لقد تتبعنا آيات الجهاد كلّها وطالعنا الأحاديث الصحيحة في دواوين السُنّة، وتأملنا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزواته وسراياه، وفتشنا كتب التاريخ والمغازي فما وجدنا أخصر ولا أظهر من قوله - تعالى -: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم)) (سورة محمد: 7). كسبب رئيس ومباشر في دحر العدو وقهر الغزاة!!.
فلم يتفوق المسلمون قط في أي معركة خاضوها ضد عدوهم نتيجة اختلال ميزان القوى لمصلحتهم أو رجحان مقاييس الردع لكفتهمº اللهم إلا في حنين أو ما شابهها ممّا يُجير في خانة ا لقليل النادر.. فضلاً عن كون كثرة المسلمين في حنين لم تغن عنهم شيئا ً بل، ولوا مدبرين!!.
لقد خاض المسلمون معارك كثيرة فكان النصر حليفهم، رغم قلة ذات اليد، وضعف الإمكانات في وقت حاز خصومهم كلَّ سلاح ممكن، وفاضت الإمدادات عن الحاجة ثم ماذا كان بعد؟!
والجواب تراه واضحاً جلياً في مثل قوله - سبحانه وتعالى -: ((وَلَقَد نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدرٍ, وَأَنتُم أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)) (سورة آل عمران: 123).
وفي قوله: ((كَم مِّن فِئَةٍ, قَلِيلَةٍ, غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (سورة البقرة: 249).
وفي قوله: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ جَاءتكُم جُنُودٌ فَأَرسَلنَا عَلَيهِم رِيحًا وَجُنُودًا لَّم تَرَوهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرًا)) (سورة الأحزاب: 9).
إنّ القرآن الكريم حين يُخلِّد ذكرى بدر، ويجعلها حديثاً يُتلى إلى يوم يبعثون لا لأنّ فئة غلبت آخرى، أو لأنّ طائفة مستضعفة قهرت عدوها؟!
كلا، كلا، إنّ الأمر أعظم وأجلّ من هذا بكثير !!
فالحق أنّ خبر بدر فيه أبلغ خطاب للبشرية جمعاء بأنّ رُسل الله هم المنصورون، وأنّ جنده هم الغالبونº فالعَدد والعُدد مجرد أسباب فحسب، لا تشكل قيمة تذكر في حسم الصراع، أو في حساب الربح والخسارة، فالمناط كلّ المناط على صدق التوكل على الله، وحسن الظن بالله، وشجاعة الأقدام في سبيل إرضائه - سبحانه وتعالى -!! خاص بالمسلمين بدراً، وهم لا يشكلون سوى ثلث عدوهمº فقتلوهم شر قتلة، وخاض سعد القادسية، وجيشه قرابة الثلاثين ألفاً، وقيل: أقل حتى قال ابن إسحاق: بل سبعة أو ثمانية آلاف!!
في حين بلغ العدو الفارسي المجوسي المائة والعشرين ألف مقاتل! بل قيل: بلغوا مائتي ألف مقاتلº فأقبلوا بجحافل كالجبالº فاستبيحت خضرؤاهم وصاروا أثراً بعد عين!!
وأمثال هاتين المعركتين لا تُحصى كثرة، فقد سطرت يراع الحافظ الفذ ابن كثير في تاريخه عشرات الأمثلة، لملاحم الإسلامº كأنك تراها ولولا خشية الإطالة لأتحفنا القارئ الكريم ببعض تلك العجائب، ولكن دونك يا ابن الإسلام: البداية والنهاية، وتاريخ الطبري، ومنتظم ابن الجوزي، ومن أحيل على ملئ فليتبع!
أسباب النصر:
جعل الله - تعالى -للنصر أسباباً لا يتحقق إلا بها وأجملها - سبحانه - بقوله: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم)) ولكن تفصيلها فيما يلي:
الإخلاص في الجهاد:
والإخلاص شرط لقبول العمل ومباركته في سائر العبادات فكيف بذروة سنام الإسلام كله؟!
لا شك أنه في الجهاد آكد وأعظم إلحاحاً قال الله: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لَا يُشرِكُونَ بِي شَيئًا)) (سورة النورً: 55).
فعلى المجاهدين وهم أعلم وأعرف أن يسعوا بكل قواهم إلى تحقيق هذا المطلب، وأن يجاهدوا حظوظ أنفسهم قبل منازلة العدو حتى يتحققوا من سلامة القصد، وحسن النوايا ليُبارك في جهادهمº إذ في غمرة الحرب الكلامية التي تسبق الحروب عادة، أو في أثناء الوقائع على أرض القتال، يستغل الشيطان ساعة الغفلة أو الانشغال فيشطح بأهداف الجهاد عن غاياتها السامية إلى سعي حثيث وراء الحظوظ العاجلة من إظهار القدرة على قهر العدو، وكبح جماح اندفاعه، أو إظهار مهارة التخطيط، وإرباك الخصمº لنيل ثناء الجماهير المتعاطفة مع الجهاد، أو تجيير الجهاد المقدس إلى دفاع عن الأرض والتراب لا نصرة الدين والعقيدة!!.
إن النكاية بالعدو وإثخانه بالجراح مطلب ملح ومقصد مهم إلا أن قيمته تتلاشى، وبركته تضمحل حين لا يكون المطلب الأول إعلاء كلمة الله!.
ففي الحديث الصحيح، من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: ((قال رجل يا رسول الله: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليرى مكانهº فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).
كــثرة الدعـاء.
في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلّ يدعو ربه ليلة بدر حتى سقط رداءه عن عاتقيه)).
ففي هذه الرواية العجيبة تتبين أهمية الدعاء، وأثره الفاعل في الحسم من خلال إلحاح النبي - صلى الله عليه وسلم - على ربه ليلة بدر، حيث لم يركن إلى ثلاثمائة رجل أو يزيدون خرجوا طوعاً لا كرهاً، حقاً لا أشراً، يقودهم نبي كريم على ربه، لو أقسم على الله لأبره، ومع هذا لم تتعلق نفسه بشيء من ذلك، ولكنه رفع يديه الشريفتين يستمطر السماء ويبحّ صوته بالدعاء حتى أشفق عليه الصديق - رضي الله عنه - والتزمه قائلاً: كفاك مناشدتك ربك، يا رسول اللهº فإنه منجزك ما وعدك!!
ولا يعني هذا التقليل من شأن الأخذ بالأسباب الماديةº فإن نبينا - عليه السلام - قد حث الناس على الجهاد، ورغبهم فيه، وعمّى الخبر عن العدوº حتى إنه لم يأذن بالخروج إلا لمن كان ظهره أي راحلته - حاضراً وأبى على آخرين افتقروا ظهورهم في علو المدينة!!
ثم بعد ذلك، بل أثنائه وقبله، ألح بالدعاء وأظهر افتقاره التام إلى عون الله ونصرته، وأقر بعجزه وقلة حيلتهº فأقرّ الله عينه بانتصار عصابة الإسلام، وجماعة الموحدين، وأثلج صدره بهزيمة صناديد قريش شرَّ هزيمة وانقلابهم على وجوههم إلى مكة لم ينالوا خيراً!!
والمجاهدون مدعون إلى اقتفاء أثر نبيهم - عليه السلام -، بإعلان فاقتهم وحاجتهم إلى ربهم - سبحانه -، وإظهار الذلة والمسكنة بين يديه- عز و جل- والإلحاح بالدعاء وتكراره، والتماس ساعات الإجابة، وثلث الليل الأخير حيث النزول الإلهي الكريمºفإنه متى أُخذ بهذا السبب المتين، تحقق النصر المبين بإذن الله.
الحرص على وحدة الصف واجتماع ا لكلمة.
قال الله - تعالى -: ((وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم)).
إنّ الناظر في هذه الآية الكريمة ليلمس بوضوح صراحة النهي وصرامته عن التنازع والإختلاف.
ويتضح الأمر جلياً من ترتيب الفشل عليه مباشرة بذكر (فاء) التعقيب، وهو كما ترى يكشف الأثر البغيض، والشؤم الماحق المترتب على التنازع والفرقة!!
وقد سجل القرآن الكريم مثالاً عملياً ممّا جرى في (أحد) حين تورط الرعيل الأول فوقعوا في الشقاق والفرقة، ومن ثم الهزيمة والفشل!!
((حَتَّى إِذَا فَشِلتُم وَتَنَازَعتُم)) ولم يشفع لهم شهودهم بدراً وخروجهم منها منتصرين قبيل عام واحد فقط أن يتجرعوا مرارة الهزيمة، ويفجعوا بسبعين قتيلاً من خيار الأمة آنذاك!!.
إن اختلاف وجهات النظر بين المجاهدين أمر طبيعي لا غرابة فيه، إلا أنه لا ينبغي أن يضخم الخلاف، أو توسع الفجوة، فتكون بذلك مساحة تشعب فيها الآراء والأهواء!!
ولكن المفروض هو العمل الجاد على محاصرة الخلاف في أضيق نطاق ممكن حتى لا يعيق مسيرة العمل الجماعي الرشيدº لتحقيق الأهداف المتفق عليها، وترسيخ الثوابت المعترف بها من الجميع!.
وجوب طاعة الولاة ونوابهم بالمعروف.
غير خاف على من له أدنى اطلاع أنّ من آكد أسباب الهزيمة يوم أحد هو مخالفة أوامر القائد الأعظم - عليه الصلاة والسلام -.
فقد أمر - عليه السلام - جماعة من جنوده اعتلاء الجبل حماية لظهور المسلمين وأناط بهم مسؤولية الرمي لتبديد قوى العدو وإثخانه بالسهام وحذرهم - عليه الصلاة والسلام - من مغادرة أماكنهم حتى لو تخطفته وأصحابه الطير!!
لكنهم حين رأوا كفة القتال تميل بشكل واضح لمصلحة من يحبون وبوادر الهزيمة تلوح جلية لا لبس فيها في صفوف أعدائهمº نزلوا من أماكنهم متأولين لا قاصدين أصل المخالفةº فكانت النتيجة بالغة المرارة، والخسائر في الأرواح والأنفس مخزية جد مخزية!!.
إن المجاهدين بحمد الله لهم ماض مشكور في حُسن البلاء، وجودة التنظيم، وروعة التفاني في طاعة قادتهم وأمرائهمº فأحكموا سيطرتهم على جلّ البلاد رغم وجود شراذم المارقين في الشمال، والمدعومين من دول الكفر وأذنابهم، ولم يمنع ذلك من قهقرتهم في مساحة لا تتجاوز الـ 5 % من إجمالي الأرض الأفغانية المجاهدة!!.
والمجاهدون مدعوون اليوم لمزيد من التكاتف والتزام المنهج ذاته في التنظيم والإعداد، وإظهار كثيرٍ, من الحرص على طاعة الولاة والأمراء، والقادة الميدانيين حتى يمكن دحر العدو وإبادته بإذن الله!!.
الصبر:
قال الله - تعالى -: ((وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئًا)) (سورة آل عمران: 120).
وقال: ((فَاصبِر إِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ)) (سورة هود: 49).
وقال: ((كَم مِّن فِئَةٍ, قَلِيلَةٍ, غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (سورة البقرة: 249).
والآيات في الأمر بالصبر وبيان أثره وعواقبه كثيرة معلومة، وكذا السُنّة الشريفة الصحيحة دالة على ما ذكرته، وتبرز أهمية الصبر من كون طبيعة القتال وأجوائه تتطلب تركيزاً على هذا الجانب أعني الصبرº إذ التشبث به هو أقصر طريق لتحقيق كل المكاسب المرجوة من جرَاء القتالº في مقابل أنّ فقدانه يعني الخسارة الماحقة، أو الاستسلام المهين الذي لا يمثل أي كسب إلا تأجيل للموت، ليكون أكثر بشاعة وأعظم مثلة ((قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرتُم مِّنَ المَوتِ أَوِ القَتلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا)) (سورة الأحزاب: 16).
لقد واجه المسلمون الفرس في القادسية فثبتوا وصبروا رغم الفارق الكبير بين الخصمين من حيث العدد والعُددº لكن اليوم الثالث كان حاسماً للمعركة واضعاً حداً للمصاولة و المجالدة!!
ومن ثم إلحاق الهزيمة الماحقة بالجيوش الفارسية الوثنية!!
ذلك أن صلابة سعد - رضي الله عنه - وجنوده أوهن العدو وأفهمه أنّ القتال هذه المرة يختلف تماماً عن معاركهم ضد الروم النصارى ففي القادسية كانوا يواجهون رجالاً أحرص على الموت من حرص خصومهم على الحياة!!
لقد كان سهلا على الفرس قهر الروم حين كانوا يكافئونهم عدداً وعدة إذ أنَ مقاصد الفريقين من وراء القتال جد متقاربة فهي لا تعدو كونها إشباعاً لشهوة التسلط والتصدر وتحقيق الزعامات الفارغة، ثم لا شيء يرجون بعد الموت لا جنة الخلود، ولا الفردوس الموعودº فالحماسة القتالية جديرة بأن تخبو في أي لحظة طالما فقدت أسباب إضرامها وإشعالها!!.
هذا كله غير وارد في حسّ المجاهد المسلم إذ هو بين خصلتين وموعودين أدناها نصر وسيادة، وفتح وريادة!!.
الثقة بموعود الله:
لا ينبغي أن يغيب عن حسّ المجاهد المسلم أن الله - تعالى -وعد بنصر المجاهدين ولم يشترط لذلك سوى نصرته فقط قال الله - تعالى -: ((إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم)).
ونصر المجاهدين لله يكمن في امتثالهم أمره واجتنابهم لنهيه في أمورهم كافة حينها سيذوقون حلاوة النصر، ويرسمون أقواسه الباهرة!!.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد