أسلوب التعامي والتغابي عواقبه وخيمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أحد أهم مقاصد التثقيف الجنسي فتح أبواب التواصل بين المربين والطفل أو المراهق فيما يحتاج إلى معرفته بما في ذلك، طبيعة وطبيعية هذه الرغبات والمشاعر والحاجات، وعلاقة الأخلاق بالدين.

 

قصة:

أحمد رجل أعمال متمكن واسع الأفق والاطلاع، فوجئت باتصال منه في يوم من الأيام يسألني:

عمر، كيف يمكنني أن أفتح موضوعًا حول الجنس مع ابني؟

قلت لم السؤال؟

قال: لأنه وصل إلى مرحلة أعتقد أنني قلق عليه خلالها، ولهذا أحتاج إلى أن أفتح هذا الموضوع معه، لكن أخشى أن يسقط حاجز الأدب بيننا!..وبصراحه أنا محرج أن أتكلم معه في هذا الموضوع لكن لابد من ذلك.

قلت: بسيطة........ هل تذكر يوم كنت في عمره؟

قال: نعم.

قلت: هل لك أن تستخدم بعضًا مما مررت به سببًا لفتح هذا الموضوع معه وأنتم في سفر أو مشوار مشترك أو جلسة فردية غير موجهة وعفوية، لا كأنها درس أو حصار لابنك؟ الذي عليك استخدامه لفتح الموضوع إحداث شائعة... مثل كلام الأصدقاء... إشارات من أحد ما ضايقتك أزمات وددت لو كان والدك معك خلالها.

قال: تدري! لم يرد في ذهني هذا قط.

قلت: تذكر أن الحوار ليس مقصودًا لذاته، أي ليس للتثقيف المباشر خلال جلسة واحدة، بل المقصود هو إشعار ابنك أن هذا الموضوع قابل للنقاش، ويمكنه أن يفتحه متى شاء... ولهذا كل ما عليك هو فتح الموضوع بشكل أو بآخر وبث بضع رسائل يهمك أن يسمعها ابنك، وتكون هذه بداية لحوار يتجدد بحسب الحاجة والظروف سواء بمايحتاج إليه هو أو تراه أنت في المستقبل.

«أحد أهم مقاصد التثقيف الجنسي فتح أبواب التواصل بين المربين والطفل أو المراهق فيما يحتاج إلى معرفته بما في ذلك، طبيعة وطبيعية هذه الرغبات والمشاعر والحاجات، وعلاقة الأخلاق بالدين. وهذا يساعد على فهم مفهوم العفة وإدراكه لا كوسيلة أو مفهوم لمكافحة الانحراف فقط كوظيفة ثانوية، بل كأساس في السلوك الإنساني والبشري والإسلامي وهذه وظيفته الأساسية. ويدرك أيضًا مفهوم المحافظة على النفس والجسد، وأسباب الستر سواء ستر العورات أو ستر الأعراض، والطرق الشرعية لتحقيق ذلك، وعلاقتها بالواقع المجتمعي الذي يعيشه. وأيضًا الوعي بهذه العلاقة وآدابها الإنسانية بحسب عمر الطفل وحاجته إلى المعلومة، وكل هذا بحسب ظروف المجتمع عمومًا. وكذلك يقصد منه نزع صفة السرية والخجل عن النقاش في موضوعات الجنس وتفصيلاته، ما يقلل من صعوبة المصارحة عند حدوث طارئ كمحاولة إغواء أو التعرض لتحرش أو ماشابه ذلك، أو عرض طفل أو مراهق آخر لمعلومات من نوع أو آخر ما يحتاج معه الطفل لاستشارة الكبار في محيطه حول هذا الموضوع. وليس المقصود من التثقيف الجنسي للصغار التعليم التفصيلي لبعض الممارسات أو ما شابه ذلك من دقائق الأمور التي هناك حاجة إلى تعليمها لطالب الزواج أوالموشك عليه من الجنسين».

 

مدخل:

الانفجار المعرفي الهائل وسهولة توفر المعلومة لم يترك خيارًا لأحد، فلا توجد معلومة يمكن أن تظل خفية ولا بعيدة عن التناول، الذي في المتناول هو أننا نستطيع خلق ظروف مناسبة لتلقي المعلومة بالشكل الصحيح لا الخاطئ مما يعطيها أبعادًا أكثر أمنًا وأقل ضررًا، وتصبح إيجابية في صناعة الإنسان لا سلبية عليه في مسيرته، أما سياسة التعامي ودس الرأس في الرمل، أو ظننا أننا نستطيع ان نحمي أبناءنا من التعرض لمعلومات من هذا النوع فإن فيها تغابيًا منا ومحاولة للتنصل من الدور الأساسي الذي نحتاج إلى أن نؤديه في هذا المجال.

ومسألة خلق الظروف المناسبة لتعليم أي معلومة من الأهمية بمكان لأن الأبحاث تؤكد أن جو تعلم معلومة ما له علاقة قوية بطريقة استحضارها وتأثيرها في التفكير، فعلى سبيل المثال في إحدى التجارب المشهورة وجد أن عرض فيلم ذي محتوى واحد على مجموعتين إحداهما وضعت في جو مثير للحزن والأخرى في جو مثير للفرح نتج عنه أن الموجودين في جو حزين تشاءموا ووضعوا أفكارًا حزينة في فهمهم لهذا الفيلم وتفاعلهم معه، أما الذين وجدوا في جو مفرح ومثير للبهجة فإنهم حللوا الفيلم وتفاعلوا معه بإيجابية وتفاؤل أكثر، ومن ثم فإن تذكر وتحليل أي معلومة والتفاعل معها يتغير كثيرًا بحسب الحالة النفسية.

ولهذا حينما يمارس التثقيف الجنسي بين الشباب والمراهقين وكذلك الأطفال بدون ظروف مناسبة، بل في جو من الإيحاء بتعظيم هذه الممارسة والرغبة وإعطائها حجمًا كبيرًا من اللذة عن طريق الخيال أو عن طريق المشاهد الجنسية التمثيلية الحقيقية أو غير الحقيقية فإنه يصبح لهذه المعلومة ارتباط كبير بالإثارة الآنية المرتبطة بطريقة استحضار المعلومة والأحداث والمشاعر التي صاحبتها ما يؤثر في الخريطة المعرفية للطفل، ويوجد تلازمًا بين المعلومة والاستثارة ولهذا عواقبه الوخيمة على الفرد ذاته أولاً وعلى البيئة العامة مستقبلاً.

أما حينما يمارس التثقيف الجنسي بجو من التخويف والترهيب والمبالغة في ذلك خصوصًا لدى البنات أحيانًا من حيث تضخيم المعاناة أو استقذار الممارسة فإن النتيجة هي روح من الرفض وحالة من الاشمئزاز والنفور من هذه الممارسة الطبيعية ما ينتج عنه صعوبات مستقبلية تؤثر في أداء الدور الجنسي الطبيعي لدى الفرد.

إذًا، لابد من شيء من التثقيف الجنسي مع أنه يتفاوت بين طفل وآخر وسن وأخرى ومجتمع وآخر، لكنه يمارس لأهداف متعددة منها:

* إفهام الطفل أن هذه الممارسة طبيعية في وقتها المناسب وشروطها الشرعية وكذلك الأخلاقية.

* وينتج عن هذا إدخال مبادئ العفة وحفظ النفس بحسب العمر والزمان والمكان.

* إدخال مبادئ مهمة للطفل لتقليل الفضول المرتبط بالمنع لديه ما قد يدخله في جو من التشوق والقابلية للاستغلال بسبب رغبته في هذا النوع من التثقيف بحسب ظروف المكان والزمان.

* تعليم الطفل الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها في هذا المجال سواء من الستر وأحكامه أو الغسل والتطهر عمومًا.

* كسر الحاجز الذي يوجد بين الطفل والمربين من حيث شعوره بأن هذا الموضوع الخطير لا يمكن سؤال الكبار عنه لسبب أو لآخر.

* وضع أرضية معرفية وإدراكية مناسبة للدور الجنسي في المستقبل.

 

موقف (أصل القصة حقيقي):

معلم في الصف المتوسط يشرح شيئًا عن الغسل وأسبابه، يبادره أحد الطلاب ببراءة أو بخبث بسؤال عن معنى الجماع أو اللذة أو ما شابه ذلك من ألفاظ مدرجة في المنهج... يفاجأ المعلم!!! ينهر الطالب!!! تنتهي الحصة الدراسية، في الفسحة أو بعد نهاية اليوم الدراسي، الطلاب الذين لا يعرفون عن هذه الأمور شيئًا يناديهم ويجمعهم من يجرؤ على ذلك، ويتجمعون في زاوية مظلمة أو مكان بعيد يحدثهم أحد الطلاب الذي يعتقد أنه مثقف عن عالم الجنس وأسراره فتأخذهم الدهشة، ويتساءلون عن هذا الذي يمنع نقاشه علنًا وهو بهذه الصفات الرائعة التي أخبرهم بها زميلهم، ومن ثم يكتسب الجنس صورة اللذة الباهرة التي يخفيها الكبار عن الصغار، ويتكون في خيال الطفل وواقعه نتائج كثيرة لهذا.

 

موقف آخر (أصل القصص حقيقي):

مراهق أو مراهقة (أحيانًا) في بيت عادي ككثير من البيوت يحوي قنوات فضائية لا حصر لها، ويوجد في هذا البيت مواد إباحية يأتي بها الكبار ويخفونها عن الصغار، لكن لا تلبث أن تقع بين أيديهم لينظروا إليها وتكون النتيجة أحد أمرين بحسب الإحصاءات والبحوث التي رصدت نتائج تعريض الأطفال للمعلومات الإباحية أو الممارسات الجنسية في سن طفولتهم أو مراهقتهم:

* إما الاندفاع في تعلم هذا الجديد والبحث عن تكرار ما رآه الفتى أو الفتاة والبحث عن أشكال مشوهة لهذه الممارسة والوقوع في الانحراف بحثًا عن آفاق متخيلة ليست حقيقية، وحمل هذه البصمة لزمن طويل تجعل ممارسة هذا الدور أزمة ملحة لدى الضحية الذي تعرض لهذا المشهد الإباحي، ويكون الخيال خصبًا ومزعجًا بالإثارة لفترات تتفاوت بين فرد وآخر، وقد يكون لهذا آثار كثيرة من ضمنها عدم الإشباع والتهور بحثًا عن متعة مشابهة لما تخيلها طفل برئ من مشهد تمثيلي أثار أحاسيسه البكر ولخبط خريطته المعرفية في وقت لم تكن جاهزة له. وربما تحول الجنس وممارسته إلى حالة إدمانية بسبب هذه البرمجة الخاطئة للطفل في وقت مبكر من العمر.

* أو أن يتحول الطفل أو المراهق إلى التقزز ورفض المبدأ كله واستقذار هذه العلاقة وحمل هذه الفكرة في أعماق النفس مما يحدث صعوبات مستقبلية في ممارسة الدور الطبيعي المرتبط بالجنس، وربما انحرافات من أنواع أخرى بحثًا عن اللذة بعيدًا عن التشوه الذي حصل لدى هذا الطفل أو المراهق في طفولته.

وفي ممارستنا العيادية الطبية نرى كلاً من هذين الصنفين وهم يعانون مشاكل متعددة متفاوته، مع ملاحظة أنه ليس كل من تعرض لمواد إباحية يصبح لديه مشاكل، فكثير منهم يتجاوزون هذه الأزمة بخير. بحسب القدرة التي منحها الله للبشر كي يتأقلموا مع الواقع.

 

مشكلة:

إن التثقيف مصطلح عام له تفاصيل كثيرة تحتاج إلى ضبط وتمييز، فمن الناس من يعتقد أن التعرض للمواد الإباحية أو الجلوس مع الرجال أو النساء وهم يتحدثون بفحش هو المقصود، وهذا له آثار ضارة وسلبية للغاية سواء جنسيًا أو ثقافيًا من حيث تجنيس العلاقات الإنسانية أو شهونتها إن صح المصطلح، حيث يشيع في المجالس شيء من ذلك كما ينعكس على الفكرة الأساسية عن هذه العلاقات لدى الصغار وإشعارهم أن الأساس في العلاقات بين الجنسين هو الجنس والرغبة لا التكامل الإنساني ولا القرب الروحي والنفسي، ومن الناس من يرفض التثقيف تمامًا ويصر على جعل هذا الموضوع وتناوله من المحرمات وخوارم المروءة وقلة الحياء وتعويد للأطفال والمراهقين على ذلك وأنه ضار لأنه يفتح أمامهم أبوابًا لا حصر لها، وينبه الغافلين منهم لهذا الأمر المخيف المؤدي إلى الانحراف.

 

الرؤية:

ليس كل تثقيف فيه كسر لحواجز الحياء وإثارة للشهوة، وقد سقت في مقال قديم لي مقارنة بين طريقة بعض الروائيين في وصف سياق العلاقات مما يثير الشهوة والخيال، وهذا واضح في بعض روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس على سبيل المثال وغيرهم كثير الذين ما إن يقرأ الشاب أو الفتاة بل ربما الرجل الناضج والمرأة الناضجة سياقهم حتى تثور رغبة الإنسان الطبيعية في اللقاء الحميمي الطبيعي، وهذا لا ينبغي أن يكون في محاولات التثقيف الجنسي التربوية الذي يجب أن يبتعد عن الإثارة والتهييج كي يكون فعلاً مفيدًا وإيجابيًا، وهناك السياق المثالي وهو السياق القرآني الذي وصف أدق تفاصيل الحياة الجنسية بسمو وعفة مما لا يحرك شهوة عند الناس ولا يورث عواقب غير حميدة، والأمثلة على هذا كثيرة، منها سياق سور الأحكام عن الدخول والغسل والملامسة وقضاء الوطر في مواقع متعددة من القرآن، وكذلك سياق الإغواء والرغبة كما في تفاصيل قصة يوسف - عليه السلام - بتفاصيل دقيقة ومعبرة جاءت في سياق قرآني راق لا يمكن أن يكون له آثار سلبية كما للسياق الروائي الإغرائي، وكذلك في أحكام النظر والتركيز على العفة وغض البصر وحفظ الفرج في إشارات واضحة لنقطة ضعف طبيعية عند الإنسان وتحذير من أن تخرج عن إطارها البناء الصحيح، وتتمثل أحد هذه الطرق التوعوية تقرير أهمية الشهوة الجنسية لدى الجنسين في سياق قرآني يصف الشهوات الإنسانية {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير..... }، ثم وصف طبيعية التجاذب بين الجنسين وتأسيس مفهوم المسؤولية الفردية في حفظ النفس والآخرين عن الفواحش ومناطق الزلل، ثم وصف لطبيعة اللقاء البشري وجاذبيته وأنه قضاء للوطر ونوع تكامل إنساني سام لا شهوة مستقذرة يتخلص منها المرء تخلصًا.

 

كيف يكون التثقيف؟

ربما أفضل طريقة للتثقيف هي مجال التعليم والتعليم الشرعي، خصوصًا باستغلال فرصة تعليم الأحكام الشرعية وذكر ما يفيد المتلقين في هذا الباب، وربط هذا الموضوع بالطبيعة البشرية وفتح المجال للنقاش والبحث مع الطلاب فتحًا للباب حول هذا الأمر، ولإيجاد جو تعليمي ناضج يسمح بتبادل المعلومات مع عدم المبالغة في الجدية والسماح بشيء من المزاح والتخفيف من الجدية، ويمكن استغلال دروس الأحياء وما شابهها لتجلية بعض الظواهر التي تعد معرفتها مهمة للطالب بحسب سنه. وكذلك الأدب يمكن توظيفه لتحليل نصوص من الحب والشوق الطبيعي بين الرجل والمرأة مع إيضاح صور العفة والستر والمحافظة على الأعراض. وبتكامل الطرح من جهات متعددة يمكن إيصال الرسائل المهمة للطالب والمتلقي كي يفهم أن الجنس أمر طبيعي يمكن نقاشه مع معلمه ووالده ووالدته وهو ليس(تابو) في الحس الإسلامي ألبته، بل حيز مفتوح للنقاش ومخلد ذكر تفاصيله في القرآن العظيم الذي نتطهر لقراءته ومن ثم فليس في المعلومات حول هذا الشأن أي كسر لحاجز الحياء.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply