تشتد حاجة المسلمين اليوم إلى مُثُل عليا، يقتدون بها، ويقتفون أثرها، ويحذون حذوهاº وذلك بسبب ضعف فهم الناس للدين، وقلة تطبيقهم له، ولغلبة الأهواء، ولإيثار المصالح العاجلة، مع قلة العلماء العاملين، والدعاة المصلحين..فنحن في هذه المرحلة من الزمن ـ وقد بدت آثار الصحوة الحقة تبهت في مجتمعنا المسلم ـ تتضاعف حاجة المسلمين في مختلف أوساطهم وطبقاتهم إلى قدوات وريادات تكون أنموذجاً واقعياً، ومثالاً حيا يرى الناس فيهم معاني الدين الصحيح: علماً، وعملاً، وقولاًº فيقبلون عليهم، وينجذبون إليهم، إن التأثير بالأفعال والأحوال أبلغ وأشد من التأثير بالكلام وحده، وقد قيل: شاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
ونحن في هذه الفترة العصيبة التي تمر على الأمة من الضعف والهزيمة نحتاج أن نحقق في أنفسنا الأنموذج الصحيح لهذا الدينº لكي يحقق الله لنا النصر والتمكين، ونسد على المتربصين أعداء الدين منافذ تسلطهم وسطوتهم باسم الإصلاح وحفظ الحقوق. فهذا خليل الله إبراهيم - عليه السلام - لما جعله الله إماماً للناس يُقتدى به قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} (البقرة: 124) أخبره الله - تعالى -أن فيهم عاصياً وظالماً لا يستحق الإمامة فقال: {لا يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124). فإذا أردنا أن يحفظ الله لنا ديننا ويستتب أمننا ونرد كيد أعدائنا، فلنقِم هذا الدين علماً وعملاً ومنهجاً لحياتنا وسلوكنا.
إذ أن المسلم القدوة أشد على أعداء الدين من كل عُدَّة، ولذلك لما تمنى الناس ذهباً ينفقونه في سبيل الله، كانت مقولة عمر بن الخطاب \"ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله\" فعسى إن كنا على مستوى حسن الأسوة والتأسي أن يمكن الله لنا في الأرض وأن يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين.
أهمية القدوة في حياة المسلمين وواقعهم:
1- إن القدوة هي: ذلك التأثير الغامض الخفي الذي يُمثِّله أفعال وأقوال ومواقف المثال الحي المرتقي في درجات الكمالº مما يثير في نفوس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تتهيج معها دوافع الغيرة والتنافس المحمود، ويتولد لديهم حوافز قوية تحفزهم لأن يعملوا مثله، وقد يكون ذلك دون توجيه مباشر.
2- القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل والاستقامة تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذا المستوى أمر ممكن، وأنها في متناول قدرات الإنسان ولا سيما في زمن الفتن وكثرة الصوارف.
3- مهما توسعت دائرة المعارف وانتشر العلم بين الناس، فإن واقعهم لا يزال يشكو القصور والانحراف، ما لم يقُم بذلك العلم عاملون مخلصون يكونون قدوات في مجتمعاتهم وطبقاتهم، يمتثلون أمره ويخطون على منهجه، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي يفهمه الجميع، ومن ذلك ما كان من تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش ابنة عمته من زيد بن حارثة مولاه الذي أعتقه لكي يكون قدوة ومثالاً حيا للناس لما تأصل في نفوسهم الفوارق الطبقية التي جاء الإسلام بإلغائها.
4- إن غياب القدوة في حياة المسلمين عامل رئيسي في فشو الجهل وانتشار المنكرات واستفحالهاº وذلك لأن العاملين بالعلم والقائمين بدين الله هم في الحقيقة دعاة يعلنون الحق بأفعالهم، وينشرون الدين الحق حين ينتشرون بين الناس، فيظهر أمره في الناس وتنحسر بالتالي المنكرات. وقد نُقل عن إبراهيم ابن أدهم أنه قال يوماً لأصحابه: ادعوا الناس وأنتم صامتون قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم.
5- الناس ينظرون إلى المتعلم للعلم الشرعي نظرة دقيقة فاحصة دون أن يعلم، فرب خطأ يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائرº وذلك لأنه محسوب في مجتمعه قدوة لهم، وهنا تكمن أهمية القدوة وخطورتها، إذ أن كل مفارقة بين أقوال القدوة وسلوكه واهتماماته تشكل مصدر حيرة وإحباط لدى عامة الناس ولا سيما المبتدئون في الالتزام ويكون مصدر فتنة للناس واستخفافا بالعلم الذي تلقاه.
فالذين يعرفهم الناس بالصلاح والتدين، وهم في الحقيقة جمعوا مع تلك السمعة تناقضا في الواقع، ومخالفة لما يفترض أن يكونوا عليه، فهؤلاء لا يقال فيهم إنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوات، بل إنهم يمارسون دوراً تخريبياًº إذ هم يشوهون صورة الصالحين والفضلاء في أذهان العامة، ويعطونهم صورة مخالفة لحقيقة الدين التي قد لا يعرفونها إلا من خلالهم، كما إنهم يشجعون الناس بطريقة خفية على التميع والهشاشة الدينية، ويتسببون في تبخير ما بقي من تعظيم واحترام الشريعة، ويكونون سبباً في فقد ثقة الناس بالصالحين.
ولذلك فإن المسئولية عظيمة وكبيرة على العلماء والدعاة والصالحين وذويهم وأهل بيوتهم بشكل خاص، إذ لا بد أن يُؤَهلوا تأهيلاً خاصاً لإكمال وظيفتهم الدعوية في المجتمع عن طريق الاهتمام بتحقيق القدوة والأنموذج الواقعي للتدين والاستقامة، وهذا يلقي عليهم مسئولية عامة تجاه الناس فضلاً عن مسؤوليتهم الخاصة تجاه أنفسهم فيما بينهم وبين الله - تعالى -.
وعلى ذلك، فإن على كل مسلم ومسلمة عرف طريق الحق وسلكه أن يجاهد نفسه ليقترب ما أستطاع من ذلك الأنموذج الإنساني الراقي، ـ نعني به القدوة ـ.
وإذا نظرنا في تاريخ العلماء والصالحين وجدنا أدبيات كثيرة تحث المسلم على التميز والحرص على العمل بالعلم، إذ يقول سفيان بن عيينة: \"إذا كان نهاري نهار سفيه، وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الذي كتبت\"، وقال الحسن: \"كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه، وبصره، ويده\".
فالساعي في الخير لا بد أن يسير في طريق المجاهدة ومنابذة الشهوات، ولا يرتضي لنفسه أن يكون من الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم \"يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون\" وإنما يحرص على أن يكون من أتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفوا بأنهم \"يأخذون بسنته ويقتدون بأمره\" وكما يقول مالك بن دينار: \"إن العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصخرة الصماء\".
مقومات القدوة:
1- الإخلاص، وهو من أعظم المطالب، إذ يجب أن يفتش عنه الإنسان المُقتدى به، فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله - عز وجل - بعيداً عن أغراض النفس ونظر الناسº فيفعل الأمر ويترك النهي مع تمام الخضوع لله والتسليم له.
2- الاستقامة على الإيمان والعمل الصالح، فهناك الكثير من الصالحين، ولكن قليل من يستقيم على ذلك ويتمسك به في كل أحيانه وظروفه وفي كل زمان ومكان لا يتغير ولا يتلوَّن ولا يحابي، فللقدوة في نفسه شغلٌ بين إقامتها ومجاهدتها وسياستها. وهذا هو المطلب الأعلى والنهج الأسمى، وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم.
3- حُسن الخلق: إذا كانت الاستقامة والصلاح يتوجهان إلى ذات المُقتدى به ليكون صالحاً في نفسه، قوياً في علاقته مع ربه، فإن حسن الخلق يتوجه إلى علاقته بالناس وأصول تعامله معهم، ويُجمل ذلك المنهج الدعوة النبوية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"وخالق الناس بخلق حسن\"، والكلام في حسن الخلق واسع ومتشعب ولكن نجعله في كليات وأمور منها:
- الصدق، فيحذر القدوة من الخداع والكذب والتحايل، وكل خلق يضاد صفة الصدقº لأن المؤمن القدوة لابد أن يطمئن إليه الناس ويثقوا به، ولا يكون ذلك إلا لصادق الصبر وتحمل الأذى والصفح عن المسيء وسعة الصدر، إذ أن الناس يكتشفون معدن الإنسان ويمنحونه احترامهم وثقتهم عن طريق رؤيتهم لتصرفاته وتعامله وأخلاقياته الراقية التي تنشأ عن الصبر والاتزان. ومن أعظم أنواع التعامل الحسن أيضاًً:
- التواضع وإنكار الذات وأن يألف ويُؤلف، وكذلك العفو والتسامح وغض الطرف عن الهفوات، ومن مكارم الأخلاق التي هي من مقومات القدوة: عفة اللسان والترفع عن القيل والقال وترك الانشغال بسفاسف الأمور وتجنب الخوض مع الخائضين.
- ومن صفات القدوات: الكرم والرحمة وأداء الأمانة ووفاء الوعد والقناعة والعفة والرضا بالقليل.. وغير ذلك من الأخلاق والصفات التي تجسَّدت في قدوتنا وأسوتنا الأكرم سيد الخلق وقدوتهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
4- استقلال الشخصية، وذلك ركن رئيس في سمات القدوة فيتحرر القدوة من التبعية والتقليد الساذج، فيكون مؤثراً لا متأثراً ما لم يكن متأثراً بهدي الصالحين والمصلحين، فلا يليق بمن هو في موقع القدوة أن يكون إمعة يخضع لضغط الجهال والسفهاء، يميل معهم حيث مالوا. وقد ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قوله \"وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا وإذا أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم\" ولكي لا يفتتن به إمعة من رعاع الناس لا يرى الدين إلا من خلال تصرفاته فكما تكون الإمامة والأسوة في الخير فهناك قدوة الضلالة ينظرون الناس إليه على أنه مثلهم الأعلى. فإن زلَّ زلٌّوا معه، وإن عاد إلى الصواب بعد ذلك قد لا يعودون.
5- من مقومات القدوة الاعتدال في أمور الحياة ونهج منهج التوسط والاقتصاد ومراعاة آداب الشريعة وتوجيهاتها في أمور المعيشة ولا سيما في اللباس والمظهر.. وهما الامتداد المادي لحقيقة الذات، والعاكس المهم لكثير من كوامن الشخصية وخصائصها فمن المهم أن ينسجم مظهر القدوة مع منهج التدين الذي ينسب إليه والحذر من المفارقات والتناقص الذي يضعف أثر القدوة في نفوس الناس.
6- تنظيم الوقت وحفظه، من مقومات شخصية القدوة بحيث يعطي كل ذي حق حقه، ولا يطغى جانب في حياته على جانب آخر فتضيع الواجبات والأولويات على حسب الاشتغال بالتوافه والثانويات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد