أزمة التربية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يدور في هذه الأيام، جدل حاد داخل المجتمع الأمريكي، بين أنصار المفهوم الذكي، أي أن هناك خالقا ذكيا، هو الذي خلق الإنسان، والعالم، بما فيه من كائنات على الشكل الذي هو عليه الآن. وبين أنصار نظرية التطور، أو ما يسمى بنظرية النشوء والارتقاء، لصاحبها داروين، والتي ترى أن الكون، وجد بذاته، ولذاته، عن طريق التطور الذاتي، من شكله البسيط أي الخلية الواحدة، إلى شكله المعقد، المتمثل في الإنسان. والمجتمع الأمريكي، منقسم على نفسه، أي النظريتين أحق بالتدريس لتلامذتهم وطلابهم؟ فالعلمانيون يصرون على تعليم نظرية داروين، لأنهم يريدون مجتمعا في النهاية ملحدا، علمانيا، أما الكنائس والمتدينون بغض النظر عن مفهوم الدين عندهم، وعلى رأسهم بوش، فيرون أن نظرية المفهوم الذكي هي أحق بالتدريس لأبنائهم، لأنهم يطمحون إلى تشكيل جيل جديد، ومجتمعا قائما على الإيمان. هكذا ينظر الغرب إلى التربية. فالتربية عنده مشروع مجتمع، ونظرة مستقبلية. أما نحن فالتربية عندنا تقليد، واجترار، لتجارب الغرب الفاشلة. نعم إن الحديث عن التربية، يلزمنا أن نشير إلى الفرق بينها، وبين التعليم، فهي تشمل جميع جوانب الشخصية الإنسانية، بينما التعليم هو مجرد وسيلة من وسائل التربية. ومن ثم قيل {نتعلم لنتربى ولا نتربى لنتعلم}. إن التعليم يركز على المهارات العقلية، واللغوية، والمهنية، والفكرية...وأصبحنا اليوم نتحدث عن تعليم الصناعة الميكانيكية، والهندسة الكهربائية، أو تقنيات الكهرباء، وتقنيات التسيير المحاسباتي وهلم جرا... نعلمهم مهارات يدوية، وفكرية. لكن لا نربيهم على سلوكات أخلاقية. والمتعاملين مع طلبة هذه الشعب يعرفون مقدار ما يعانون معهم من متاعب جراء سلوكاتهم الغير مقبولة. أما التربية فهي تهتم بما هو أشمل، وأعم. فهي تتناول السلوك، والعاطفة، والاتجاهات الأخلاقية، والقيم الإنسانية والدينية.... وأزمتنا اليوم هي أزمة تربية، وليست أزمة تعليم. وواقعنا شاهد على ذلك. فخريجونا من تلامذة وطلبة يملكون مهارات، وتقنيات، ومعارف عقلية لا يختلف حولها اثنان. لكنهم في غياب التربية الروحية، والدينية، لا يتورعون في استخدامها استخداما ذاتيا إذا تعارضت مصلحتهم مع المصلحة العامة. ويمكن لنا أن نعطي مئات الأمثلة من واقعنا الاجتماعي. فالفساد الإداري، والرشوة، والمحسوبية، والعلاقات الزبونية، والقرابية... التي أصبح الكل يتحدث عنها بما في ذلك وسائل الإعلام ما هي إلا نتيجة تعليم بلا تربية. فالطبيب، والمحامي، والمهندس، والمعلم، قد يكون ناجحا مهنيا، ولكنه فاشلا في علاقاته الاجتماعية غير محبوب من طرف المتعاملين معه، ولا من مجتمعه، ويكون مضغة للألسن. وحتى الفاشلين من في دراستهم من أبنائنا تشردوا ولم يستطيعوا الاندماج في مجتمعهم، وأكثرهم مالوا إلى المخدرات أو التسكع. والانحراف، والفساد الأخلاقي.. ز لأنهم تعلموا في غياب تام للتربية، وأصبح الآباء يحملون المسؤولية للمدرسة، ويحق لهم ذلك. لأن في وعيهم وشعورهم نموذج التربية المسجدية التي ظل خريجوها وحتى الفاشلون منهم، على مر السنين لا يجدون أدنى صعوبة في الاندماج في مجتمعهم والانسجام التام في الحياة. فلم يكونوا يعرفون لا التشرد، ولا الفساد، ولا العربدة. وكانوا عونا لوطنهم، وسندا له، لا مصدر إزعاج وقلق. إن اتصالنا المباشر، والمستمر بتلامذتنا سمح لنا بالتأكيد على الحقيقة التالية: وهي أن جيل اليوم أصبح يكره العلم والتعلم لأنه يضع نصب عينيه أزمة البطالة، ويقول في نفسه ما الفائدة من التعلم اذا كانت النتيجة واحدة وهي البطالة وقد عانى منها أخي وابن عمي وجارنا القريب والبعيد... سواء أفصح عن ذلك أم ظل يحتفظ به في لا شعوره. وفي تقديري أن هذا هو السبب الرئيسي في عدم اكتراث التلاميذ بالدرس والتحصيل وفي الإكثار من التغيبات الفردية والجماعية وفي الانقطاع المبكر والعنف المادي والمعنوي ضد الأساتذة والتشهير بهم في الإنترنت... فقد كرهوا المدرسة والمعلم والمجتمع وهذا يحدث في غياب التربية التي لم تعلهم أن العلم فريضة على كل مسلم، وأن الرزق مضمون من الله فلا تشغل نفسك به فسيصلك في حينه. إن كل تربية لا تضع في حسبانها الجانب الروحي هي تربية فاشلة لا تستطيع أن تصل إلى الأهداف المنشودة. لأن قضية الإيمان كانت وما زالت القضية الأساسية للإنسان. والواقع أن كل هدف لا يرتبط بالإيمان سيكون غريبا عن بنية الإنسان وصفاته التي تميزه عن غيره من المخلوقات التي فضل عليها، لا بد أن تكون الغاية النهائية من التربية مرتبطة بالإيمان مؤدية إلى البعد الذي يربط الإنسان بخالقه. دون أن نغفل الدعوة إلى التربية العقلية حتى يكون هناك توازن بين العقل والإيمان. ولأن التربية العقلية هي رأس مال الأمة باعتبارها تؤدي إلى نمو العقل وزيادة قدراته. فنحن كمسلمين أولا ومربين ثانيا مطالبون بتكوين عقلية مؤمنة تفكر بمنطق الإيمان وتنظر بمنظاره الشمولي إلى الكون والحياة، علينا أن ننشئ جيلا مسلما يفكر بعقلية إسلامية ويقوم الحياة بمعيار إسلامي، لا بمعيار أمريكي، ولا ننخدع بما يسمى بالحياد العلمي، والتربية الحديثة المستوردة والتي تهدف إلى تجريدنا من هويتنا وقيمنا. علينا أن نشكل أبناءنا ونكون عقليتهم لتصبح عقلية علمية إسلامية تمكنهم من النظر إلى الكون وما وراءه وإلى الحياة وما بعدها بالمنظار الإسلامي وعند ذلك يستطيعون رؤية الحقائق العلوية الغيبية المعنوية والفلسفة المادية. وكلما تشكلت عندهم مثل هذه العقلية العلمية وازدادت نموا إلا وازدادت معرفتهم بالله ورسخت عقيدتهم وقوي إيمانهم فسهل عليهم بذل كل غال ونفيس من أجلها ومن أجل أمتهم ووطنهم. لكن وللأسف الشديد أن جامعاتنا وكلياتنا لا تكون العقلية العلمية المؤمنة لدى المتعلمين ورجال العلم، ولذلك نراهم لا يزدادون إلا بعدا عن الله كلما ازدادوا علما ونرى أكثرهم ضعاف إيمان أو فاقديه، على أعينهم منظار أسود مادي يجعل صاحبه لا يرى الأدلة الإلهية لا في السموات ولا في الأرض ولا حتى في نفسه. فرؤية القلب أكثر وضوحا من رؤية العقل {إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}لأننا إذا نحن أهملنا تربية القلب صدأ وران عليه ما يفعله من موبقات فلا يعكس الحقائق وهذا ما يسمى بعمي القلوب. فطهارة القلب وبعدها عن الرذائل والمفاسد تحافظ على الصحة وسلامتها وتجنب الأفكار القذرة والنيات السيئة ترفع من القدرات العقلية وفعاليتها ولقد قال أحد العلماء الذين شاركوا في المؤتمر العلمي الدولي المنعقد في بلجيكا عام 1928{ولكي نكفل لذواتنا جهازا عصبيا صحيحا وجسما معافى يجب أن نروض عقولنا على الأفكار الصالحة البريئة من الآثام لأن الأفكار الشريرة الدنيئة تضعف العقل وتفسده وتجره إلى الجنون}. علينا أن نكون لقمانيين في تربيتنا فلا إفراط ولا تفريط لا نهمل العقل ولا القلب وهذا هو سر حقيقة الإنسان وكنهه الذي يمكننا من التحكم فيه وقيادته. إن سر تربية الإنسان وقيادته تكمن في إدخال عقيدة قوية راسخة في قلبه وعقله يؤمن بها ويتفاعل معها لأن العقيدة طاقة محركة وموجهة، بل قوة تجبر صاحبها على السير في الطريق الذي آمن به مهما كلفه ذلك ولو كان المطلوب رأسه. إن التربية اللقمانية تربية شمولية تنظر إلى الإنسان نظرة بنيوية، لاحظ معي أن لقمان بعد أن أنهى تعليم ابنه العقيدة والعبادات انتقل إلى تعليمه الآداب الاجتماعية، كطريقة الكلام، والمشي في الطرقات والتواضع، مع تذكيره بأنعم الله التي سخرها له حتى يكون ذلك مدعاة للخضوع والحياء من الله فيتجنب المعاصي ويقبل على الطاعات. وبعد هذا نستطيع أن نقرر أن من مميزات التربية اللقمانية أنها تربية حكيمة ومميزة للشخصية الإسلامية المتكاملة التي تطرح نصب عينها الالتزام بالعلم والمسؤولية العلمية أمام الله، لأنه لا يكفي تكوين عقلية علمية متقدمة لنتقدم اجتماعيا. لابد أن نلتزم بما نتعلم في الحياة، إذ ما الفائدة من أن يصبح الإنسان طبيبا ولا يراعي قوانين الصحة فينهى الناس عن التدخين وهو يدخن أضعافهم وما الفائدة من أن نتعلم الأخلاق ثم لا نلتزم بها في حياتنا اليومية، بل نأتي المنكرات والفواحش. إذا لم نكون لدى تلامذتنا روح الالتزام بالعلم والأخلاق معا، فلا ينبغي أن نعلمهم، ولا ينبغي أن يتعلموا. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال {تعلموا، تعلموا فإذا علمتم فاعملوا}وقال أيضا {تعلموا العلم وانتفعوا به ولا تتعلموه لتتجملوا به}

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply