أثر النزاعات المسلحة على الأطفال عبر الفضائيات


  

بسم الله الرحمن الرحيم

كشفت إحدى الدراسات أن الأطفال هم الضحايا الأكثر هشاشة والأسرع سقوطاًº لأن التجارب المروعة تدمر وجودهم الداخلي، حين يسلبون الإحساس بالأمن والثقة بالنفس والاطمئنان إلى الحياة برمتهاº وليس من الضروري أن يتعرض الأطفال أنفسهم للتجارب المروعة، ويكفي أن يشاهدوها تصيب الآخرين، إن مشاهد العنف - حتى من الآخرين - لها تأثير كبير غير محدود على طبع سلوك الأطفال بالعدوانية، والميل إلى ممارسة العنف كوسيلة للدفاع عن الذات، ولهذا وصفت الحروب والنزاعات المسلحة بأنها كوارث من فعل الإنسانº لأنها تقوض النظم القائمة، وتخلق حالات من التوتر الجماعي تسببه الخسائر البشرية والمادية، والنظرة السلبية إلى وقائع الأمور، والإحساس بخطر الموت أو الإعاقة، وترهق هذه العوامل كاهل الفرد وتضعف قواه في المقاومة والتأقلم معاً(1).

ويجد الأطفال في الرائي (التلفاز) مشاهد عديدة للنزاعات المسلحة التي تتسابق بعض القنوات الفضائية إلى عرضها، إذ يشاهد الأطفال أطفالاً تقل أعمارهم عن ثماني عشرة سنة مجندين ومقاتلين في نزاعات مسلحة، على رغم أن ذلك محرم دولياً، إذ يبلغ عدد الأطفال المجندين في العالم اليوم مئات الآلاف، ويجد الأطفال في الجو التلفازي الذي تشكله الفضائيات للنزاعات المسلحة أطفالاً لاجئين مع ذويهم أو آخرين افتقدوا الأهل والأرض، إذ يزيد عدد اللاجئين من الأطفال اليوم على نصف أعداد مجمل اللاجئين في العالم، ويشاهد جمهور التلفاز من الأطفال أقراناً لهم قتلى تلقى أجسادهم في ساحات المعارك، وآخرين بترت أعضاؤهم بسبب المقذوفات، كما يشاهدون أطفالاً يتعرضون لظروف قاسية ومعاملة سيئة، مثلما يشاهدون أطفالاً رسم الفقر والجوع على وجوههم وأجسادهم علامات بارزة، ويشاهد جمهور الفضائيات من الأطفال أطفالاً لا يجدون لعباً غير أن يلعبوا بالألغام التي يغرسها المتنازعون في بؤر النزاع، تلك الألغام التي سرعان ما تنفجر في وجوه اللاعبين الصغار، ويشاهد جمهور الفضائيات من الأطفال مئات المشاهد العنيفة في عالم نزاعات الكبار مثلما يشاهدون الموتى الذين تتركهم الحروب ضحايا، وقد انتفخت أجسادهم أو تقاطرت منها الدماء، مثلما يشاهدون أعمال العنف الأخرى والتعذيب والاعتقال والترحال.

وهكذا، يتعرض الأطفال إلى أعمال العنف والرعب، وربما يعود إقبالهم على هذا النوع من البرامج إلى أنهم لا يجدون فيها شيئاً من طبيعة حياتهم أو من تجاربهم الشخصية، إذ يبدو كل شيء فيها ممكناً، وقد يعود إلى أن بعضهم لا يفهمها فهماً جيداً، ذلك أن فهم الحوادث ومجريات الأحداث تخفف القلق والرعب بشكل كبير، ومن هنا فإن أعمال العنف في النزاعات المسلحة تنشر القلق في نفوس الأطفال وتزيد مخاوفهم.

وعلى هذا فإن الأطفال ضحية للعنف والنزاعات المباشرة، حيث يلاقون الموت والإصابات والخوف والدمار بسبب المشاركة في النزاعات المسلحة، وهم حين يكونون مشاهدين للتلفاز يتأثرون بما يعرض عبر شاشاته على مستوى المشاعر والتفكير والسلوك، وقد ثبت أن برامج العنف والنزاعات المسلحة من أكثر الموضوعات تأثيراً في الطفولة، وأطفال الوطن الإسلامي يتعرضون - مثل كثير من أطفال العالم - لتأثيرات النزاعات المسلحة بصورة مباشرة ويتعرضون أيضاً لمشاهدة الكثير من النزاعات المسلحة عبر الفضائيات.

ومع أن من غير الممكن واقعياً الوقوف على حدود تأثير تلك المشاهد في الأطفال، إلا أن في الوسع وضع كثير من الاحتمالات، فمن بين تلك التأثيرات نشر المخاوف من الأطفال، ويتباين الأطفال في حدود المخاوف التي تنتابهم، ذلك أن تلك المخاوف لها جذورها في حياة الطفل الشخصية، وفي حياة الأبوين والأسرة عموماً، ومن المشاهد التلفازية التي تعرض صور المعاناة التي يواجهها الطفل بسبب النزاعات المسلحة ما يشكل لهم معاناة نفسية عميقة، كما أن من المشاهد التلفازية ما يجعل الأطفال يميلون إلى التحيز والتعصب في فترة مبكرة من العمر، الأمر الذي يقود إلى تبلور بذور لاتخاذ أحكام قطعية، أو الميل إلى المغالاة والتطرف إزاء الأشياء أو الأشخاص أو بعض الموضوعات.

ومن التأثيرات الواسعة التي تحدثها مشاهد النزاعات المسلحة بالدفع بالأطفال إلى الشعور بالحاجة إلى الحماية، حيث تشكل النزاعات المسلحة صدمات لحياة المجتمعات بما فيها الأطفال، ويجد الأطفال فيها ما يهدد حياتهم إذ يظهر الأطفال ضحايا لمواقف ليسوا أطرافاً فيها، خصوصاً أن السنوات الأخيرة شهدت مصرع ملايين الأطفال، وإصابة أعداد أكبر بإعاقات خطرة، وفصل أعداد أخرى عن أسرهم بسبب النزاعات المسلحة.

ومن جانب آخر يمكن أن تتضمن التأثيرات ميل الأطفال إلى اللامبالاة العاطفية، وذلك أن تكرر تعرض الأطفال لمشاهد النزاعات المسلحة يقلل بمرور الوقت من حدود اكتراث الأطفال بما يحصل من أحداث واقعية في الحياة اليومية، وكثيراً ما يشاهد الأطفال أحداثاً مؤلمة، ومع هذا تكون ردود أفعالهم عابرة، ويرجع ذلك إلى عوامل متعددة، إلا أن من بينها أن التلفاز جعل كثيراً من الأحداث صوراً متواترة، ولا تثير إلاّ ردود أفعال ضئيلة أو عابرة بوجه عام، فإن اللامبالاة العاطفية قد تقود إلى قدر من التبلد العاطفي، أو إضعاف مستوى النمو الانفعالي للطفل، مع إضعاف القدرة على التوحد في بعض المواقف مما يعد خروجاً عما تسعى إليه التربية العاطفية(2).

ومن بين تأثيرات مشاهد النزاعات المسلحة في التلفاز أن الأطفال يدخلون إلى عالم الكبار قبل الأوان، ويتعرفون إلى أساليب من طرق حياتهم لا يمكن التعرف عليها لولا التلفاز، لذا فإن تلك المشاهد تزيد من اقتحام الأطفال عالم الكبار، وهو عالم غريب في ثقافته عن عالم الأطفال.

وبما أن الأسرة تعتبر المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تتولى الدور الأكبر في تربية الأطفال، بل هي التي تتولى تشكيل معظم معتقداته وأفكاره، وقيمه الأخلاقية، وعاداته وأنماط سلوكه، نجد أن للأسرة المسلمة دوراً جاداً وهاماً في وقاية الأطفال من تأثيرات النزاعات المسلحة التي تبث عبر القنوات الفضائية، وهي مسئولية تقع على عاتق أفراد الأسرة جميعاً، على أساس أن تربية الطفل عمل إلزامي ليس للمسلم أن يتهاون في القيام به. قال - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون التحريم: 6}.

وقد روى البخاري ومسلم أيضاً حديثاً يؤكد هذا المعنى، فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة\"(3).

والحقيقة أنه ليس بعد هذه الصراحة مزيد، لكن المتبصر في أحوال الكثير منا يرى أن الجهود مع الأطفال تتركز على جانب النمو الجسدي من تغذية وعناية صحية ولا تهاون في ذلك، أما الاهتمام بجانب التربية والوقاية الخلقية والعقلية فهو اهتمام هامشي، إما كسلاً وإما انشغالاً وإما غفلة وعدم إدراك لأهمية هذه الجوانب وأولويتهاº ومنها: الآثار السلبية لبث النزاعات المسلحة على شاشات الفضائيات والتي يمكنها أن تؤثر في شخصية الطفل الخلقية والعقلية والنفسية.

فلا بد أن يتعاظم لدى الآباء الإحساس بأهمية وقاية الأطفال من هذه الآثار السلبية وبمسئوليتهم تجاه أطفالهم، وخاصة بعد أن اختلت أدوار بعض المؤسسات التربوية الأخرى في المجتمع المسلم.

من هنا نرى أنه لابد للأسرة أن تأخذ جهودها تجاه تربية أطفالهم تربية إسلامية صحيحة سمتها البناء والوقاية في أحيان، كما تأخذ سمة العلاج وتصحيح الأخطاء في أحيان أخرى، خصوصاً من الآثار السلبية للنزاعات المسلحة التي تبث عبر الفضائيات، وأن تحرص الأسرة المسلمة على تغيير أفكارهم ومعتقداتهم بأن ما يشاهدونه من أعمال عنف وشغب وقتل وتنكيل هو الذي يسود جميع المجتمعات، وتغيير هذه الأفكار أو المعتقدات الخاطئة عند الأطفال حول مشاهد العنف والقتل فلا بد أن تقوم به الأسرة، لقوله - تعالى -: \" إن الله لا يغير ما بقوم حتى\" يغيروا ما بأنفسهم  الرعد: 11}.

وهذا دليل على أن تغيير ما في النفس أمر سهل بيد صاحب النفس كما في قوله - تعالى -: \" يغيروا ما بأنفسهم \" وهذا شرط لتغيير الجماعة، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه\"(4).

وهذا دليل على أن التأثير على الإنسان خارجي وأنه يستطيع أيضاً تعديل طباعه وعاداته ومواقفه.

فعلى الأسرة المسلمة ألا تترك الأطفال ضحية لمشاهدة بث النزاعات المسلحة عبر الفضائيات التي تزداد يوماً بعد يوم، وبدلاً من أن يساعد الطفل على مشاهدة التلفاز دون رقابة، يمكن أن يلحق الطفل في أماكن مفيدة وصالحة له، تبعث في نفسه الطمأنينة، وتهذب سلوكه، وتقوي إيمانه، مثل حلقات تحفيظ القرآن الكريم، لما في هذه الحلقات من فائدة دينية لقوله - تعالى -: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم \" الإسراء: 9}، وهو يقرأ كلاماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه \" فصلت: 42، ثم إن جلوس الطفل في الحلقة يجتمع فيه أربع فضائل لو انفردت إحداها لكفت، وهذه الفضائل جاءت في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: \"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده\"(5).

وإذا كان هناك أهمية لمشاهدة الأطفال للقنوات الفضائية فهناك بعض القواعد المحددة التي يسهل اتباعها في المنازل بشأن مشاهدة أطفالهم للفضائيات، وهي تزيد من فائدة مشاهدتهم لها، وتقلل من الجوانب والآثار السلبية لمشاهدة النزاعات المسلحة عبر الفضائيات، هذه القواعد هي:

1- كونوا متأكدين دوماً أن أطفالكم لديهم سبب جيد ومحدد لمشاهدة ما يبغون مشاهدته، وإذا لم يكن لديهم هذا السبب، أو فكرة واضحة ومحددة عما يشاهدون فبادروا فوراً إلى إغلاق الجهاز.

2- ينبغي أن تصروا على أن يشاهد أطفالكم برنامجاً واحداً في الجلسة الواحدة، إذ أنه من النادر جداً أن نجد برنامجين يستحقان المشاهدة يذاعان واحداً وراء الآخر مباشرة ومن هنا ينبغي أن تقللوا - قدر المستطاع - من عملية استمرار المشاهدة.

3- تدخلوا للحد من (المشاهدة التلقائية) وخططوا لجلسات مشاهدة لكل أفراد العائلة مسبقاً، حيث إنه بدون التخطيط..بل بدون وضع جدول للمشاهدة، يصبح من الصعب ضبط عملية المشاهدة وطول مدتها.

4- ينبغي أن يكون هناك أحد الوالدين ليتقاسم المشاهدة مع طفله أو أطفاله، حتى يأمن عليهم من مشاهدة بعض ما يؤثر في أنفسهم من مشاهد لا تليق.

5- البحث عن مشاهدة برنامج واحد - على الأقل - يكون جيداً كل أسبوع، واجعلوا منه خبرة طيبة يستفيد منها الأطفال، بحيث يمكن أن يثار - بعد مشاهدته - عدد من الأسئلة، أو أن تنظم رحلة أو زيارة المكتبة أو غيرها.

6- راقبوا جيداً ما يشاهده أطفالكم، إن البعض منكم قد يصابون بالدهشة حين يفعلون ذلك وكونوا إيجابيين بالتدخل إذا تطلب الأمر ذلك خاصة عند مشاهدة نشرات الأخبار التي تبث دائماً أخبار النزاعات المسلحة أو البرامج الوثائقية عن الحروب والنزاعات المسلحة.

7- كونوا قدوة طيبة لأبنائكم وراقبوا أنفسكم وحاسبوها فيما تشاهدون على الشاشة الصغيرة، واسألوا أنفسكم عن البرامج التي تسمحون لأنفسكم بمشاهدتها خاصة التي تبث الحروب والنزاعات المسلحة... وفكروا!

إن النزاعات المسلحة أفعال عدوانية، تكون النفوس البشرية أغلى ضحاياها، بما فيها نفوس الأطفال، وإذا كانت البشرية تهفو إلى وقف هذه النزاعات وسيادة السلام بين الجماعات والمجتمعات المختلفة، فإن ذلك لا يتحقق بإلقاء السلاح فحسب، بل بتوفير ظروف حياة جديدة، قوامها الحياة النفسية والعاطفية السليمة والتي لا يمكن البدء في بنائها إلا من خلال بناء سلوك الأطفال بناء سليماً، وتكوين شخصياتهم وفق أسس مرنة وواقعية وموضوعية، بعيداً عن التعصب والنظرة الآحادية والعدوانية.

وهكذا، فإن النزاعات المسلحة تفعل فعلها في أرواح وأجساد الناس كباراً وأطفالاً من الذين يجدون أنفسهم في ساحاتها، من دون أن تسلم منها نفوس الأطفال الذين يتعرضون لأخبار تلك النزاعات التي تحرص الشاشات الصغيرة على أن تظهر في حركتها وأصواتها وألوانها وظلالها وعلامتها، بحيث لا يمكن إلا أن يقول الأطفال، أي كبار هؤلاء الذين يتنافسون من أجل نقل مشاهدها كما هي على الشاشة الصغيرة.

 

ــــــــــــــــــــــ

المراجع والهوامش:

1- هادي نعمان الهيتي: النزاعات المسلحة.. من تأثيراتها المباشرة في الأطفال، مجلة الطفولة والتنمية، القاهرة، العدد 9 مجموعة 3، 2003، 139.

2- عبدالعزيز بوودن: استراتيجية التكفل بالأطفال ضحايا العنف، دار العالم الجديد، 2004، ص: (268).

3- رواه البخاري (13-112)، ومسلم (142).

4- رواه البخاري (3-176)، ومسلم (2658).

5- رواه مسلم (2699).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply