، وليست شخوصُهم دُمَاً مُحنَّطةً نظُنٌّ أنه يكفينا أن نُمعن النظر فيها لتجلوا أحزاننا أو تخفف من مآسينا.
كلا فلابد من القراءة بوعي، ولابد من الجد والحزم، وتعالوا بنا لنصارح أنفسنا ونقارن بين واقعنا وواقعهم، ولنعلم الفرق بين استثمار أوقاتِنا وأوقاتِهم.
وحين المصارحة لابد من القولِ أن فينا من يحسٌّ بالوقت عبئاً على كاهلِه لا يدري بماذا يصرفه، وكم هو مؤلم أن تسمعَ في مجتمع المسلمين من يقول: تعال بنا لنضيع الوقت، وربما خفف العبارة آخرون فقالوا: هيا بنا لنقضي الوقت ومؤداهما واحدٌ إذا كان الاجتماعُ لتزجية الفراغ بما لا ينفع، وأشدٌّ إيلاماً إذا كان الوقتُ يُقضى بما يضرٌّ ولا ينفع.
إن حياة المسلم لا مكان فيها للإضاعة والتفريط، وإن جراحات المسلمين لفتت أنظار الكافرين، فكيف تغيب عن المسلمين فيظلون لا هين لاعبين؟
وإذا أباح الإسلامُ للمسلم الترويح عن النفس ساعةً وساعة فذلك محكوم بضوابط الشرع، والهدف منه تجديدُ النشاط والحفاظُ على النفوس من الكلل والملل، لكن أن تتحول الحياة إلى لهوٍ, ولعب وإضاعة للوقت في معظم الأوقات وتصبحُ الجِّدِّيةُ واستثمارُ الأوقات حدثاً طارئاً وحالة استثنائية في الحياة، فذلك انتكاسٌ في المفاهيم لا يُسأل عنه الإسلام وسيحاسب عليه المسلمون.
وقولوا لي بربكم: من يمضي سحابةَ النهار بالنوم، ويمضي ساعات الليل في السهر بما لا فائدة فيه، وسواء كان على الأرصفة أو غيرها هل استثمر وقته واستفاد من عمره؟ والمصيبةُ أدهى وأعظم إذا كان هذا الصنفُ من شبابِ الأمة وأملِها في المستقبل؟ وإنه لحق على الخيرين أن ينصحوا لإخوانهم الغافلين، وأن يصدقوا ويتلطفوا لهم في القول، فما خاب من كان سلاحُه في الدعوة: الصدق والإخلاص واللين، وإن في هؤلاء الشبابِ من يسمع ويستجيب، وفيهم طيبُ القلبِ حصيفُ العقل، لكنها الغفلة والشرودُ، ودواؤها الكلمةُ الطيبةُ، والموعظةُ بالحسنى، وعدمُ اليأسِ والإعراضِ والصدود؟
وكيف يستثمرُ وقته من يمضي الساعاتِ الطوال في مشاهدة الأفلامِ الهابطة، أو سماع الكلمات والألحان الغرامية الساقطة، أو قراءة الصحف والمجلات ذات الفكر المنحرف وحاملات الصور الرخيصة، والمتخصصات في أركان التعارفِ المشبوهة، والدعوة للعري والتحلل من القيم والفضيلة.
إن من الخطأ أن نتصور أنّ عالم اليوم عالم غزو للفضاء فحسب، وننسى أنه عالمُ غزوٍ, للأفكار رهيب، وعالمُ حربٍ, للعقائد والقيمِ مُسَيَّسٌ مدروس، وإن من البساطة والتغفيل أن نتصور أن هذا المشهد المخرج يهدف إلى المتعة والتسلية لا أكثر، وأن هذا البرنامج المعد يرمي إلى الثقافة المجردة ليس إلا، كلا فطمسُ الهوية الإسلامية وتذويبُ شخصيتنا والسيطرةُ على أدمغتنا هدفٌ يراهن عليه الأعداء، ومن آخر وأخطر وسائلهم لذلك: التلفزيون والبثُ المباشر، هذا الغزوُ الذي تحفزنا لمواجهته في البداية كعادتنا - ثم بدأ البعضُ منا يستسلم له.
أجل لقد خصصت الصحافةُ العالميةُ والمحليةُ حيزاً من زواياها للتحذير من هذا الغول الجديد -ولكننا مع الأسف أمةٌ لا تقرأ، أو تقرأ ولا تستفيد مما تقرأ- ومن العناوين المثيرة في هذه الصحافة - وأكتفي بذكرها- «اختراق يقصم الظهر» «لكي لا نفقد الهوية»، «ماذا فعلنا لمواجهة الغزو التلفزيوني»، «هجمات تلفزيونية على الخليج»، «البث المباشر الاستعمار الجديد».
وكيف لا تثار هذه العناوين، وتتعالى هذه الصيحات، والمخطط مدروس والهدف مرسوم، وهذا رئيسُ المخابرات الأمريكية يعلنها صراحة ويقول: \"إن إستراتيجيتنا يجب أن تتجاوز التعامل مع القادة إلى الشعوب، وذلك أن القادة قابلةٌ للتغير، وأما الشعوبُ فثابتة، ومن أهم وسائل تحقيق هذا التوجيه: التلفزيون، فهو الوسيلةُ القادرةُ بطبيعتها على السيطرة على أدمغة الشعوب\".
وحتى يستيقظ الغافلون، وعسى أن يستدرك المسلمون، أنقل لكم صيحة مفكرٍ, أنذر بخطر البث المباشر فأعذر، يقول الدكتور فهمي هويدي: \"إن هذا الاستعمار خرج من شوارع المدن، لكن سيعود عن طريق البث المباشر، وعودته هذه المرة ليست إلى الأسواق فقط ولكن عاد ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوةَ في غرفنا، والمبيت في أسرَّة نومِنا، رجع ليقضي على الدين واللغةِ والأخلاق، كان يُقيم بيننا بالكُره -يعني الاستعمار- ولكن عادَ لنستقبله بالحبِّ والترحاب، كنا ننظرُ إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدتهِ والجلوسِ معه، إنه الاستعمارُ الجديد، إنه خطرٌ يهدد الجيل الجديد كله\".
ومهما كثر الحديثُ عن التلفزيون والبث المباشرِ فليس طويلاً، لأن الإحصاءات العلمية تثبت طول الساعات التي يقضيها المشاهدون أمام هذا الجهاز ولاسيما الأطفال والنساء، وهنا مكمنُ الخطر، افترض أيها الأبُ اللبيبُ أن يتولى تربية أهلك وأبنائك وبناتك غيرك، ولئن قلت إنك قادرٌ على تمييز الغثِّ من السمين أفترى أطفالك ونساءك كذلك؟ إنها أمانةُ التربية ومسؤوليةُ القوامة، وأنت مسؤول عن رعايتها أو إضاعتها.
أيها الولي والمربي: ولا تظن أنك حين تجلب (الدٌّشَّ) إلى بيتك توفر السعادة وتدخل الأنس إلى أفراد عائلتك، كلا فأنت متسبب في دخول اللصوص إلى بيتك، وأنت تعين الغزاة والمستعمرين وتمكنهم من مخاطبة فلذات كبدك.
وليس هذا حديثاً مكتملاً عن البث المباشر بقدر ما هو إشارة إلى نوع خطيرٍ, يُزجي به بعضُ المسلمين أوقاتهم، وأنصح بقراءةِ الكتب المؤلفة عن البث المباشر وسماع المحاضرات النافعة في هذا المجال للتعرف على المخاطر ووسائل العلاج، والله من وراء القصد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد