وما نيل المطالب بالتمني ... بل أول النيل التمني


 

بسم الله الرحمن الرحيم

على العكس المتبادر للأذهان يأتي حديثنا اليوم، فهذا البيت المشهور من الشعر يتداوله الناصحون والموجهون الذي يطالبوننا بأننا لا بد وأن نبذل الكثير لنحصل على ما نريد، وأن هذه المعادلة تنطبق على الآخرة كما هي تنطبق على الدنيا، فلئن كان أهل الدنيا يتمايزون فيما بينهم بدرجة المغالبة التي يبذلونها كي يصلوا إلى مرادهمº فإن طريق الآخرة يلزمها جهد وبذل وكد مضاعفº ليحصل السائر فيها على نصيبه ومكانته.

 

ولسنا هنا ننقد هذه القاعدة، أو نريد أن نقرر أن حصول المرء على مراده يتوقف على الأماني، فلا بد أن من وقف على عتبة الأماني ظانًّا أنها كافية لتحقيق مرادهº سيكتشف عما قريب أنما هو في الحقيقة واهم كبير.

 

ولكننا هنا لنقول: إن كان الطريق لا يتحصل عليه بالأماني فقط إلا أن هذا لا ينفي أن أول نيل ما تطلبه إنما يكون عن طريق الأماني لا غيرها، وأن الله- تبارك وتعالى -عادل لا يظلم أحدًاº فيعطي كل امرئ ما تمناه وأراده.

 

 ودعنا نتأمل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [[كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالةº فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه]]. رواه مسلم.

 

فلئن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قدم حديثه بالأركان المفتتحة لفعل الزنىº فقد ختم ببيان صاحب المسؤولية العظمى، وحامى حمى ديار الإيمان في الجسد الإنساني ألا وهو القلب، وحصر المسألة كلها أو المأساة في إرتكاب هذه الكبيرة بين عضوينº عضو التمني وعضو الفعل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: [[والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه]]، فهو التمني أولًا ثم الفعل والتصديق أو التكذيب، وهو المتوقف حقيقة على حجم التمني، فكلما علا قدره وصدق عزمهº نال من تصديق عضو الفعل القدر الأعلى وهكذا.

 

ولئن كان هذا هو المشهد في المعصيةº فأزيدك ملاحظة لا بد أن لها صدى داخل نفسك- وهي أن الذنوب التي يستمر عليها أصحابها كلها لا بد لها من تعلق ما بالقلب، وتلذذ وتمني من جهة أدق، حتى مع أن الشخص قد يصيبه الندم الشديد بعد ارتكاب المعصية المتكررة، إلا أن هناك جزءًا يتفنن في إخفائه، ألا وهو التلذذ بالفعل ذاته، وما دام هذا باقيًاº فلا بد أنه سيقع في الفعل ثانية وإن امتنع عنه دهرًا من الزمان، فإن تذكره المرة تلو المرة بتلذذ يولد الأمنيات في داخل الإنسان هذه الأمنيات، التي تصنع دوافع الكائن البشريº فتقوده في أي الطريقين شاء، وما ذاك إلا لأنه اختار نوعية الأمنيات التي تشغل كيانه.

 

وتلمح معي في بدايات كل السائرين سواء في طريق الدنيا أو الآخرة ترى كلا منهم صاحب حلم جميل، ابتدره وهو ما زال بعد في نعومة أظفاره، هذا الحلم وهذه الأمنية ما تلبث أن تواجه بأعاصير الحياةº فيتمسك بها المؤمنون بأحلامهم، ويرسل الآخرون من بين أيديهمº فيسمحون لها بالتسرب، ويفقدونها وهم لا يعلمون أنهم إنما يفقدون حياتهم عندما يفقدون أمنياتهم وأحلامهم.

 

وها هو عمر بن عبد العزيز يضرب المثل في ذلك فيقول: [إن لي نفساً تواقة لم تزل تتوق إلى الأمارة، فلما نلتها تاقت للخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة].

 

وها هو الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يربي أمته على تعظيم الأماني، ولكنه يقرنها في الوقت ذاته بالعمل المطلوب، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: [[إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة]]. رواه البخاري.

 

ويقول - عليه الصلاة والسلام - [[إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.

 

وعلى النقيض من ذلك يحذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من التدني في الأماني والأحلام، والاستسلام للعجز والكسل، ففي الحديث عنه قال - عليه الصلاة والسلام -: [[اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر]]. رواه البخاري.

 

إنها دعوة للتمسك بالأمنيات والأحلام بعد دراستها دراسة واعية، فما قيمة المرء بغير أمنياته وتطلعاته، فما فقد الإنسان قيمته حتى فقد أحلامه، واستسلم وسلمها لواقعه، تاركًا له الفرصة كي يعيد صياغة نفسه وفق الظروف والأحوال، وهذه آفة شباب الأمة، تركوا أحلامهم بأيدي غيرهم يصوغونها ويرسمونها، فأصاب القلب من ذلك هم كبير:

 

شكوت... وما الشكوى لمثلي عادة *** ولكن تفيض الكأس عند امتلائها

 

امسك بحلمك وأمنيتك، فهي أول الطريق إلى تحصيل مرادك، ثم أتبعها بعد ذلك بالجد والاجتهاد والبذل والسعيº تكتمل لك منظومة تحقيق مرادك بإذن الله، واحرص على أن يوافق حلمك وأمنيتك مراد الله ولا يخالفهº تنل ما تريد، ولا تنس أن أول النيل التمني.

 

وختامًا:

إذا غامرت في أمر مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في امر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم

 

وإلى لقاء قريب بإذن الله لكم مني خير تحية وأطيب سلام

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply