بسم الله الرحمن الرحيم
أعظم العبر في تعاقب الليل والنهار، وطلوع الشمس وأفول القمر، لمن تأمل واعتبر..فطلوعها وغروبها يُؤذن بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي دار أفول وزوال.قال - تعالى -: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لِأُولِي الأَبصَارِ) (النور: 44)..
والعقلاء العالمون هم الذين يتبصَّرون في انقضاء الليالي والأيام، ومرور السنين والأعوامº فيعتبرون ويتفكرون عند انقضائها وانطوائها، مستدلين على ذلك بقِصَر الدنيا وسرعة زوالها.. وكذلك لو تأملنا سرعة انقضاء عُمر الإنسان، فها هو يتطلع إلى آخره تطلع المؤمل للبعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت وجاءته سكرة الموت بالحق، فالإنسان في هذه الدنيا مسافر، فلا ينبغي أن يتخذها وطناً ومسكناً، فهي دار ممر سريع، الراكب لا يفتر ليلاً ولا نهاراً، فالمسافر ربما ينزل منزلاً فيستريح، ولكن مسافر الدنيا لا ينزل بل هو دائماً في سفر، كل لحظة يقطع به شوطاً يبعده عن الدنيا ليقربه من الآخرة.. قال قتادة - رحمه الله -: \"أروا الله من أنفسكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيتان تحملان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتُبلِيان كل جديد، وتجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة\".
والمؤسف أن هناك من تمر عليه السنة بعد السنة وهو مستثقل في سنة الغفلة، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي الناس خير؟ قال: \"من طال عمره وحسن عمله\" قيل: فأي الناس شر؟ قال: \"من طال عمره وساء عمله\".
وهناك أقوام يوم القيامة يُعَيَّرون بطول أعمارهم، فتكون حجة عليهم إن هم أساؤوا فيها فيقال لهم: }أَوَلَم نُعَمِّركُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ,{(فاطر: 37)، أما من هم تحت العشرين وفوقها فنقول لهم: كم مات من أقرانكم وتخلفتم! قال ابن الجوزي - رحمه الله -: \"يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً، ولا يغتر بالشباب والصحةº فإن أكثر من يموت من الشباب ولهذا يندر من يكبر\"، ولا سيما إذا علمنا أن في آخر الزمان يكثر موت الفجأة (أي موت الشباب المعافى).
وهذه ليست دعوة لليأس من رحمة الله، وليست نظرة تشاؤمية للحياة كما يتصورها البعض.. ولكننا نريد ألا نتكل وتغرنا الأماني وطول الأملº فنهمل العمل فيبغتنا الموت على غير استعداد وعُدَّة.
لذا فلنتدارك قبل لحظات الندامة وحسرة الفوات.. قال - تعالى -: {أَفَرَأَيتَ إِن مَتَّعنَاهُم سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغنَى عَنهُم مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (الشعراء 205-206-207).. فالعمر مهما طالت أوقاته فإن لذاته تذهب وتمضي وكأنها لم تكن، ويبقى أثرها وتلحق تبعتها.. فالعاقل هو الذي يختار لنفسه ما يعود عليه من وقتهº لأنه عائد لا محالة {وَأَن لَيسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرَى* ثُمَّ يُجزَاهُ الجَزَاءَ الأَوفَى} (النجم: 41).. لهذا يقال للسعداء في الجنة: {كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسلَفتُم فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} (الحاقة: 24).. ويقال للأشقياء في النار: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُم تَفرَحُونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنتُم تَمرَحُونَ} (غافر: 75)... وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول له: لا والله يارب.. ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شراً قط\"، فرغم ما رآه ذلك العبد من النعيم الدنيوي فإنه تتضاءل مدة استمتاعه به، حتى إنه ينساها تماماً عندما يعاين تبعات تلك اللذات المحرمة وعقوباتهاº مما تجعل أهل الدنيا ينسون المدة التي لبثوها قال - تعالى -: {قَالَ كَم لَبِثتُم فِي الأَرضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثنَا يَوماً أَو بَعضَ يَومٍ, فاسأَلِ العَادِّينَ} (المؤمنون: 112 ـ 113) {كَأَنَّهُم يَومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَم يَلبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ,} (الاحقاف: 35).
وكثيرٌ ممن تمر عليه السنة بعد السنة وهو منشغل في نوم الغفلة، قصر عمره باللهو واللعب.
إننا ونحن نستقبل عاماً جديداً ونودع عاماً مضى شاهداً علينا، أودع فيه أقوام من التفريط والتسويف والآمال، فكم من أمر من أمور الخير فات وهم يقولون سيأتي يوم نكون فيه من الأبرار ونكون فيه من المستغفرين بالأسحار، أين هم من آخرين قضوا عامهم في استباق الخيرات وفعل الطاعات واجتناب المعاصي والمنكرات، فأي الفريقين أحق بالأمن وحسن العاقبة؟
فالذي ينبغي علينا عند خاتمة هذا العام ومع إطلالة العام الجديد أن نقف مع أنفسنا وقفات جادة وصادقة، عازمين بهمة عالية على إصلاح أنفسنا وتغيير حالنا ومن تلك الوقفات:
1. الوقفة الأولى: التأمل والاعتبار بنهاية العام على خاتمة العمر ونهايته، عن المقداد بن الأسود قال: لا أقول في رجل خيراً ولا شراً حتى أنظر ما يختم له، بعد شيء سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"لقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانها\".
والخاتمة السيئة تكون في الأصل بسبب ضعف الإيمان الذي يورث الانهماك في المعاصي والإصرار عليها، قال القرطبي - رحمه الله -: \"اعلم أن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمع بهذا ولا عُلم به والحمد لله، إنما تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، أو إقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويخطفه عند تلك الدهشة ـ والعياذ بالله ـ أو يكون ممن كان مستقيماً ثم يتغير عن حاله فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته\".
أما حسن الخاتمة فتكون للإنسان الذي يأتيه الموت وهو على حال يرضي الله - سبحانه وتعالى - من الإقبال على الطاعات، وانشغال القلب بالله - تعالى -، وسلامته مما يبغضه اللهº فيكون موته على تلك الحال الحسنة.. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته\".
2. الوقفة الثانية: وقفة للمحاسبة ولوم النفس على التقصير والتفريط فيما مضى.. فالمحاسبة تكشف خبايا النفس وتظهر عيوبهاº فيسهل علاجها قبل فوات الأوان.. والمحاسبة ليست مطلوبة لمجرد اللوم والحزن دون صلاح وإصلاح، بل لابد من المحاسبة المثمرة التي تولد ندماً على معصية، وتحول إلى خير.. والأصل في ذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ,} (الحشر: 18).. ومحاسبة النفس تكون على الفرائض أولاً في حقوق الله - تعالى -وحقوق عباد الله، يحكى أن بعض الصالحين بكى عند موته وقال: (إنما أبكي على أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم).
3. الوقفة الثالثة: مع التوبة والندم على ما مضى، وتجديد العزم على إصلاح ما بقي قبل فوات الآوان. قال - تعالى -: {إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السٌّوءَ بِجَهَالَةٍ, ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ,} (النساء: 17) قال ابن عباس: \"من قريب أي قبل فجأة الموت\" والمراد بالتوبة قبل الموت أي: قبل الغرغرة التي يكون فيها انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر لأمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة.. والإنسان قد لا يتمكن من التوبة قبل الغرغرة، إما لأنه لا يزال يؤمل الحياة، وإما لأن الشيطان يتسلط عليه في تلك اللحظة ويشككه في دينه، أو أنه يفقد الثقة بربهº فيسيء الظن بهº فلا ينطق بكلمة التوحيد، ويستهين بهاº فيقول في نفسه: ما عساها أن تنفعني في هذا الموطن! ومنهم من يحبس دونها لسانه، فيجتمع عليه سكرة الموت وحسرة الفوت.. وأفضل أوقات التوبة أن يبادر الإنسان في صحته قبل نزول المرض بهº حتى يتمكن من العمل الصالح الذي يبرهن على صدق التوبة، ولذلك قرن القرآن التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة.
وقد ذكر أهل العلم قواعد ومقومات لصحة التوبة ودوامها منها:
أ. إزالة كل ما يربط بالماضي الأثيم وتغييره، كالأشرطة التي تحتوي على مواد محرمة، وقد تكون صورا، أو بقايا علاقات محرمة ونحو ذلك.
ب. ترك أصحاب الردى، وترك أرض المعصية، يقول - صلى الله عليه وسلم - \"المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل\"، وقد قال عليt \"لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود أنك مثله\" ولو لم يكن لتأثير الصحبة مساوئ سوى ألفة المنكر لكفى.. وكذلك يحرص التائب على تغيير بيئة المعصية وهجرهاº لأنه لا يأمن على نفسه، لذلك جاء في حديث توبة القاتل مئة نفس أنه قيل له: \"لا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء\".
ت. استحداث أعمال صالحة لم تكن قبل التوبة.
ث. تذكر الرقدة الكبرى.. والذي يكثر من ذكر الموت فإنه قلبه سيتعلق بالآخرة، وستضمحل الدنيا في عينيهº فيبادر بالأعمال قبل لحاق الموت به.
وفي الخـــتــام: فإن الله - جل وعلا - جعل بحكمته بركة الأوقات وعظم فضلها في أواخرهاº ليتدارك العبد ما فاته من التفريط والتقصير في أولهاº وللظفر بمزيد من فضلها الذي بقي في آخرهاº ولأن العبرة بالنهايات والخواتيم، فالعام كله جعل آخره شهر ذي الحجة وهو أعظم الشهور عند الله، فهو شهر حرام، اجتمع فيه من العبادات العظيمة ما لا يجتمع في غيره كالحج والذبح والتكبير والتلبية، وجعل فيها أعظم أيام السنة، وهي العشر المباركة حتى يختم العام بخاتمة خير وطاعة، فهذا الليل والنهار أفضله آخره، وكذلك يوم الجمعة ويوم عرفة وشهر رمضان وعشر ذي الحجة وفي الحديث \"إنما ألأعمال بالخواتيم\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد