لم يتقدم من أراد تأخراً


  بسم الله الرحمن الرحيم

حياة البشر بطبيعتها لا تكتمل لأحد، مهما حرص عليها، أو سعى للكمال فيها، فالنقصُ طارئٌ لا محالة.

ومن أنواع ذلك النقصِ الخطأُ في العملِ أو الحديثِ أو الكتابةِ أو، أو، فما دام الإنسان يتعبُ وينصبُ ويعملُ ويكدحُ ويقولُ ويكتبُ، فإنَّه يحرصُ أتمَّ الحرصِ على أن يكونَ عملُه ذلك كاملاً خالياً من أيِّ نقصٍ, أو خلل.

ولكنَّه ومع ذلك الاهتمام قد يطرأُ عليه الخطأُ أو الزلل ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها، وهذه صفة طارئة حاصلةٌ لكل عامل، أما الذي لا يخطئ فهو الذي لا يعمل.

والناس في ذلك الأمر متفاوتون مختلفون فمنهم من خطؤه نادرٌ قليل، بينما تجد من خطؤه فاحشٌ كثير، ومع ذلك فقد يعرف الإنسان مكمنَ خطئِه، وربما لا يتمكن من معرفتِه، هذا إن تنبه إلى خطئِه، والبعض منا من لا يعرف - أصلاً - أنه أخطأ.

وعلى كلٍّ, فإنَّ الإنسانَ محتاجٌ لأخيه وصاحبهº كي ينبهه متى أخطأ، أو أوشكَ على الوقوعِ فيه ورحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي.

وإهداء العيب من الصاحب لصاحبه أو الأخ لأخيه، أو من الزميل لزميله، حتى وإن كان من المرؤوس لرئيسه - يُعتبر ويُعد في أغلب أحيانه من قبيل النقد الحسن، إذاً فالنقدُ جاءَ مُسايراً لحاجةِ الإنسان المتقدِّمº كي يصلح عيبه، ويقوِّم عوجَه، ويتلافى خطأه، وليس في ذلك إلا مزيد من الرقي، ومزيد من التألق، ومزيد من التميز، كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه.

ومن خلال ما سبق فإنَّ النقدَ وإهداءَ العيبِ ظاهرةٌ صحيةٌ مباركةٌ نافعةٌ متى ما تفاعل معها صاحبها وتقبَّل النقدَ بسعةِ صدر، وقبولٍ, حسن، وبأريحيةٍ, فذة.

وبالجملة فإن النقد مفيد لمن نَقد ولمن نُقد إن كانا كيسين فطنين، وإلا لتحول النقدُ إلى عداوة وشحناء تنخر بينهما وتُوهي أواصر القربى بينهما!

 

ومن أنواع النقد - ويعتبر أفضلها من وجهة نظري - ما كان تلميحاً ومن قبيل وعلى غرار (ما بال أقوام) ليتفادى الناقدُ ما قد يحدث من انعكاسات أو تفاعلات أو انفعالات لما يُحدثه النقدُ في النفس ولما جُبِلَ عليه الخلقُ من اختلاف في تقبٌّلِ النقد من عدمه، أو حتى بمجرد الاقتناع بالخطأ، ولهذا من الفوائد الحاصلة، من بينها أن نفعه قد يمتد لآخرين غير من قصد بالنقد، وهذه ثمرة نجنيها باردة بلا تعب ولا تحسب أو انتظار، إذ إن هذه الطريقة في النقد لا تقتصر على المقصود بالنقد فقط بل تتعداه إلى غيره، حتى ولو لم يقصد بالنقد، ونقرأ في وسائل الإعلام عامة ونقرأ في صحيفة الجزيرة خاصة من كتاب يمتطون مثل هذا النوع من النقد وما هذا إلا لنبل المقصد والبعد عن التجريح الناتج عن التصريح.

وهنا فإن المقصد في النقد إذاً - في الغالب - إصلاح الأخطاء وتقويم الاعوجاج، والتنبيه أن الزلات كي لا يستفحل أمرها ويكبر فيعظم الخطب وتتفاقم المشاكل ويتعدى الخطأ على الغير فينتشر الضرر، والنقد في سبيله هذا محمود مشكور فاعله، وقد ينزح النقد وينأى عن ذلك المقصد فيشطح ويشط، فينحو نحواً سيئاً، فيزيغ عن السبيل ويميل عن النفع وتنعدم الفائدة متى ما قصد بالنقد التجريح والثلب، ونشر السقطات والهنات وإثارة النزعات والنيل من الأشخاص والتشفي بالتشهير، هذا إذا نفلت نية الناقد في نقده ومرضت أهواؤه، فالنقد إذن يسير طبقاً لمساعي الناقد ومقاصده، فإن نبل مقصده وعلت نيته وارتفعت همته واستقامت سريرته وسعى للنفع والإصلاح كان النقد هادفا بناءً وإن كان العكس فالنقد معول هدم يمسك به صاحبه بيد متخبطة سقيمة فأي نفع يبتغي وأي إصلاح ينتظر إن استمرت تلك اليد ممسكة بذلك المعول؟!

فيحتاج الناقد إلى صفات تهيئه وتعده وتؤهله لمعرفة وتمييز الخطأ ليسعى إلى التسديد والإرشاد والتوجيه، ومن تلك الصفات إخلاص النية، والصدق في التوجيه، القدرة على اختيار اللفظ والمعنى لطرح النقد، التريث والحلم وعدم التسرع، النباهة ودقة الملاحظة وسعة الصدر، وتحمل ما يحدث من جراء النقد بالصبر والصفح، وكذلك أن يكون لديه القدرة على معرفة الخطأ وملابساته ودواعيه.

ويقابله المقصود بالنقد ومن وجه إليه فهو أيضا يحتاج إلى صفات عالية وروح متقبلة للنقد مهما كان النقد وممن كان وذلك حسب حالاته المختلفة، فقد يكون النقد موجهاً إلى الشخص نفسه كالأخطاء الخاصة، وهذه كثيرة جداً بحكم اختلاط الناس بعضهم ببعض، فما دام هناك لقاءات في المجالس والمناقشات وبين الأصدقاء والأقرباء والمعارف فيعني ذلك حتمية الزلل والخطأ، رغم تفاوت درجات الخطأ من شخص لآخر بحكم عقلية الأشخاص ومدى تعقلهم وحرصهم، وقد يكون النقد موجهاً إلى موظف في وظيفته وهنا فالأمر مختلف لان الخطأ متعد وليس بلازم إذ إن الخلل في العمل او الخطأ فيه يعني تضرر الغير من ذلك الخطأ، وحينئذ فقبول النقد في هذه الحالة ضروري ويدخل في هذه الحالة حالة ثالثة وهي نقد إدارة أو جهة أو قطاع مسؤول عن ذلك الخلل وذلك لعموم وقوع ذلك الأمر وشموله، وهذا النقد أكثر الحالات انتشاراً وذلك لان المواطن عين خفية ينظر بها المسؤول إلى جهات من العمل قد تخفى، فالنقد في هذه الحالة ينحو نحواً سديداً فهو يشكل حلقة وصل تربط بين المسؤولين والمواطنين بأقصر السبل وأيسر الطرق، فساعدت وسائل الإعلام وبخاصة الصحافة على إيصال صوت المواطن بصورة متعددة إما بعرضها لمشكلة أو إبداء للآراء والمقترحات أو بنقل الشكاوي والملاحظات أو..أو.

 

وأفضل حالات النقد: أن ينقد الشخص نفسه (النقد الذاتي) فيتتبع المرء عيب نفسه ويحاول إصلاحه وعلاجه ويجاهد النفس على تقويمه، وهذا نقد لا يمارسه إلا من سمت به الرتب واعتلت به مروءته فوق هام السحب، فيتعهد نفسه دائماً يعدلها ويتفحصها ويتتبع خطواتها ويضع لها ميزاناً تسير وفق كفتيه بلا تطفيف، فما أحب أن يعامله الناس به، عامل الناس بمثله وأحسن منه.

وبعد ما سبق فمن منا يتقبل النقد هذه الهدية التي تبقى وتدوم، فهناك من لا يقبلها ولا يفرح بها وقد فرح بهدية تفنى وتزول والحال في ذلك كما قال الشاعر:

ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه * فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا

وبالهمة العلياء ترقى إلى العلى * فمن كان أعلى همة كان اظهرا

ولم يتأخر من أراد تقدماً * ولم يتقدم من أراد تأخرا

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply